جبرا إبراهيم جبرا وكتابة الرواية الموسيقية في الأدب العربي

حجم الخط
1

تتعالق الموسيقى واللغة في أعمال جبرا بكثافة وهي تؤدي وظيفتين، الأولى تقنية، إذ تنبش الذاكرة وتقدّم للاسترجاعات. والثانية دلالية وتفسيرية للنصّ، فهي تساهم في كشف الثيمة التي يحملها النصّ، وتعطي معلومات عن الشخصيات.
امتاز جبرا بالتكثيف في توظيف الموسيقى في أعماله، بدءا من «صراخ في ليل طويل» التي كتبها بالإنكليزية عام 1946 (نشرت بالعربيّة عام 1955). ومجموعته القصصيّة «عرق وبدايات من حرف الياء» (1956) و«صيّادون في شارع ضيّق» التي نشرها بالإنكليزية عام 1960، و«السفينة» (1970) التي تمثّل ذروة التوظيف الموسيقي في الرواية العربية الحديثة. وهي نموذج طليعي ورياديّ ناجح لكتابة الرواية الموسيقيّة، في الأدب العربي الحديث، وكذلك «البحث عن وليد مسعود» (1978).
ما يميّز الموسيقى في أعمال جبرا بشكلٍ عام، وفي السفينة بشكلٍ خاص، أنّها تلمّح وتشير إلى الارتجاع الفنّي، فهي تُثير وتنبش الذكريات في ذهن الشخصية الساردة، وتأتي مصحوبة بالمشاهد والصّور البحريّة، من خلال الوصف: «كان القمر قد غاب فاسودّ امتداد اليمّ حولنا تحت بريق النجوم الكبار المتراصّة، وإيقاع الآلات في جوف الباخرة في ضرب وتير مسموع، وفي وسط الحقد العارم أمامي انقذفت لمى، لابسة عارية، لا أعلم، فهي في ثيابها، ولكنّني أرى كلّ جارحة في جسمها». إنّ الموسيقى المنبعثة، من جوف الباخرة، مهّدت لاسترجاع عصام السلمان، إحدى غرامياته، مع لُمى عبد الغنيّ، حين اصطحبها بسيارته، إلى حقل مهجور، خارج بغداد، وتعطلت بهما السيّارة، أي أنّ الموسيقى، في هذه القطعة، لها علاقة بالجنس، حيث تنبش المشاهد الجنسيّة في ذاكرة عصام السلمان. كما تقوم الموسيقى الصاخبة، بنبش ذاكرة وديع عسّاف، أثناء حفلة الرقص في السفينة، وجاكلين بين ذراعيه، واسترجاع حادثة مقتل صديقه فايز، ابن الرابعة عشرة، أثناء حرب عام 1948، مِن قبل الجنود اليهود، إضافة إلى استرجاع سيرة حياة السيد المسيح، وقد بلغت سعة الاسترجاع أربعا وعشرين صفحة: «عندما اشتدت الموسيقى إلحاحا ووحشيّة، ارتمت على صدري، كأنها تبغي أن تندسّ بين عظامي ذكرت فايز، ذكرت الصخور، ذكرت الموت والميلاد».
إنّ الموســـيقى التي وُظّفت في نهاية الاســترجاع، تفجّر ذاكــرة وديع عســّاف، وتدعه يسترجع ذكريات حزينة ومؤلمة، من طفولته في القدس. فالموسـيقى هي الرابط بين وديع عســـّاف ومدينته القدس، من خلالها يعود إلى الماضي البعيد الممتد عشرين عاما الى الوراء. فهي تعيده الى وعيه، ليســـرد ذكريات تفصيلية عن طفولته الجميلة، في القدس، قبل مقتل صديقه فايز. والموسيقى مقرونة عند وديع بتحقيق حلم العودة إلى الوطن، كما أنها تحمل تلميحات وإشارات للعودة، ففرنندو عاد إلى وطنه بصحبة الكمان، ووديع يحلم بأن يعود إلى وطنه ليؤلّف جوقة موسيقيّة تعزف ويرقص معها أهل وطنه. كما أنّه سيحمل معه إلى وطنه، أسطوانات أساطين الموسيقى الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين: «طبعا سأزوّد نفسي بألف اسطوانة موسيقيّة. فيفالفدي وباخ وتلمان وجوسكان دوبري، وبرامز، وسيبيلوس، وسترافنسكي، وموسيقى إلكترونية حديثة».
هذا التكثيف في ذكر أسماء أساطين الموسيقى الغربية، يشير إلى ثقافة وديع، الذي يمثّل جانبا من ثقافة المؤلّف جبرا الموسيقيّة وإلمامه في الموسيقى الغربيّة، إضافة إلى عشقه لها. ويمكن الاستنتاج هنا، أنّ توظيف الموسيقى في السفينة مقرون بالغربة وحلم العودة. فوديع عساف الفلسطيني، الذي يعيش في غربة قسرية، هو الأكثرعشقا ومعرفة بالموسيقى الغربية، وهو مدمن عليها، كي تنسيه غربته، فالموسيقى عدا كونها تقنية روائية، تساهم في إعطاء معلومات عن الشخصيات وكشف عوالمها الداخلية، فهي في السفينة، تؤدي وظيفة تخديريّة، إذ أنها تخفف آلام الغربة. ويدعم هذا الاستنتاج قول وديع، في نعته الموسيقى بالمخدّر «هذه حشيشتي وأنا من المدمنين عليها». إنّ التلميحات الموسيقية في السفينة، تساعد الشخصية في نقل الثيمة بشكلٍ غير مباشر، فحين هبّت العاصفة، وبعد أن خرج عصام من قمرة لمى، المريضة من دوار البحر وهيجانه، سمع لحنا عراقيا حزينا: «ومن أعماق العاصفة الحمقاء، جاءني في تلك اللحظة، لحن عراقيّ قديم، يحمل كلمات ما كنت أحسبني يوما سأذكرها ـ «ع القبر لو مرّيت أتحرّك عظام، بابا يا بابا..» ودفنت وجهي في الوسادة».
إنّ هذا اللحن الموسيقيّ، العراقيّ الحزين، ذا الكلمات العامية، يدل على المناخ النفسي والجسديّ لدى لمى، المريضة جسدا بسبب هبوب العاصفة البحرية، والتعبة نفسيا، من جراء حبّها الفاشل لعصام، الذي جاء التقاؤها به ـ وبتخطيطها ـ لينبش ذاكرتها في استعادة غرامياتها معه. هذه الموسيقى الحزينة، التي يحملها الموال العراقيّ، تشير إلى مأساة لمى، وهي تؤدّي دلالة واضحة توقّعها عصام، وأشار إليها بتقنية الاستباق قبل أن تحدث، وينتحر فالح: «أما السنيوريتا لمى فلن يكون لجمالها من نهاية إلا المأساة.. ولم يعلم أحد بالذي بيني وبين لمى». تأتي التلميحات الموسيقيّة أحيانا عن طريق ذكر اسم الأغنية أو بعض كلماتها باللغة الأصلية للأغنية.
في السفينة علاقة وثيقة بين الموسيقى والبحر والماء، ففي مشاهد كثيرة، يأتي وصف الموسيقى مقرونا بوصف البحر، قبل أن تغوص النفس في الاسترجاع الخارجيّ. فأثناء عبور السفينة مضيق كورينث اليونانيّ، تقوم الموسيقى، خاصة أنغام الناي والأوبو للموسيقار الألماني يوهان سباستيان باخ، بجعل وديع عسّاف يسترجع ذكرياته مع صديقه المتوفّى فايز، في احتفالات عيد الميلاد في القدس. والماء في السفينة عبارة عن موسيقى، والأمواج في نظر وديع عساف هي أنغام مقدسة: «وهذه الأمواج هي أنغام الفرح والأسى المرتبطة بالله والملائكة والقدّيسين».
وبما أنّ المياه والأمواج أنغام موسيقية، فهي تنبش الذاكرة، لتستحضر سيلا من الاسترجاعات. والأمواج التي اعترضت السفينة، الماخرة في البحر المتوسّط، أحدثت وقعا في حجرات نفس وديع وجعلته يقارن بينها وبين الريح التي هبّت على المياه التي تجمّعت في «بركة السلطان»، خارج سور القدس، حين كان طفلا، فالأمواج نبشت ذاكرة وديع، واستحضرت صورة من طفولته الجميلة، وهو يطلّ من صخرة، على بركة السلطان، حيث للمياه وقع وإيقاع موسيقيّ. إنَّ توظيف الموسيقى في أعمال جبرا يعود إلى تأثره بالكاتب الإيرلندي جيمس جويس، الذي امتاز باستخدام الموسيقى في أعماله، خاصة في مجموعته القصصيّة Dubliners (1914) التي تحوي خَمس عشرةَ قصة قصيرة، تقع أحداثها في مدينة دبلن.
مثلا في قصة إيفلاين، التي تحكي حياة فتاة تجاوزت التاسعة عشرة، تعيش مع والدها الذي بقي يعاملها بقسوة. رغم وفاة أمّها، تتعرف إلى شاب، يعمل بحّارا، ويُدعى فرانك، يقترح عليها الهرب معه إلى موطنه بوينس آيرس في الأرجنتين فتوافق، لكن في الليلة التي تسبق سفرها معه بالسفينة، إلى بوينس آيرس، تستمع إلى معزوفات أورغن في الشارع المجاور فتقـوم موسيقى الأورغن، بنبش ذاكرتها، فتتذكر وعدها لأمها، قبل وفاتها بليلة، أن تحافظ على شمل البيت. وحين ترافق فرانك إلى المحطة في نورث وول تقرّر التراجع عن إبحارها معه، والعودة إلى البيت، رغم مرارة عيشها وقسوة والدها تجاهها. إنّ الموسيقى أثرت على أحداث القصة، خاصة نهايتها المرسومة، فجعلت إيفلاين تتراجع عن سفرها مع فرانك. كما أنّ فرانك يحبّ الموسيقى، فقد كان يغنّي لها أغنية «الفتاة التي تحبّ بحّارا» وفي هذه الأغنية تلميح، إلى حبّ إيفلاين له، أي أن الموسيقى توظف لكشف مشاعر شخصية إيفلاين تجاه فرانك.
إنّ ظاهرة استخدام نصوص غنائيّة من أوبرا لها علاقة بالشخصيات، تتكرّر في معظم أعمال جويس. ففي قصّة كلاي تتكرّر على لسان ماريا أغنية بالف، التي ذكرت في إيفلاين وهي «حلمت أني أسكن في قاعات من الرخام» وهذه الأغنية نبشت ذكريات جو الذي ذرف الدموع لدى سماعها، وحنّ بشوق وتلهف إلى الماضي الجميل. وفي قصّــة المـوتى يوجد تكــثيف في توظـيف الموســـيقى، فغـريــتا وزوجها الأسـتاذ الجامعي غابرييل، يتوقـفان في جزء مظلــم من القاعة، بعد حفلة رأس السنة، وينصتان إلى غناء وعزف على البيانو لأغنيّة (حسـناء أوغريم) The Lass of Aughrim وبالذات الى مقطوعة «أوه، المطر يهطل على خصلات شعري المثقلة والنّدى يبلّل بشرتي، وحبيبي يتمدّد باردا».
إنّ الأغنية تنبش ذاكرة غريتا فتسترجع قصة حب عاشتها في صباها، مع فتى كان يغنيها دوما، لكنه مات وهو في السابعة عشرة من عمره، يُدعى مايكل فيوري. والمقطوعة من الأغنية التي تصف تساقط المطر على خصلات الشعر، وتمدّد الحبيب تلمّح بصورة مماثلة، كما تسرد القصة، إلى مايكل فيوري، حين جاء إلى حيث تسكن غريتا، في بيت جدتها، ووقف وراء الشباك، تحت المطر، قبيل وفاته بمدّة قصيرة. إنّ تكرار مقطع «دعوني أسقط كما يليق بجندي».
من أغنية «حسناء أوغاريم» خمس مرات، في قصّة الموتى، يحمل تلميحات تدلّ على موت مايكل فيوري، الحبيب السابق لغريتا، وكذلك موت العلاقة والحب مع زوجها غابرييل.

جبرا إبراهيم جبرا وكتابة الرواية الموسيقية في الأدب العربي

سمير حاجّ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ايمن رشيد - مصر:

    الموسيقي ام الفنون. و لايخلو فن راقي من الموسيقي، فالتناغم و الايقاع و الاحساس هم الاساس لكل عمل فني، شكرا علي التحليل الرائع.

إشترك في قائمتنا البريدية