جرادة المغربية بين شارع وقصر

في أقصى شرق الجغرافيا المغربية، وفي ما أصطلح عليه في المغرب غير النافع، وعند الحدود مع الجزائر، كان قدر أكثر من 40 الف مواطن مغربي أن تكون مدينة جرادة موطنا لهم. وكي يعرف الجميع معاناتهم نستعير أحصائية المندوبية السامية للتخطيط في المغرب التي تقول بأن نسبة البطالة بينهم بلغت 37 في المئة، 50 في المئة من السكان لا توجد لديهم مرافق صحية، 30 في المئة لا تتوفر في منازلهم حمامات، 20 في المئة ليس لديهم كهرباء، 30 في المئة غير مربوطة دورهم بشبكة الماء الصافي، 5.6 في المئة فقط هم القادرون على الوصول إلى الدراسة الجامعية. ولو تمعنا في هذه الأرقام لعرفنا حجم الألم والجور والاضطهاد والظلم الذي يعانيه هؤلاء البشر. بل كيف لم يخرجوا كل هذه العقود على السلطات كافرين بهذه الحياة التعيسة؟ مما يعني بأنهم صبروا إلى ما فيه الكفاية وكظموا فائضا كبيرا من الغضب. لكن القطرة التي أفاضت كأسهم كانت في نهاية ديسمبر – كانون الاول 2017، حين توفي شقيقان في أحد المناجم المهجورة ممن كانوا يبحثون عن رزقهم فيها. ففي العام 1932 اكتشف البلجيكيون أجود أنواع الفحم فيها واستمر استغلاله حتى بعد الاستقلال. لكن في تسعينيات القرن المنصرم تبين أن كلفة استخراجه كبيرة جدا، ولن تتحقق الجدوى الاقتصادية منه، فتم إغلاق المناجم في عام 1998. حينها بات آلاف العمال على قارعة الطريق بلا عمل وعوائلهم بدون مصدر رزق. ولأن السلطات لم تحاول إيجاد بديل اقتصادي يعيل هؤلاء، ولأن بعض المافيات المقربين من السلطات حصلوا على تراخيص حكومية باستخراجه لحسابهم، أضطر شباب المدينة للعمل بطرق بدائية جدا مما تسبب في وفاة اثنين آخرين. حينها طفح الكيل وخرج الناس في تظاهرات سلمية رافعين شعارات بمطالب اجتماعية. ورغم أن العديد من المسؤولين قد زاروا المدينة، وأعلنوا عن مجموعة من القرارات لإصلاح الوضع بصورة عاجلة، لكن سكان جرادة لم يلمسوا شيئا جديا من كل الوعود، بل إن السلطات جنحت للمقاربة الأمنية مؤخرا واعتقلت عددا من الشبان المتظاهرين. فتصاعد التوتر في المدينة وأعلن عن إضراب عام وتظاهرات كبرى في العاشر من مارس – آذار الجاري. وزجت السلطات بعناصر الدرك لمحاصرة التظاهرات، فحدث عنف وعنف مضاد خلّف عددا من الجرحى وأضرارا بالممتلكات العامة والخاصة .
ولعل المراقب يجد بأن ما حصل في جرادة لم يكن منفصلا عن ما حصل سابقا في الحسيمة وسيدي بوعلام والزاكورة، وبعض ضواحي المدن الكبرى. وهو إعلان صريح عن فشل النموذج التنموي في المغرب، والذي سبق وأعلن القصر انفراده بوضعه وتبنيه وأشرافه المباشر عليه بقيمة 20 مليار درهم، و50 الف مشروع على طول وعرض الخارطة المغربية، بما يحقق الفائدة لعشرة ملايين إنسان كما كان وعدهم. لكن الخطأ الكارثي هو الاستنساخ غير الواقعي لخطة تنموية لم تأخذ بنظر الاعتبار الواقع المغربي، مما أدى إلى إعلان القصر نفسه عن فشل المشروع، داعيا الحكومة إلى مراجعته، من دون أن يجد الناس طرفا ما يخضع للمحاسبة مما أفقد المواطنين الثقة بالسلطات التي تجابههم في كل أزمة بحجة أن التنمية درب طويل، وأن نتائجها لا يمكن أن يلمسوها بالسرعة التي يتوقعون فدفع المغاربة للتساؤل لماذا يكون زمن التنمية طويلا جدا عليهم، بينما تبين أثاره الايجابية بسرعة فائقة على المسؤولين؟ هنالك موشرات تبين أن العديد من الوزراء والأعوان قد تضاعفت ثرواتهم مرات عديدة. حتى القصر تضاعفت ثرواته أيضا. مما يدل على أن هنالك دينامية اقتصادية ما، لكن نتائجها الإيجابية تبقى محصورة في يد فئة محددة وليست لعامة الناس، وفي مناطق ما يسمى المغرب النافع حيث طنجة والرباط والدار البيضاء، وليس مدن المغرب العميق المهمشة. وهنا يضاف إلى العطب التنموي عطب ديمقراطي كبير في المؤسسات مما يولد حالة تفاوت كبرى، فتتركز الثروات في يد قلة قليلة من الفاعلين. كما أن السلطة تتركز هي الأخرى في قلة من الفاعلين أيضا. بينما تترك الأكثرية لمصير مجهول في ظل غياب قاس للخدمات الاجتماعية وفقدان البنى التحتية، والحرمان من مستلزمات الحياة الضرورية.
إن المراقب للاحتجاجات التي حصلت في بعض المدن المغربية يجد أن قاسمها المشترك حراك اجتماعي اقتصادي خال من أي شعارات سياسية، رغم شرعية القيام بذلك. لكنها خطوة ذكية من المحتجين كي لا تتهمهم السلطات بأنهم مدفوعون من قبل جهات سياسية. ومع ذلك اتجهت السلطات إلى المقاربة الأمنية. والملاحظة الجديرة بالانتباه هي أن من تزعموا هذه الاحتجاجات كانوا بعيدين تماما عن كل تنظيم حزبي أو نقابي، وأن المشاركين فيها شيوخ وشباب ونساء. كما أن الذي برز في هذه الاحتجاجات هو ثنائية الشارع والقصر بمعزل عن تدخل الحكومة. فالشارع هو الذي يقود مبادرة إسماع الصوت وأنين الألم، وواجب القصر أن يقوم بالتفاعل لأنه المخول بتدبير السياسات في البلد. فالفاعلون في الحكومة يشعرون بالولاء للقصر وليس الولاء للشعب الذي أنتخبهم. ويتملكهم الخوف من توجيه أي نقد للسياسات التي يتبناها القصر خاصة في المجال التنموي، لأنهم يعتقدون أن تأشير الخطأ عليها والنقد لها سيُعد نقدا للقصر. بينما الحل يجب أن يكون دائما متوافقا بين القصر والفاعلين السياسيين. وعكس ذلك تبقى الحكومة هشة وضعيفة، ويبقى القصر يتفاجأ بالحراكات الشعبية مدينة بعد أخرى. نعم لقد دخل المغرب في مسار ديمقراطي واعد في عام 2011، بعد إقرار الدستور الجديد وانتخابات حرة ونزيهة، وبرزت حكومة لديها مشاريع إصلاحية عديدة، لكن اللوبيات ومافيات السلطة أوقفت عجلة الإصلاح لأنها لا تريده أن يحصل.
إن الدول التي تحترم مواطنيها تسعى للعمل على مواجهة الاحتجاجات الشعبية بصورة استباقية، من خلال الاستثمار الأمثل في توفير الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الملائمة لجميع الطبقات الاجتماعية، بما لا يدع أية فرصة لحصول احتجاجات. لكننا في الوطن العربي دائما يكون الاستثمار في المجال الأمني لمواجهة الحراكات الشعبية لأنه منطق السلطات الفاشلة والعاجزة عن تقديم بديل مقنع، والذي يسعى للجم المطالب الاجتماعية بالقوة وبمنع تراخيص التظاهر. فهم يعتقدون بأن ذلك هو الطريق الأسلم والأرخص كي لا تكبر الاحتجاجات وتصبح ذات مطالب سياسية، وهو ما حصل في جرادة للأسف. بل خرجت بعض الأصوات تقول بأن الوقت غير مناسب لمثل هذه الاحتجاجات، بسبب الظروف السياسية التي يعيشها المغرب، حيث الصراع مع جبهة البوليساريو حول الصحراء، وهنالك أزمة مع الاتحاد الأوروبي بعد قرار محكمة العدل الأوروبية، بشأن منع الصيد البحري في الشريط الساحلي المقابل للصحراء. مضافا إلى ذلك غياب الملك لظروف صحية. وبذلك نكون أمام معادلة يريد البعض فرضها على الناس، وهي الصمت المطبق على كل الظروف الصعبة التي يواجهونها بانتظار أن تفيق السلطات وتنظر إلى حالهم، مقابل تحريم الصراخ من الألم إنْ كانت السلطات في حالة أزمة.
باحث سياسي عربي

جرادة المغربية بين شارع وقصر

د.مثنى عبدالله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول صوت من مراكش:

    تحية تقدير للكاتب السيد مثنى عبد الله على مقاله المميز حول حراك جرادة

    هذا الحراك للاسف لم يحظى بالهالة التي حظي بها حراك الحسيمة و السبب

    هو عدم ركوب الراكبين على الموج في خضمه فلا اعلام فيه غير العلم الوطني المغرب

    و لا نفخ في ذوات اهل جرادة او تباهيهم وتفاضل عن بقية المكونات للشعب المغربي

    فتحية حارة لهم و متمنياتي لهم بتحقيق مطالبهم عاجلا

    تحياتي

  2. يقول الكروي داود:

    المغرب كسائر دول العالم الثالث يهتم بالمدن وخاصة السياحية منها والإقتصادية والسياسية
    أما في الغرب فالإهتمام بالمناطق الريفية لا يقل عن الإهتمام بالمدن
    ولهذا رحل الكثير من سكان المدن للريف !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  3. يقول محسن عون/تونس:

    كلماتٌ نجومٌ على رُقَعِ ظِلٍّ. شكرا.

  4. يقول المغربي-المغرب:

    في منتصف الثمانينات واثناء مرحلة الدراسات العليا …وتحضير ما كانت تسمى حينها دكتوراه الدولة…وهي شهادة كانت تتطلب مدة طويلة لانجازها بعد الحصول على دكتوراه السلك الثالث التي اصبحت اليوم هي نهاية مطاف التحصيل الرسمي في فرنسا والمغرب…اتذكر كلمة قالها البروفيسور غيومان..وهو المشرف حينها على شعبة التاريخ بجامعة بوردو…مفاذها ان الطالب والباحث العربي يكتب ترفا ولا يمارس البحث العلمي كما ينبغي…قلت له وكيف ذلك…؟؟؟ فاجاب : ان الجلوس على كراسي المكتبات وتناول الكتب…والحصول الهين على المعلومة..لايعطيك ميزة البحث والتدقيق ما لم يكن ذلك مرفوقا بالنزول الى واقع الاحداث التاريخي والسياسي والفكري…وضرب مثلا بعدد من الاسماء مثل..انسيم ريكسيل..وعلي باي دومينغو ..وشارل دو فوكو….الذين تنكروا في شخصيات متعددة واستطاعوا الوصول الى اقصى مناطق المغرب والتعرف على ادق تفاصيل الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية…وهو ما جعل كتبهم تعكس الوضع المطلوب رصده بعمق لايمكن المزايدة عليه…، واعتقد شخصيا ان الترف الذي وصفه استاذي الذي لازالت ذكراه في عقلي …هو خاصية يرفض الكاتب العربي التنازل عنها لانها تترجم الرغبة في النظر من الاعلى …رغم ان ذلك يسقطنا في الخلط والتعميم..وعدم اعطاء الخصوصية الواقعية اعتبارها الفعلي….بل وهذا ما يدفعنا الى الوقوع في شرك قياسات تؤدي الى المزيد من الالتباس….فتصبح نفس المعطيات والاحكام قابلة للتطبيق على صنعاء…وبنغازي..وادلب…والخرطوم ..والقاهرة..وسيدي بوزيد…والحسيمة…الى درجة تتركب في ذهن القارىء صور نمطية عن مناطق تبعده عن حقيقتها بعد السماء عن الارض….، وجملة القول اتمنى ان ارى في القريب مقالات من عمق الواقع ولا تحاكي الواقع…وترصد العنصر الاقتصادي بدقة تتجاوز نشرات الحليمي…والسياسي بعمق يخرج من فذلكات بن عبد الله والساسة الفاشلين..والثقافي…بتمكن يكشف شوفينية من يرفضون الاخر وخاصة اذا كان ناطقا بلغة الضاد..واما عجن التفاصيل والمعطيات …والتسرع في اطلاق الاحكام …من قبيل نعت افضل نموذج تنموي عربي لحد الان بالفشل…فهو لن يقدم او يؤخر…علما بان الملك لم يتكلم عن فشل النموذج نفسه…ولكنه تكلم فشل عكسه اجتماعيا وهي مسؤولية الحكومات المتلاحقة…وشكرا.

  5. يقول عبدالله المغربي:

    الأحزاب السياسية والنقابات لم تعد تؤطر المواطنين كما في السابق. لانها أصبحت ضعيفة وغير مستقلة. ومنها من يحاول الركوب على موجة الإحتجاجات لغرض في نفس يعقوب…

  6. يقول ابن الوليد. المانيا.:

    د. مثنى، تحليلك دقيق، و كأنك مستقر في المغرب … ناذار ما ينشر مقالا كهذا على المغرب. بكل صراحة.
    .
    انا اثمن عاليا عملك هذا، و هو بلا شك كان متعبا من حيث جمع المعطيات الدقيقة و المعلومات بعيدا عن ما يستلك …
    .
    استسمح ههنا باظافة شيئ، هو ان اظعاف الاحزاب السياسية في المغرب لم يسبق ان كان بهذا الشكل. و هذا وضع جديد
    .
    لم يعشه المغرب من قبل بهذا الشكل. و بالتالي، لا يوجد وسائط بين القصر و الشارع. و هذا خطر داهم على استقرار المملكة.
    .
    الشارع لا يعترف لا بحكومة و لا باحزاب … و صار يخاطب القصر مباشرة … هذا لم يكن في حسبان بعض الساسة،
    .
    و لا اراهم يستشعرون الخطر. بامكان هذه المشاكل ان تحل بعدل ان اعطيت الفرصة لرجالات بمصداقية عالية عند الشعب
    .
    مثل السيد بنكيران … و ما ادراك من بنكيران … لكن اظن ان هناك مسائل داخلية و تدخلات خارجية قوية تحول دون هذا.

إشترك في قائمتنا البريدية