«جريمة» ثورة 25 يناير

حجم الخط
1

في قصة «الجريمة» للكاتب نجيب محفوظ يذهب ضابط شرطة متخفيا للبحث عن حقيقة العثور على جثة محترقة بدون ملامح واضحة. وفي المنطقة التي تلتزم الصمت حول الحدث، ينتهي الأمر بالضابط الغريب إلى التأكيد في حديثه مع الضابط المحلي على أنه سيكتب في تقريره «أن جميع القيم مهدرة ولكن الأمن مستتب».
 ومع حلول ذكرى ثورة 25 يناير، وفي ظل الجدل الدائم عنها، تبدو الثورة قريبة من الجثة في القصة. تشابه لا يتوقف عند حدود غياب الملامح عن الجثة وغياب التوصيف الواضح عن الثورة، ولكن يمتد لحال الوطن في التعامل مع الثورة، وحال المنطقة في التعامل مع الجثة، وفي الخلفية الجدل المستمر حول القيم المهدرة والأمن المستبب عندما يقصد به علاقات القوة الظاهرة والكراسي الحاكمة والسلطة المسيطرة، أما الأمن بمفهومه الإنساني الشامل فهو مهدر في الحالتين، لأن تحقق الأمن الشامل لا يحدث بدون احترام القيم.
القصة رغم صغر حجمها واختلاف ظروف نشرها عام 1973 عن اللحظة، تطرح الكثير من التساؤلات حول الواقع وتعيد للواجهة التساؤل المتكرر عن نجاح ثورة يناير من عدمه، باعتبار أن الثوابت القائمة في علاقات القوة السياسة والمجتمعية لم تتغير بشكل واضح عبر الوقت. كما يمثل الحديث عن القيم المهدرة فرصة للتساؤل عن واقع شعارات الثورة الكبرى الخاصة بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية وما يرتبط بها من قيم أخرى مفتقدة ومتآكلة في الواقع. وأن أكدت القصة والثورة – بشكل ما- على ارتباط التغيير بالكثير من العوامل، ومن أهمها البشر وتعاملهم مع الأحداث.
قد تختلف الآراء حول فكرة إهدار القيم بسبب اختلاف مكانة القيم وحق المواطن فيها واستحقاقه لها بوصفها جزءا من الحقوق الإنسانية المفترضة لدى كل طرف، ففي الواقع هناك من يتفق مع الضابط المحلي في القصة ويؤكد على أهمية الأمن وهامشية القيم. كما يختلف البعض في تقييم حالة استتباب الأمن مقارنة بالقصة، ولكن التقييم يرتبط بالأمن المقصود. فإن كان المقصود أمن علاقات القوة القائمة قبل الحدث فهو مستبب من وجهة نظر السلطة، ويعاد تأسيسه لصورة أقرب لما كان قبل الجثة/الثورة. وإن كان المقصود الأمن الشخصي فهو غير مستبب في الحالتين، ولكنه وفقا للخطاب الرسمي الممتد جزء من تضحية اللحظة من أجل المستقبل المنتظر.
في القصة نجد أن الجريمة التي لا يشارك أحد في كشف حقيقتها عبر التعرف على الضحية أو كشف الجاني، لا تختلف عن أشياء كثيرة حولنا.الجميع يسخر من واقع الجريمة والبعض يبكي على الضحية والبعض يتعاطف معها. ورغم إحساس الضابط الغريب بعدم مشاركة الناس في الحدث إلا أنه يشعر بالتواطؤ على إبقاء الأمور كما هي، وكأننا في مصر ما بعد الثورة، حيث تتضافر الكثير من الجهود على إعادة الأوضاع لما كان قبلها. وبهذا لا تختلف جهود نسيان الجثة والرغبة في إبقاء البركة الراكدة دون حراك عن جهود التجاوز عن الثورة والمطالبة بأن يتم تخصيص 25 يناير للاحتفال بعيد الشرطة فقط وكأن الثورة مجرد جثة بدون قيمة ولا تستحق الكشف عن الضحية ومحاسبة الجاني.
التواطؤ على التجاهل لا يخفي حقيقة أن الجثة كاشفة لمشكلات المدينة، وان الحياة قبل العثور عليها أو بعدها ما هي إلا خط متصل من الفساد العام، حيث يتستر الجميع على الجريمة. يتستر الأغنياء في الحي الغربي كما يتستر الفقراء في الحي الشرقين بدون ان يفهم الضابط الغريب العلاقة بينهما، خاصة في الحي الشرقي وحفاظه على الأوضاع القائمة كما في التعامل مع مبارك ونظامه فتباكي البعض من المنتفعين قد يمكن فهمه، ولكن البكاء عليه من الناس العادية التي تم تهميشها وتهميش مصالحها وحياتها خلال عقود حكمه يبدو غريبا للضابط، وفقا لتلك الرؤية، ولكنه متسق مع إهدار الكثير من القيم مثل الحياة نفسها التي أصبحت هامشية للبعض. في محاولة الضابط فهم التؤاطو على تجاهل الجثة من الاغنياء والفقراء بالنظر للعلاقة بين الطرفين يؤكد أن «أرزاق البعض بيد البعض الآخر» ولكنه يضيف أن «الغضب يتجمع في الأعماق وللصبر حدود». حديث يخاطب النظام والرهان على الصبر والقدرة على التحمل الذي لم يغب عن حديث الرئيس في دايفوس. الصبر والتحمل يبدو وكأنه وضع قابل للاستمرار، بدون حدود، رغم كل ما يحيط بالمواطن ويجعله وحده في مواجهة الحياة، وحتى عندما تنتهي حياته يجد من يتحدث عن عدم تقديره لمشاعر غيره. المطلوب في الواقع يتجاوز القصة، عليك أن تحيا في صمت وبدون غضب أو اعتراض، وأن تؤيد وتفوض، وأن تموت في صمت وربما تشكر كل زعيم وسلطة على أن الواقع قربك من لحظة النهاية بعد أن عشت قريبا منها طويلا في الحياة. يرى ضابط المنطقة أن واجبه هو المحافظة على الأمن، ويتعجب مما يمكن أن يحدث إن تحققت العدالة. ولكن الضابط الغريب يرى أن العدالة ستتحقق يوما، أما ما يكتبه في التقرير الرسمي فمجرد إقرار للحظة. خطاب لا يختلف عن كل سلطة تأتي وترحل، وهي تتحدث عن الإنجازات والأمن المستتب، أما العدالة الاجتماعية التي طالبت بها الثورة فهي ضمن غيرها من المطالب والقيم مهدرة. الأمن يحصل على أهمية واضحة، وفي ظل الحديث عن مستحقات الشركات الخاصة لتأمين بوابات الجامعات، يبدأ الحديث عن ضرورة إلغاء مجانية التعليم أو ما بقي منها وأن يتم التوقف عن  «دعم»  الطلاب في التعليم الجامعي، والإشادة بما سيتم توفيره من أموال للدولة. خطاب كالعادة يتجاوز العلاقة بين المواطن والسلطة، ويكرر عبثية الحديث بسعادة وفخر عن توفير يتم عبر زيادة الأعباء على المواطن، بدون تحسين ظروف حياته القائمة. ان توفر عبر خصخصة التعليم أو ما يشبهه لا يختلف عن التوفير في الموازنة عبر إلغاء دعم الطاقة أو غيرها من صور الدعم الأخرى، أما ان تحاسب على مواكب المسؤولين وضرورة السفريات التي تتم وإجراءات التأمين المتزايدة، رغم عدم تحقق الأمن فتلك قضية أخرى لأن علينا أن ننسى لحظة العثور على الجثة أو نتفق على تجاهل الثورة.
في ذكرى الثورة يمكن أن تشعر بأنك في مصر التي كانت منذ سنوات وأنت في مواجهة الكثير من الأحاديث التجميلية عن معاناة الحاكم وأسرته، وكيف يمكن أن يتصور البعض أن خطابا أو حديثا قادرا على تغيير واقع عاشه الملايين منذ سنوات قليلة لا يمكن نسيانها، لأن صور ضحايا العبارة والقطارات وغيرهما لا تنسى. كما أنها أهم من الخطاب المصطنع. خطاب تجميلي عن معاناة متصورة للحاكم، بدون أن يطرح السؤال المنطقب عن سبب تحمل تلك المعاناة المفترضة لتلك السنوات والتمسك بالاستمرار في الحكم؟ حديث متكرر عن إنكار ما هو واضح في ما يخص التوريث والحديث عن حق ابن الرئيس في الترشح مثله مثل أي مواطن مصري، بدون السؤال عن طبيعة المميزات التي ترتبط بالدور والمكانة في ظل غياب الديمقراطية والمحاسبة الحقيقة، بما يجعل الحاكم ومن يحيط به في مكانة لا تمس. حديث متكرر يقترب مما تكرر أيام حكم مبارك عن حرمان الرئيس من السير في الشارع وأكل الملوخية، بدون الحديث عن حقوق من لا يجد أو لا يستطيع لعدم وجود فرص الحياة نفسها.
في ذكرى الثورة وبعد سنوات وانتخابات ودساتير وسجن لحاكم وبراءة قريبة لحاكم، وسجن لشباب وبراءة قريبة لابني الرئيس الأسبق، يتفق الجميع على الإشادة بالمواطن لصبره وفقا للسلطة القائمة ولتعاطفه مع سلطة سابقة. تبدو مصر أقرب للقصة واللحظة أقرب لقول معدل منها، حيث كل القيم مهدرة ولكن أمن السلطة يستعاد. وسط كل هذا يبقى إيمان الضابط الغريب بضرورة تحقق العدالة والثورة بضرورة تحقق القيم، فرصة للتأكيد على أن اللحظة لا يجب أن تحكم على القادم. في مثل هذا الوقت قبل الثورة حين كانت البركة أكثر هدوءا والأمن مستببا بالفعل والقيم مهدرة أيضا، كانت الفرصة المتاحة للحديث عن القيم مختلفة عن اللحظة وأقل ضجيجا، ولكن الثورة حركت الكثير من المياه وزادت من حالة الدهشة والسؤال، وهو أمر لا يمكن إغفال قيمته. أما العدالة فستتحقق يوما عندما نتوقف عن الحديث عن الحاكم الزعيم والسلطة الكريمة والمواطن الضعيف في معادلة الحياة.

٭ كاتبة مصرية

عبير ياسين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابو وائل - الصين:

    أسوأ مصيبة ابتليت بها البلاد العربية والإسلامية هي حكم العسكر ولم تنجح أي منها في تحقيق العدالة الاجتماعية بل خلقت طواويس يجيدون التبختر والخيلاء وسفك الدماء هو مهنتهم ولا يجيدون غيرها ليقتاتوا علي جثث مواطني بلادهم .

إشترك في قائمتنا البريدية