أخشى أن يكون الأوان قد تأخر على الإصلاح الجذري للنظام المصري، فقد طالبنا الرئيس السيسي من أول يوم بما سميناه «مذبحة مماليك»، وذكرنا بما فعله محمد علي في بداية عهد النهوض الأول للدولة الحديثة، وبما فعله جمال عبد الناصر في أزمة مارس 1954.
وقلنا إن الوضع الآن أخطر، وإن الرئيس استلم دولة تحولت إلى خرائب مملوكية، وأن الخطوة الأولى في إعادة بناء الدولة هي إنهاء الوضع المملوكي، لكن الرئيس فضل التريث، وانتهى إلى التردد، وإلى خطوات للأمام مصحوبة بخطوات للخلف، وهو ما جعلنا في زمن «جمهورية المتاهة»، وازدحام جدول حياتنا اليومية بمتناقضات لا تنتهي.
وأصل القصة في التناقض المرئي الملموس، فقد جاء رئيس جديد ليحكم بالنظام القديم نفسه، رئيس لا يشك أحد في إخلاصه ووطنيته ونزاهته وعزمه على النهوض بالبلد، ونظام لا دين له ولا وطن غير الفساد وتدني الكفاءة، واعتياد الكذب على الناس، ودهس كرامات المواطنين، وإظهار الطاعة الصورية للرئيس الجديد، وإضمار التآمر المنهجي عليه، كما دلت عليه ألف حادثة وحادثة في السياسة والاقتصاد والأمن، لن تكون آخرها قضية تعذيب وقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني، التي جرى افتعال الغموض فيها، وتقديم روايات ثبت أن كلها كذب وفبركة، وفي سيناريو لا ينتهي سوى لنسف علاقات مصر النامية مع إيطاليا، وهي واحدة من أفضل منجزات الرئيس في العلاقات الدولية، وارتبطت بها اكتشافات كبرى لحقول الغاز المصرية في البحر المتوسط، تعمل شركة «إيني» الإيطالية على تنميتها وتطويرها وإعدادها للإنتاج. وقد نحب أن نذكركم، والذكرى تنفع المؤمنين، أن قضية مقتل المناضلة اليسارية شيماء الصباغ لم تنفك ألغازها إلا بعد تدخل الرئيس، كان وزير الداخلية وقتها هو اللواء محمد إبراهيم، وأنكرت الوزارة ـ مرارا وتكرارا ـ حمل أي ضابط لسلاح الخرطوش، بل واتهمت الدكتور زهدي الشامي ـ 77 سنة ـ بقتل شيماء، والرجل مصاب بداء القلب، فوق كونه قياديا بالحزب الذي كانت تنتمى إليه الشهيدة، ولا يعقل أن يؤذي زميلته الشابة، التي خرج معها في مسيرة رمزية إلى ميدان التحرير في الذكرى الرابعة لثورة يناير، وكانت الكذبة فوق ما يحتمل ضمير أي عاقل أو حتى أبله، ولم تظهر الحقيقة إلا حين أظهر الرئيس العين الحمراء، ووصف شيماء بأنها مثل ابنته، وأنه مصمم على القصاص لدمها، وأمر الرئيس من على منصة مسرح الجلاء وزير الداخلية وقتها بالنهوض واقفا، وطلب منه تعهدا صريحا بتسليم القاتل حتى لو كان ضابطا، وهو ما تم بعدها بساعات، وبدأت محاكمة الضابط، الذى تبين أنه كان مسلحا على عكس الادعاءات الأولى لوزارة الداخلية، ووصلت الدراما ذروتها بقرار الرئيس بعدها بإقالة اللواء محمد إبراهيم.
والقصة أكبر من مجرد إقالة وزير الداخلية، وبتهمة الإخفاء أو التقصير الشنيع، أو العجز الخلقي عن فك غموض حادثة بحجم مقتل جوليو ريجيني، التي تهدد بتدمير مصالح مصر العليا، وتلويث سمعتها الدولية، فقد جرت حوادث أفظع لمصريين لم يسأل عنهم أحد، ولم يقدم ضباط تعذيب وقتل للمحاكمة إلا بعد تدخل الرئيس في كل مرة، وهو ما يشي بخلل جوهره التناقض الفادح، فقد كانت وزارة الداخلية وجهاز أمن الدولة هما السلاح الرئيسي لحكم المخلوع مبارك ونجله، وجرى تهميش دور الجيش والجهات السيادية والرقابية الأخرى، وقد وجدت دوائر الداخلية القديمة فرصتها في الحرب ضد الإرهاب، وتعاطف الشعب الطبيعي الصادق مع شهداء يسقطون من رجال الشرطة، وكان التعاطف كفيلا بتعديل السلوك، والابتعاد عن غواية دهس الناس، لكن ما جرى كان مسيئا للرئيس السيسي بالذات، فقد جرى تجاوز الضرورات المفهومة للحرب ضد جماعات الإرهاب، وجرى توسيع دوائر الاشتباه بسبب العماء الأمني الموروث، واستسهال دفع الناس أفواجا بعد أفواج إلى غياهب السجون، والتحرك بنوازع ثارات قديمة مع جماعات من الشباب الثوري، كانت في غالبها ضد حكم مبارك ثم حكم الإخوان، وهو ما أدى لاكتظاظ السجون بمظالم لا نهاية لها، اعترف بها الرئيس، ووعد بإنهاء المظالم، وإخلاء سبيل المظلومين، وهو ما تم بعضه على دفعات محدودة الأعداد إلى الآن، لكن الشوط لايزال طويلا، والمطلوب إخلاء سبيل عشرات الآلاف وليس المئات ولا العشرات، وفي لقاء للرئيس مرة مع رهط من شباب الإعلاميين، كشف عن سر التباطؤ، وقال إن أجهزة أمنية تحذر من التوسع في قوائم الإفراج، وأنها تخشى أن يكون المفرج عنهم سببا في أعمال إرهابية جديدة، مع أن الغالبية الساحقة منهم لم يتهموا أصلا في عمل إرهابي من أي نوع، ومع أن استمرار المظالم هو الذي يفضي إلى اليأس ونوازع الانتقام، ويخلق بيئة أكثر خصوبة لتنمية مخاطر الإرهاب، وهو ما قد يلزم الرئيس بتصرف آخر، لا يتوقف فيه كثيرا عند تقارير الأجهزة، التي تريد تضخيم أدوارها وامتيازاتها، وعلى حساب شعبية الرئيس نفسه.
وليس الخلل والتناقض مقصورين بالطبع على قضية الأمن وأجهزته، فثمة تناقض أفدح في قضية الاقتصاد والتنمية، فلا يكاد يعمل مع الرئيس بصدق وكفاءة سوى هيئات الجيش، وكل إنجازات السيسي غير المنكورة تنتهي أطراف خيوطها إلى الجيش، الذي يدير ويشرف على ورشة عمل غير مسبوقة في تاريخ مصر، يعمل بها ما قد يزيد على المليونين من المهندسين والفنيين والعمال المدنيين، وفي بقعة ضوء باهر تبدو يتيمة، يحيطها ظلام تقاعس وإهمال وفساد وانحطاط كفاءة الجهاز الإداري للدولة، وسيطرة التواطؤ والمحسوبية والعشوائية على وزارات الحكومة، والرغبة في صناعة مآزق للرئيس نفسه، وعلى طريقة «القرارات الصعبة» التي بشر بها أو نفر رئيس الوزراء، والتي تحمل الفقراء والطبقات الوسطى عبء سد عجز الموازنة، وتسعى لإشعال غضب غالبية المصريين ضد الرئيس.
وقد نتصور أن يفعل الرئيس شيئا هو قادر عليه، قبل أن يفوت الأوان بلا عودة.
خطر التقسيم:
الأخطر من «داعش» في ليبيا، هو خطر التقسيم، والعودة إلى كيانات «برقة» و»فزان» و»طرابلس»، أي إلى ما كان الأمر عليه قبل توحيد ليبيا المعاصرة في خمسينيات القرن العشرين. صحيح أن خرائط ليبيا الاجتماعية تخلو من التمزق الطائفي، فالبلد كله من المسلمين، وعلى مذهب واحد هو «المالكية»، وإن كانت اللوحة المتجانسة لا تخلو من نعرات إثنية، كالبربر و»التبو»، ومحاولات فصل «الطوارق» عن نسيجهم العربي، وإن كان ذلك لا يقلل من متانة النسيج العربى الليبي، فالعروبة ليست عرقا، بل قومية ثقافية رسالية تشكلت تاريخيا، وتضم كل من يتحدث العربية، ويدين بالثقافة الإسلامية، حتى ولو لم يكن مسلما بالدين، ويقيم في الإقليم العربي جغرافيا.
عروبة ليبيا ووحدتها ـ إذن ـ مما لا يُشك في أصالته، لكن ليبيا تعرضت وتتعرض لمحنة تجريف مرعبة، فقد كان يفترض بالثورة أن تنقل ليبيا إلى مقام أفضل، وأن تجعل البلد الغني بتروليا جنة لناسه، لكن التدخلات الخارجية الفظة، وضعت البلد في الجحيم، وحطمت أمان دولته، ونشرت الميليشيات والعصابات في كل مكان، وحولت ليبيا إلى مدن وجهات منفصلة واقعيا، وإلى زواريب مسلحة، ثم إلى بيئة مهلكة، استدعت وحشية «داعش» إلى قلب الصورة، وبما جعل المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في حال من الفوضى، أمل المحبون لليبيا أن تنتهي مع «اتفاق الصخيرات»، وتشكيل حكومة وفاق، تضع قدما في طرابلس بغير ارتياح ولا طمأنينة كاملة، فالكلمة الأولى اليوم للسلاح، سواء كان السلاح الأجنبي الذي يعود للتدخل الاستعماري الخشن، أو السلاح المحلي الموزع على جماعات، ترفع كلها شعارات الثورة، وتتحدث عن إنقاذ وتوحيد ليبيا، لكنها تدين بالولاء لأشياء أخرى، وتفاقم النزعات الجهوية والقبلية والإثنية، بما قد يجعل الحكومة الموحدة المفترضة حبرا على ورق.
وأسلم طريق ـ في ما نظن ـ لاستعادة ليبيا الموحدة، هو بناء جيشها النظامي الواحد، وعلى أساس التجنيد الوطني العام، وليس بطريق دمج الميليشيات الذي انتهى بالعراق إلى الهلاك، فالجيش هو العمود الفقري للدولة الوطنية في عالمنا العربي، وفي غياب الدولة القوية، فلا قيمة لكلام كثير عن ديمقراطية تذهب مع الريح.
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
لقد قال المعلقون ما أردت قوله وأضم صوتي الى صوت الاخ كريم من فرنسا بالتساؤل؟؟؟؟؟؟؟؟؟!!!!!!!!؟