المُصادرة التي نستأنس بها في هذه المقاربة أنّ لكلّ عصر أدبيّ أو فنّي ملامحه المتميّزة، بحيث يلوح بناء قائما بنفسه؛ منطلقه عنصر ما مركزيّ فاعل، أو جملة تأثّرات تتعلّق بـ»استجابة القارئ» وما استقرّ في مشاعره ووعيه، أو بـ»جماليّة التلقّي» عامّة.
ولكنّ الأعمال الفرديّة يظلّ لها شأن، وبعضها يمكن أن نعتبره نواة العصر أو محرّكه. ومثلما يقول الاسباني كارلوس يوسونيو فإنّ الفارق بين عصر وآخر يكمن في الدرجة التي تظهر فيها هذه الفرديّة. أو تلك. وهذا العنصر لا يمكن أن يسِم عصرا من العصور إلّا داخل نظام ما أو بنية ما، فالرومانسيّة مثلا أو الرمزيّة أو التصويريّة لا تتمثّل في جماع سماتها، وإنّما في طبيعة العلاقة بين تلك السمات. وقد تقوى سمة ويكون لها أثر بنيويّ في مجمل السمات الأخرى. ولئن كان من الصعب في مقاربة كهذه أن نتميّز السمات الدقيقة أو الظلال الخفيّة بين أطوار الشعر العربي منذ الخمسينيات خاصّة، بسبب من تداخل بعضها في بعض، فإنّ هناك اليوم نمطًا من «الشعر» ينتشر في سائر البلاد العربيّة؛ لا يشدّه نسق أيديولوجي مخصوص، وأكثره يزاوج بين الصور المجازيّة القريبة والجمل الإشارية؛ ويتمثّل هواجس الذات وحالاتها الوجدانيّة وإحساسها بالعجز والصدع والخواء، في غنائيّة تحتفي بالأشياء والتفاصيل الصغيرة. وربّما راهن بعضه على الأشكال الحديثة، لكن من دون أن يستوعب مكوّناتها وتحوّلاتها؛ أو يقف على منحاها الانقلابي والنقلة النوعيّة التي يحدثها في بنية الخطاب الشعري. غير أن الظاهرة التي تستوقف الباحث في الشعر العربي الحديث عامّة هي ظاهرة هذه النصوص التي تُصنّف على أنّها «قصيدة نثر» أو «شعر حرّ» وهي «جمهوريّة العرب الشعريّة» بامتياز. وقد ذاع أمرها، على نحو يستدعي الفحص والمدارسة، ومراجعة مشروعيّة بعضها الذي ينتشر باسم الشعر، ويغري بالتسلّق على جذوعه؛ وهي التي تعوزها أبسط أدوات الشعر: الكلمة والإيقاع.
على أنّه من الضرورة، قبل فحص هذه الظاهرة أن نشير إلى ذلك التمييز الدقيق الذي تنبّه إليه الدراسات الحديثة، بين الشعر من حيث هو نمط للكتابة، والشعر من حيث هو صفة للكلام ورشْح عنه، أو بين الشعر والشعريّة، أو بينما يمكن أن نسمّيه اصطلاح الشعر، ومطلق الشعر. فالشعر إمكان من إمكانات إجراء الكلام، في هيئة مخصوصة، في حين أنّ مطلق الشعر، هو كلّ كتابة تنأى عن التقرير وطلب الإفادة وتسعى إلى التصوير والتخييل، أو هو كلّ كتابة تثير القلق والاضطراب في دلالات اللغة، وتجنح إلى مجافاة الصواب والترامي إلى بعيد الحدود وقصيّ الغايات؛ حتى لو أفضى الأمر إلى الاستهانة بما أقرّه العرف اللغوي واصطلح عليه.
كان لابد من هذه الإشارة حتى تتوضّح مناقشتنا لهذه الظاهرة، فليس المقصود كلّ هذه النصوص الخارجة على الأوزان الموروثة، على الرغم ممّا يثيره إلحاقها بالشعر؛ أعني مشكل الأجناس الأدبيّة، وإن كان هذا المشكل قد يصبح ثانويّا أمام مشكل أدبيّة الأجناس، كما تبيّن الدراسات الحديثة.
إنّ نصوص النفري المنثورة ونصوص محمد الماغوط شعرٌ؛ وإن لم ينتظمها وزن أو قافية، فهي تتوفر على ضرب من الإيقاع، هو ليس «نقلة على النغم في أزمنة محدودة المقادير والنسب»، كما هو الشأن في القصيد «الخليلي»، وإنّما هو تناسق بين عناصر الجملة، وتناسب بين أجزاء الصورة. هو إيقاع مراوغ يخترق سطح النصّ إلى قاعة، حيث تشتجر حركته وتفترق، تشتدّ وتلين، حيث يصبح تكميلا للمعنى، وتعزيزا له، ونبضا لغويّا يدور حول نفسه، مجدّدا إيّاها في كلّ مرّة. واللغة هي الّتي تخلق هذا الإيقاع وتنهض بنفسها دليلا عليه، وليس الإيقاع الذي يرتّب اللغة على نظم موزون؛ قد يكون له تصميمه المجرّد في ذهن الشاعر. وقد أدرك النقاد والبلاغيّون العرب قديما أنّه «ليس بالوزن ما كان الكلام كلاما، ولا به كان كلام خيرًا من كلام» كما يقول عبد القاهر الجرجاني. أمّا الظاهرة موضوع حديثنا، فلا ندري كيف نصنّفها: أهي نثر مرسل أم هي «شعرٌ محلول»؟ إذا استعرنا لها عبارة ابن طباطبا في حديثه عن الرسائل، هي نصوص تهجس اللحن، من دون أن تقبض عليه، وقد يحلّ بعضها السجع محل القافية، وقد يقع في الظنّ أنّها اعْتاضت بذلك عن الوزن، أو أضفت من دون وجه حقّ، على الكلام المرجرج إيقاعا أو موسيقى.. ومن عجب أنّ بعضهم لا يميّز بين السجع والقافية. وعسى أن نعود إلى بعض هذه النصوص المسجّعة التي لا يصلها بالشعر سوى خيطٍ ضئيلٍ لا يتعدّى صورا قليلة؛ ترهص بإمكانات اللغة، وتومض هنا أو هناك، من دون أن تتمدّد إشاراتها ومدلولاتها بسببٍ من الأسجاع التي تكبّلها. والسجع، في كلام العرب، موطنه النثر أساسا، وإن كان يتخلّل الشعر أحيانا، كما هو الشأن في بعض قصائد أبي تمام والمتنبي، فيعزز الإيقاع الشعري من حيث هو تفاعل بين الكمّ والنبر، ويوحّد بين النبر الشعري والنبر اللغوي في مستوى الوحدة الإيقاعيّة.
ومهما يكن من أمر فإنّ السجع لا يمكن أن يسد مسدّ القافية. وللقافية شأن في تحقيق التناسب والتناغم المطلوبين في الشعر «الموزون». يقول شكري عياد إنّ القافية تنطوي على حركتين متناقضتين تقوم عليهما ميزتها الموسيقية هما: التكرّر والوقف، وتوالي القوافي يعني تساوقا لمحطّات صوتيّة متشابهة عبر أزمنة متساوية. وكأنّ القافية ثبات بتكرّر، وفي هذا تكمن وظيفتها الإيقاعيّة المنظمة وهي التي تعيد الإيقاع الأصلي للوزن باعتباره جزءا من الشكل الشعري.
وثمّة رأي طريف لشوبنهاور في الوزن؛ فهو يرى فيه وسيلة لحصر انتباه القارئ بحيث يتتبع العمل الفنّي عن طيب خاطر، ويبعث فيه تصديقا أعمى لما يقرأ، وذلك بطريقة قبلية سابقة على كل حكم. ولئن اقتصرنا في هذه المقاربة على الإشارة إلى الإيقاع، فلأنّ الإيقاع من حيث هو تركيبة صوتية ـ دلاليّة، يظلّ العنصر الأهمّ الغائب في كثير من هذه النصوص «المنثورة» أو المسجّعة التي يلحقها البعض، عن جهل، بقصيدة النثر، في حين هي ليست في أفضل الأحوال سوى شعر مترجم إلى النثر. وترجمة القصيدة إلى النثر، لا تحتفظ بأيّ قدر من الشعر؛ فللمعنى الشعري بنيته المتميّزة التي تتغير، وتفقد شكلها، عندما تنتقل من صيغتها الشعرية إلى صيغة نثريّة. وما نخال الاحتيال لهذه الصيغة النثريّة بالسجع أو بالتلاعب اللفظي والصورة المغربة والطرافة المستجلبة باسم عدول لا تنتظمه قواعد تكوينيّة وتنظيميّة، من شأنه أن يزحزح بنيتها أو يضفي عليها سمات الشعر.
يعنينا في هذه «الجمهوريّة» أن نسعى إلى تجنيس هذا النصّ أو ذاك بهُويّة «الشعر» أو بهُويّة «النثر»، ويعنينا أن نحدّه بحدّ «الخاطرة»، أو أن نقيسه بمقاييس أنماط أخرى. ويعنينا أكثر أن نقبل عليه نصّا تتولى فيه اللغة العربيّة تخييل نفسها في ولع بالذات، وربّما في تألّه الفرد على قوّته وضعفه. و»التدلال» (خلق الدلالة) ليس واحدا، وإنّما كلّ لسان يجريه مجرى مخصوصا. والرمز ليس لاحقا على الوجود وإنّما يتنزّل في الصميم منه، أنه «بؤرة الأنطولوجيا». ولكن اللغة، إذ تقول وجودنا فهي تقول وجودها الخاصّ حصرا إذ لا هُويّة لنا خارج فضائها، وهي مقامنا أنّى حللنا، وهي السفر والرحلة.
إنّ التجربة الشعريّة لا تنفصل عن تجربة الحياة، وما نعدّه شعرا، إنّما هو تحويل شكل لغويّ إلى شكل من أشكال الحياة، وتحويل شكل من أشكال الحياة إلى شكل لغوي، كما بقول هنري ميشونيك عن حقّ وهو يتساءل على نحو ما نتساءل: ماذا تعني كلمة شعر؟ إنّ الأمر يجري بمنأى عن كلّ التعريفات الثقافيّة والشكليّة التي تقوم على الخلط بين الشعر وأبيات الشعر. مردّ البيت وزن، والوزن تقنين شكليّ. وليس ثمّة أكثر سوءا من الخلط بين الأبيات والشعر. لقد كان فيكتور هوغو يعرف هذا، وهو القائل: «لا أحبّ بيت الشعر، إنّما أحبّ الشعر»، وقبله قال ذلك أرسطو أيضا.
النصوص السرديّة العظيمة، هي كذلك، لأنّها كما يقول ميشونيك، تحمل قصيدا في مطاويها. والآثار الفلسفيّة العظيمة يجري فيها القصيد هي أيضا. وهذه وغيرها ممّا نعود إليه بتفصيل أكثر في نصوص لشعراء عرب معاصرين مثل جوزيف عيساوي من لبنان وعلي نوير من العراق، تستمدّ إيقاعها، أي تنظيم حركة الكلام الذي تؤدّيه ذات تقوم بتوزيع لغة القصيد، من إيقاعات العربيّة وليس من العروض.
شاعر تونسي
منصف الوهايبي
*
الأخ منصف،
فيما يخص الرمز وعلاقته بالوجود، من طرفٍ، جاء في هذا المقال دون ذكرٍ لشهادة إرنست كاسيرر ما يلي:
«والرمز ليس لاحقًا على الوجود وإنّما يتنزّل في الصميم منه، أنه بؤرة الأنطولوجيا [دون ذكر للشهادة المعنية]. ولكن اللغة، إذ تقول وجودنا فهي تقول وجودها الخاصّ حصرًا، إذ لا هُويّة لنا خارج فضائها، وهي مقامنا أنّى حللنا، وهي السفر والرحلة».
ومع ذكرٍ لشهادة إرنست كاسيرر نفسه، جاء أيضًا في مقالك السابق «في اللغة العاشقة» (ق ع، 5 تشرين الثاني 2015) ما يلي:
«والرمز ليس لاحقًا على الوجود وأنما يتنزّل في الصميم منه. إنّه بؤرة الأنطولوجيا طبقا لشهادة إرنست كاسيرر. ولكنّ اللغة، إذ تقول وجودنا فهي تقول وجودها الخاص حصرًا، إذ لا هويّة لنا خارج فضائها. وهي مقامنا أنّى حللنا، وهي السفر والرحيل».
وفيما يخص عبارة «بؤرة الأنطولوجيا»، من طرفٍ آخر، طرحتُ تساؤلين كنتُ أتمنى أن ألقى منك ردًّا عليهما بوسيلةٍ أو بأُخرى. وها أنذا أعيدُ طرحَ هذين التساؤلين، هنا، علَّني أحظى منكَ بهذا الرد:
أولاً، الشق الثاني من التصريح الذي يسبق هذه العبارة «[…] وإنما يتنزَّل في الصميم منه» ليس نفيًا للشق الأول منه «والرمز ليس لاحقًا على الوجود […]»، بل إثباتًا له في الحقيقة. إذا كان الرمز يتنزَّل في الصميم من الوجود، كما تقول، فلا بدَّ للوجود من أن يوجدَ أولاً لكي يتسنَّى للرمز أن يتنزَّل في صميمه. ألا ترى، هنا، بأنك أقررتَ أسبقية الوجود على الرمز، وليس العكس تمامًا؟
ثانيًا، حتى لو افترضنا جدلاً أن الرمز ليس لاحقًا على الوجود (أي الوجود اللالغوي)، ماذا تقول عن أسبقية الرمز ذاته على الوجود اللغوي، على أقل تقدير، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك الرسوم الرمزية، أو حتى تلك الرسوم «التجريدية»، التي خلَّفتها أيادٍ تنتمي إلى أشباهِ إنسان ما قبل التاريخ (أو ما قبل اللغة)، والتي تمَّ اكتشافها على جدرانِ كهوفٍ تُقدَّر أعمارها بملايين السنين؟
أخي منصف،
يبدو لي أن ما يكتبه الكاتب، في هذه الحالة، ليس هدفُه إقامةَ حوار فكري مفيد بينه وبين القارئ بنحو أو بآخر، بل هدفُه النشرَ من أجل النشر، وليس غير ذلك!
المقال جيد وهو يثير قراءة أخرى للمدونّة الحديثة للشعر العربيّ لا بدّ من كثيرمن النقد و لا بد أيضا من كثير من التصويب حتى يهتدي الشاعر العربي إلى مفاتيح الشعر