جهات الشعر التي لا تنسدّ

حجم الخط
3

أعلن الصديق الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد أنّ موقع «جهة الشعر»، الذي أسسه وظلّ يشرف عليه ويترأس تحريره منذ عام 1996، سوف يتوقف عن البثّ «لأسباب تتعلق بعدم توفر الدعم المالي». هي خسارة أخرى جديدة «في مشهد الخسارات الأكبر» كما كتب إليّ وهو يبلغني الخبر، المحزن حقاً؛ الذي يعنيني بصفة شخصية أيضاً، لأنّ العزيز قاسم كان قد شرّفني بمهامّ تحرير الأقسام الأجنبية في الموقع، وتلك الإنكليزية والفرنسية بصفة خاصة، طيلة سنوات.
وكنتُ، كما ذهب بي الرأي في مناسبة الاحتفال بالذكرى العاشرة لانطلاق الموقع، أفضّــل إخراج تسمية «جهة الشعر» من صيغة المفرد إلى صيغة الجمع؛ متكئاً في هذا على ذريعة أولى شكلية هي العنوان الإلكتروني للموقع، أي jehat.com، الذي يتيح ــ صوتياً، على الأقلّ ــ نطق حرف التاء، وافتراض جمع المؤنث. كأنّ قاسم كان يستبطن هذه الحال مسبقاً، وغريزياً؛ أو كأنّ عقله الباطن انحاز إلى نوع من الالتباس الإيجابي، إذا جاز تعبير كهذا، فرجّح صيغة هي منزلة ليست بين منزلتين، بل تضمّ المنزلتين: جهة، وجهات!
غير أنّ ذرائعي الجوهرية كانت أقلّ شكلانية وأكثر وجاهة، كما أرجو وأعتقد. فهذا الموقع الفريد، الذي بدا نسيج وحده (بمعنى انفراد المفرد المنفرد، حقاً، وهنا تحديداً!) في السبق والريادة والمفهوم والتصميم والخدمة والديمومة والتحديث والتطوير والتبدّل؛ لم يكن جهة واحدة في واقع الأمر، بل جهات متعددة ومتغايرة متقاطعة. وللمرء أن يبدأ من شكل القصيدة، حيث في وسع المتصفح أن يقرأ نماذج من الأشكال الثلاثة التي يُكتب بها الشعر العربي اليوم: قصيدة العمود، وقصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر. وإذا كانت الغلبة واضحة للشكل الأخير، من حيث الكمّ والنسبة العددية في الأقلّ، فليس هذا لأنّ تحرير «الجهة» كان يميل إليه دون العمود والتفعيلة، بل ببساطة لأنّ قصيدة النثر كانت وتظلّ الشكل الغالب في الكتابة الشعرية العربية اليوم.
للمرء أن ينتقل، بعدئذ، إلى أجيال الشعر بمختلف مستويات ومعاني «الجيل»: السنّ، في تصنيفاته الشائعة (شباب، كهول، شيوخ…)؛ والانتماء إلى حقبة زمنية أو تاريخية محددة، أو طور مميّز جمالياً أو فكرياً أو سياسياً؛ وصولاً إلى انخراط الشاعرة/ الشاعر في تيّار جمالي أو أسلوبي يسمح، على نحو جزئي، بتحقيب خاصّ لا يتكيء بالضرورة على معطيات السنّ والزمن. و«الجهة» في هذا لم تكن متعددة وتعددية ومفتوحة على أربع رياح الأرض، وكلّ أطياف الكتابة الشعرية، فحسب؛ بل كانت، بحقّ، جمهورية ديمقراطية من طراز فريد!
أمّا اللغة الشعرية، بمعنى جنسية اللغة وليس خصوصيتها التعبيرية أو الدلالية أو البلاغية عند هذه الشاعرة أو ذاك الشاعر، فإنّ «الجهة» لم تستضف شعراً بالعربية فقط، بل باللغات الفارسية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية والهولندية. ويخطيء، بل يتعسّف حقاً، من يظنّ أنّ اعتماد هذه اللغات كان تفصيلاً شكلياً لا يتجاوز زخرفة الموقع، أو ادعاء العالمية، أو دغدغة بعض اللغات الأوروبية، أو تكلّف الانتماء إلى العولمة. لست أعرف أسباباً أخرى يمكن أن يسوقها المرتاب ــ عن حسن نيّة، غالباً ــ في أمر اعتماد «الجهة» ستّ لغات أخرى غير العربية؛ وأعرف، في المقابل، عشرات الأسباب التي لم تكن تبرّر هذا التدبير الخاصّ في تصميم «الجهة»، فحسب؛ بل تجعل منه سمة/ وساماً، واجباً، وامتيازاً في آن معاً.
ولكي أختتم الحديث عن تعدّد الجهات في مضمار الشعر كنوع كتابي، أتوقف عند ميّزة جوهرية لعلها لم تلفت انظار البعض بصفة محددة، أو لم يمنحها الكثيرون ما تستحقّ من قيمة؛ وأعني القسم الخاصّ الذي أفردته «الجهة» للشعراء بأصواتهم، أو لإلقاء الشعر، وللجانب الصوتي ـ الأدائي من حياة القصيدة بين الشاعر والقارئ المستمع. وفي يقيني، وهذا رأي سبق لي أن شدّدت عليه مراراً؛ أنه إذا كانت معادلة الإبداع الإنساني تحتاج عموماً إلى طرفَين اثنين هما المرسِل والمستقبِل، فإنّ معادلة الشعر (على نقيض من الرواية مثلاً) تحتاج إلى ثلاثة أطراف: الشاعر، والقارئ، والمستمع.
لكنّ «الجهة» كانت جهات خارج نطاق الشعر أيضاً، كما في الأبواب المختلفة التي أفردتها للنثر الفنّي، غير قصيدة النثر بالطبع، وللنقد الأدبي والتأمّل الوجداني والنظري. وفي حدود ما أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، لست أعرف موقعاً عربياً استضاف هذا العدد الهائل من الكتابات المحدثة، النقدية والنظرية والشهادات الشعرية والبيانات. ولعلّ موقع «الورّاق» كان نظير «جهة الشعر» الوحيد، ولكن في احتضان التراث وليس الحديث أو المعاصر. ثمة، كذلك، ذلك الباب السخيّ الذي أفردته «الجهة» للتشكيل، والآخر للتصوير الضوئي. صحيح أنّ الوشائج بين الفنون قائمة أصلاً، خصوصاً بين الشعر والتشكيل والموسيقى، إلا أنّ هذه القرابة تحتاج دائماً إلى تظهير وتمثيل.
هل انسدّت جهات الشعر بتوقف «الجهة»؟ كلا، بالطبع، رغم أنّ الخسارة فادحة ومؤلمة. ثمة مشاريع شتى طموحة، قائمة بالفعل أو في أطوار التحقق، تستهدف الإبقاء على جذوة الشعر العربي متقدة في النفوس، ومدّ تلك الأمثولة الجميلة ــ أنّ الشعر ديوان العرب ــ بأسباب الإحياء والتجدد.

جهات الشعر التي لا تنسدّ

صبحي حديدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد:

    سبحان الله اليوم بالذات تذكرت مجلة الآداب .
    للأسف أموال تصرف و تبذر في المكائد و مشاريع الوهم الثقافي، يعني أصباغ و رتوش بلا جوهر و لا عمق. و تظل المجهودات الجادة بلا وتمويل فلا عزاء لها.

  2. يقول في قدسناالعربي خيررسالة تبيانهابغنى عن التعريف هي شاطيءالأمن الجميل لأمتي و القدس نعم الصدرللملهوف.أبوتاج الحكمة:

    جهات الشعر لن يخبوسناها
    تغذي العبقرية محتواها
    وكيف وإن للشعراء قلب
    رقيق الحس يسمو في سماها
    فطب:(صبحي الحديدي) المعاني
    ستبقي للقصائد مبتغاها
    ويبقى الشعر ديوانالقومي
    بأسباب التجددقد رعاها
    ابوتاج الحكمة
    شاعرسوري مقيم في باريس

  3. يقول نهى عبد الكريم - أمريكا:

    الثقافة أول القطاعات المتضررة في معادلة الميزانيات لا سيما في الدول العربية اودول العالم الثالث النبي ينصب اهتمامها على العسكرتاريا والقمع . فيما الثقافة والعلوم يكون لها النصيب الأقل فضلا عن أن الوعي العربي لم يرتق بعد إلى مستوى يجعل من المواطن يدعم هكذا مبادرات ومنابر ثقافية كالموقع الإلكتروني المذكور في سياق المقالة

إشترك في قائمتنا البريدية