خلال السنة الجامعية 1982 ألقى فوكو سلسلة من الدروس حول موضوع: «هرمينوطيقا الذات»، سبقتها سلسلة أخرى تحت عنوان «الاهتمام بالذات» سنة 1981 وقد شكلت هذه الأخيرة الجزء الثالث من كتابه «تاريخ الجنسانية».
في هذا الدرس المطول «هرمينوطيقا الذات» وضح فوكو التحول الذي عرفته قضية الاهتمام بالنفس/الذات، أو ما يسمى بثقافة النفس، ومن أجل ذلك قام بتحليل مجموعة من نصوص الفلاسفة اليونان والرومان خلال القرنين الأول والثاني بعد الميلاد. وقد كان منطلق هذا الدرس هو محاورة ألقيبياديس لأفلاطون ولعبارتي «إعرف نفسك» و»اهتم بنفسك»، ولمتابعة هذه التحولات قام فوكو كذلك بقراءة نصوص المدارس الفلسفية اليونانية، خاصة عند الرواقين والأبيقوريين والكلبيبن.
إن هذا العمل الذي قام به ميشال فوكو يعد منعطفا جديدا في فلسفته، فمن خلاله تابع كيفية تشكل الذات الغربية، عبر التاريخ الثقافي والفلسفي لمجتمعات الغرب، باعتبارها ذاتا لا تخضع فقط لعمليات السيطرة، وإنما أيضا لتقنيات وفنون الاهتمام بالذات.
إن عبارة «إعرف نفسك» كانت مصدرا من مصادر ظهور الفلسفة اليونانية، في حين أن عبارة «اهتم بنفسك» ارتبطت بدخول الفلسفة اليونانية إلى المرحلة الهلينستية، التي تميزت بالانحطاط والتراجع، لكن فوكو بين من خلال هذه الدروس تزامن العبارتين، إلى أن جاءت الفلسفة الحديثة مع اللحظة الديكارتية التي أقصت عبارة «إهتم بنفسك»، وأسست المعرفة على عبارة «إعرف نفسك» ، وهذا الإقصاء هو مصدر النقد الذي وجهه فوكو للحداثة الغربية التي فصلت، كما يقول، بين البعد العلمي والروحي للإنسان. بالإضافة إلى موضوع الذات، الذي استغرق معظم الدروس المذكورة، يورد فوكو تصوره للفلسفة ووظيفتها باعتبارها شكلا من الفكر يحاول أن يحدد شروط وحدود بلوغ الحقيقة من خلال الذات.
إن قارئ هذه الدروس يجد نفسه أمام مؤلف ضخم يعالج قضايا فلسفية بالغة الأهمية، انطلاقا من إشكالية الذات، وهذا له دلالة مهمة في المشروع الفلسفي لميشال فوكو الذي كان يردد دائما بأنه ليس بفيلسوف وإنما هو مجرد مؤرخ.
من هذا المنطلق الذي شيده فوكو ترفض جوديث بيتلر في كتابها الشيق «الذات تصف نفسها»، ترجمة فلاح رحيم، موقف أدورنو من العنف الأخلاقي، الذي يتولد حسبه نتيجة خلل يصيب العلاقة ذات/منظومة قيم، حيث لا تتراجع منظومة القيم الحاضنة للذات عن ممارسة الإكراه والضغط حتى تخضع الذات لتعاليمها،»لا تقف الأنا بمعزل عن قالب مهيمن من المعايير الأخلاقية والأطر الخلقية المتصارعة. ويعد هذا القالب بمعنى مهم الشرط لنشوء الـ»أنا» أيضا، على الرغم من أن الـ «أنا» لا تتكون بسبب هذه المعايير. لا يمكن لنا أن نستنتج أن الـ «أنا» نتيجة لروح مسبقة أو أداة لها ببساطة، إنها ميدان لمعايير متصارعة أو متقاطعة. قد تبدأ الـ»أنا» وهي تقدم وصفا لنفسها من ذاتها، لكنها ستجد أن هذه الذات موجودة ضمنا في زمنية اجتماعية تتجاوز قدراتها على السرد، في الواقع، عندما تسعى الـ»أنا» لتقديم وصف لنفسها، وصف لابد أن يتضمن ظروف نشوئها الخاصة، فإن عليها بالضرورة أن تتخذ دور المنظر الاجتماعي»
ما يعاب على أدورنو حسب بيتلر أنه يجعل إمكانية تأسيس مفهوم الاعتراف صعب التحقق، نظرا لعدم تعيينه من يحق له أن يصير ذاتا، «علينا أن نسأل إن كانت الـ»أنا» التي يجب أن تقبل المعايير الخلقية قبولا حيا لا تكون هي نفسها محكومة بهذه المعايير، أي المعايير التي تؤسس قابلية الذات على الحياة. القول إن على الذات القدرة على امتلاك المعايير شيء، والقول بضرورة وجود معايير تهيئ مكانا للذات داخل الحقل الأنطولوجي شيء آخر مختلف. في الحالة الأولى تكون المعايير موجودة هناك، على مبعدة في الخارج، والمهمة هي العثور على طريقة لقبولها، التقاطها، وتأسيس علاقة حية معها. يكون الإطار الإبستيمولوجي مفترضا سلفا في هذا اللقاء الذي تواجه به الذات قواعد خلقية، ولا بد أن تجد طريقة للتعامل معها. ولكن هل نظر أدورنو في أن المعايير تقرر سلفا أيضا من يمكن له أن يصبح ذاتا ومن لا يمكن له ذلك؟ هل تأمل فاعلية المعايير في تكوين الذات نفسها، وفي تحديد الأسلوب الأنطولوجي الخاص بها وتأسيس موقع شرعي داخل مملكة الأنطولوجيا الاجتماعية؟». بفضل كتابات فوكو ستتمكن جوديث بيتلر من العثور على ما يتيح للذات وصف نفسها، لأن صاحب تاريخ الجنسانية تمكن من تجاوز فهم نيتشه الضيق لقصة تشكل الذات، بوصفها نتاج عقاب فحسب، إذ ركز فوكو على عملية الإبداع المنبجسة من جراء عملية التأثير والتأثر التي تتميز بها العلاقة ذات/ منظومة قيم أخلاقية.
لا يمكن إلا لجاحد أن ينكر ارتباط الاعتراف بالذات والمعايير القيمية، لكن الذات تساهم في إنتاج هذه المعايير وهذه القيم، من دون أن يعني ذلك قدرة الذات على توجيه القيم والمعايير الاجتماعية والتحكم فيها، على اعتبار أن السلطة التي تمارسها هذه الأخيرة على الذات هي التي تتسبب في العتمة التي تعوق عملية وصف الذات لنفسها، إن هذه العلاقة إبداع/كبح هي التي تتيح للذات الاستمرار في ممارسة النقد على ذاتها. وهذا ما زكته بيتلر بتأكيدها على أن»تشكل الذات نفسها في علاقة مع مجموعة من الشيفرات والإرشادات والقواعد، وهي تفعل ذلك بطرق لا تكتفي فقط بـ(أ) كشف حقيقة أن تأسيس الذات هو نوع من الصيرورة ولكنها (ب) تؤسس خلق الذات بوصفه جزءا من عملية أوسع هي النقد. لقد جادلت في مكان آخر، أن خلق الذات الأخلاقي لدى فوكو ليس خلقا جذريا للذات من العدم، لكنه كما يقول تحديد ذلك الجزء من الذات الذي سيشكل موضوع ممارسته الخلقية. إن هذا الاشتغال على الذات، فعل التحديد هذا، يقع داخل سياق مجموعة من القواعد التي تسبق الذات وتتجاوزها. وهذه القواعد تتشبع بالقوة والعناد وتضع التخوم لما سيعد تشكيلا معقولا للذات داخل خطة تاريخية محددة للأشياء. لا يوجد خلق الذات لنفسها خارج نمط نشوء الذات ومن هنا، لا وجود لخلق الذات خارج القواعد التي تنسق الأشكال الممكنة التي يمكن أن تتخذها الذات. وهكذا تكشف ممارسة النقد حدود الخطة التاريخية للأشياء، الأفق الإبستيمولوجي والأنطولوجي الذي تخرج فيه الذوات إلى الوجود على وجه الإطلاق. أن نخلق أنفسنا بهذه الطريقة بحيث أننا نكشف هذه الحدود يعني على وجه الدقة أن ننخرط في جماليات الذات التي تحافظ على علاقة نقدية مع القواعد القائمة. يكتب فوكو عام 1978 في محاضرته ما هو النقد؟: «النقد يمكن أن يضمن تحرير الذات من خضوعها في سياق ما يمكن أن نسميه، بكلمة واحدة، سياسة الحقيقة».
باحث مغربي
المهدي مستقيم
المقال شيق. و جزديث بطلر اسم شائع و معروف. إنما لا بد من الإشارة للإستثناءات في تعيين الذات داخل المنظومة. فالجنون و الإبداع و المرض و الشذوذ كلها عناوين خارج إمكانيات القانون اللعصابي الذي يبني جدارا أمام الفكرة و الفضاء النفسي. الجنون بالتحديد تناوله فوكو ثم دريدا بتاعتبار أنه عصيان و ليس انحرافات عقلية. و العصيان هو ضد القانون السائد و ليس ضد الحقيقة المطلقة. شكرا