الدوحة ـ «القدس العربي» من سليمان حاج إبراهيم: اختزال حديث متشعّب مع عبدالله إبراهيم مهمة شبه متعذّرة، والحوار معه يستوجب قدرا واسعا من الاطلاع على أعماله النقدية والفكرية، وهي ليست قليلة. ولرغبة «القدس العربي» في اللقاء به لمناسبة إصدار «موسوعة السرد العربي» بتسعة مجلدات كبيرة، وفي نحو 4000 صفحة، بعد عمل ناهز ربع قرن، فقد تناول الحوار جوانب من اهتماماته النقدية. نال جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب عام 2014، وجائزة الشيخ زايد في الدراسات النقدية عام 2013، وجرى تكريمه في أكثر من مكان ومناسبة، وانتزع مكانته المتميزة رائدا للدراسات السردية الحديثة بأكثر من عشرين كتابا فيها، وسيرته حافلة بالعمل الأكاديمي في عدد من الجامعات العربية، ويشغل حاليا منصبا ثقافيا في الدوحة ما أتاح له الانصراف لرعاية مشروعه الثقافي. وقد استقبلنا في منزله الرحب، ومكتبته العامرة التي يمضي فيها جلّ وقته.
طلبت من مضيفنا أن يخبرني بالظروف التي مكنته من كتابة عمله الموسوعي. يقول: «خطرت لي فكرة الموسوعة في شتاء عام 1987، وما أن قبلت لدراسة الدكتوراه في جامعة بغداد في العام التالي، حتى سجلت بذرتها الأولى مشروعا لأطروحتي بعنوان «السردية العربية»، وكلما تقدّم الزمن، توسع أفقي، وتوسّع معه الموضوع الذي شغلني، فما كنت أفارقه إلا من أجل أن أعود إليه، وباستثناء ساعات قليلة من التدريس الجامعي، فقد انصرفت لها كليا خلال السنين السبع التي أمضيتها في ليبيا خلال تسعينيات القرن الماضي، ولم أكد أنفصل عنها يوما طوال خمسة عشر عاما من إقامتي في قطر إلى أن توّجت ذلك بإصدارها في خريف «2016. يستطرد «التأليف بذاته هو شاغلي، مع ما عانيته من تركيب مادة الموسوعة، ورسم السياق التاريخي لها، والتزام النسق المنهجي في التحليل، وتوظيف مئات المصطلحات، وابتكار بعضها، وطرق موضوعات سكت الباحثون عليها طويلا، بل الغوص العميق مع مئات المصادر والمراجع، بما في ذلك عدد كبير جدا من الروايات. من الصحيح أن الموسوعة وقفت على تحليل نحو 150 رواية، لكنني لن أجانب الصواب إذا قلت بأنها انتقيت من بين أكثر من 2000 رواية جرى الاطلاع عليها، فلا يجد الناقد ملامسة حقيقية لمشروعه النقدي بالنصوص التأسيسية، وقُلْ ذلك مع آلاف المصادر القديمة التي ما يكاد الباحث أن يتوغل فيها حتى يصعب عليه الخروج منها». وما لبث أن توقف، وتنهّد، ثم قال «ما يحزّ في نفسي أن معظم تلك المصادر والمراجع والمعاجم والمسوّدات الأولى للموسوعة قد أمست طعما للنيران، حينما احترقت مكتبتي وبيتي ومزرعتي في كركوك بالعراق جراء الأعمال المسلحة في مسقط رأسي».
أما أنا فقد لفتني حجم الموسوعة، وتبويبها المحكم، والمنهجية الصارمة فيها، فسألت عن الغاية من ذلك الجهد الجبار، فأجابني عبدالله إبراهيم، «رسمت لنفسي هدفا منذ ثلاثين عاما وهو استنباط القواعد العامة للسرد العربي من مروياته ومدوناته، ولم أخذ بالطريقة المدرسية التي استعارت طرائق التحليل الفرنسية والإنكلوساكسونية، والتعسّف في تطبيقها على السرد العربي، ولا يجوز ذلك، في تقديري، مع ما فيه من فائدة عظيمة في المنهج والمصطلح، وللتعبير عن هذا الهدف كان ينبغي عليّ أن أترحل مدة ربع قرن في قارة السرد العربي، لاستخراج الأنظمة السردية للأنواع الكبرى فيه. ولا أوافق القائلين بأن السرديات علم يجوز تطبيقه على أدب هذه الأمة أو تلك، فالأحرى أن تكون مقتربا منهجيا نستعين به لاستنباط خصائص السرد عند هذه الأمة أو تلك» ولهذا الأمر كرست حياتي الثقافية والأكاديمية.
قوبل مشروع عبدالله ابراهيم باستياء بعض النقاد القائلين بضرورة استعارة هياكل السرديات الغربية، وتطبيقها على السرد العربي بطرق مدرسية، غير أنه مضى من دون أن يلفت إلى آراء تريد أن تسوّغ كسلها بادعاء صحة السرديات لكلّ زمان ومكان، واكتفى بالقول «إن هذا نوع من اللاهوت السردي يماثل اللاهوت الديني القائم على المسلّمات، وينبغي نقده وتفكيكه وتجاوزه إلى البحث والاستنطاق والتأويل، بدل استعارة جهود الآخرين».
العرب ظاهرة سردية
ولا يشكل الشعر إلا عشر إنتاجهم
سألت عبدالله إبراهيم عمّا أثير من اعتراض حول قوله إنّ العرب ظاهرة سردية لا ظاهرة شعرية، وما قوبل به هذا الرأي من استنكار، فراح يوضّح «ما شكّل الشعر في حياة العرب غير هامش ضيق، مقارنة بالسرد الذي أجرى تمثيلا كبيرا للخيال العربي والإسلامي، لقد تنادت لقول الشعر فئة تريد الانتفاع بضرب من القول اتّخذ صيغ المدح أو الهجاء أو الرثاء أو الغزل، وكانت تنتظر المكافأة في الغالب، وفيها تصنّع ظاهر ما خلا عددا من الشعراء الذين انطوت فكرة الانتفاع لديهم تحت غطاء الصنعة الباهرة، وإلى ذلك فالشعر عند العرب هو تغنّي الشاعر بنفسه أكثر من الغوص في شؤون مجتمعه، أما السرد فقد شمل حياة الأمة، بدءا من أوابد العرب في الجاهلية، مرورا بأيامهم وأحاديثهم وأخبارهم وتواريخهم، وصولا إلى مروياتهم التي شملت الحكايات الخرافات والسير الشعبية، ومدوناتهم التي مثلتها مقاماتهم وعددها يربو على ألفي مقامة، وصولا إلى الرواية الحديثة التي قدمت تمثيلا شاملا عن أحوال العرب أخفق الشعر اخفاقا تاما في ذلك، فانحسر، وانهارت قيمته، وبالاجمال ما انتظر رواة السرد انتفاعا بل رغبة في الاعتراف على نقيض ما سعى معظم الشعراء إليه».
وللبرهنة على رأيه قال «انظر إلى قارة السرد العربي غير المستكشفة قديما وحديثا، وقارنها بالخطرات الشعرية سوف تجد مصداقا لقولي، قال القدماء «ما تكلّمتْ به العرب من جيد المنثور أكثر ممّا تكلّمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عُشره، ولا ضاع من الموزون عُشره». هذا تأكيد على غزارة تلك المرويّات. حُفِظ الشعر، وتلاشت المرويّات السردية في ذلك الفضاء الشفويّ الواسع، فلم يتعهّد أمرها أحد، فقد استبعد معظمها عن مجال التداول العامّ لأنها حوامل لعقائد الجاهليّين الوثنية، وحوامل للخيال الجامح بعد ذلك كما نجده في «ألف ليلة وليلة»، وسائر المرويات الخرافية والشعبية. مع الأسف لم يلتفت القدماء إلى البحث في نشأة المرويّات السرديّة، ولا اهتمّ أحد بحفظها، ولا نعثر إلاّ على شذرات وردت في سياق لا يمكن التحقّق من واقعه التاريخيّ».
اختراق القرآن والتدوين للوصول
إلى إنتاج العرب قبل الإسلام
سألته «أين آل الأمر بمرويات العرب تلك، وكيف الوصول إليها ما دمت تقول إن السرد لا يختفي مهما تعرّض إليه من ضيم وإنكار؟» فأجاب واثقا «قوبل السرد بعَنَت ديني وأخلاقي وسياسي لأنه لم يمتثل لا لشروط الدين، ولا لشروط المؤسسة السياسية، إليك مثال، تجسّد السرد عند القدماء في «أوابد العرب» أي الأساطير الحاملة لعقائدهم، وكانت تروى بإسهاب. جاء الإسلام فأبطلها وحرّمها، ووصفها القرآن بعدد من الآيات بأنها أساطير الأولين، أي أباطيلهم، وعدّها من الرذائل التي لا يجوز أن تروى في ظل عقيدة جديدة. حال الإسلام دون تداول السرد، وحينما ظهر التدوين في القرن الثاني الهجري مع تأسيس الدولة خضع المدونون لشروط الدولة، فما أبيح تدوين شيء جدير بالاهتمام من السرد العربي، ولكي نعرف ما كان للعرب من مرويات قبل الإسلام لابد من اختراق حاجزين: القرآن والتدوين. وبذلك أصبحنا أمام تحدّيين: ديني وتاريخي، فقد أبطل القرآن المرويات القديمة بحكم حملها لأفكار جاهلية، وحال التدوين دون حفظها. لا ينبغي ذم الإسلام لموقفه، فقد جاء بعقيدة تخالف عقائد القدماء، وهذا هو نهج الأديان والعقائد السياسية دائما، وذلك شرط تاريخي ينبغي أخذه في الحسبان، وتبع ذلك عصر التدوين الذي خضع للموجهات الدينية. تلك حقائق لا يمكن القفز عليها، ولا يجوز للباحث الهروب منها». وحينما سألته ما إن كانت تلك المرويات قد انمحت من ذاكرة الأمة نهائيا؟» أجاب «لا تنحسر المرويات السردية في هذا العصر إلا لتنبثق في ذاك، فسرعان ما ظهرت بأشكال جديدة، مثل قصص الأنبياء التي صورت أحوال الأمم الغابرة، ووقائع أيام العرب، ثم الإسرائيليات التي تسللت إلى كتب الطبري، واليعقوبي، والمسعودي، وابن الأثير، وابن كثير، ونجد ذلك في سيرة الرسول لابن اسحاق التي قام ابن هشام بتهذيبها، فرفع عنها كل ما له صلة بمرويات العصر الجاهلي فقد اعتبرها مشينة بحق الرسول. ولم يمر وقت حتى ظهرت هذه المرويات في صلب الأنواع الخرافية والشعبية».
تعديل تاريخ نشأة
السرد العربي الحديث
شغلت هذه الآراء الجريئة التي توسّع فيها عبدالله إبراهيم مكانا كبيرا في مؤلفاته، ومنها موسوعة السرد العربي، ورغبت في سؤاله عن الجفاء الذي قوبلت به الرواية العربية الحديثة، وبخاصة أنه خصص لذلك مجلدا كاملا في موسوعته، وفيها نزع ريادة الرواية عند المصريين ممثلة في رواية زينب لهيكل التي صدرت في عام 1914 وعزاها للشاميين ممثلة في رواية «وي. إذن لست بافرنجي» لخليل خوري التي صدرت في عام 1859، وهو كشف قوبل باهتمام كبير في الأوساط النقدية التي رأت في ذلك تعديلا جذريا في تاريخ السرد العربي الحديث، فطلب الاطلاع على رأيه في موسوعة السرد لأن ذلك استغرقه سبع سنوات من البحث، لكنه لخص قائلا «قوبلت الرواية في العصر الحديث بموقف متعنّت شبيه بموقف الإسلام من المرويات الجاهلية، ولم يقبل العرب الرواية أدبا جديدا إلا بعد نحو قرن من ظهورها، لقد حرّمها الإمام محمد عبده، وذمّها يعقوب صروف، وهجاها العقاد هجاء مقذعا، وتهكّم منها توفيق الحكيم، ولم يجرؤ هيكل على وضع اسمه على رواية «زينب»، هذه باقة مختارة في ذم الرواية من طرف نخبة رفيعة من الكتّاب والعلماء، أما موقف الآخرين فحدّث من دون حرج». واستدركت مذكّرا إياه برأي كان مثار أسئلة كثيرة «غير أنك تنفي ريادة زينب للرواية العربية، وتقدم تفسيرا جديدا لنشأة الرواية غير الرأي السائد حول نشأتها» فأجاب «ظهرت الرواية العربية قبل معرفة العرب بالرواية الغربية، وقبل شيوعها في أوساطهم، وهي نتاج تحلّل الأشكال السردية القديمة وانبثاقها مجدّدا في شكل الرواية، ظهر هذا المخاض في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وفي منتصفه ظهرت أول رواية عربية، وهي «وي. إذن لست بافرنجي»، وفيها يتضح البناء السردي للرواية، وبناء الشخصيات، والموضوع، والحبكة، وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهور عشرات الروايات تركز معظمها في بلاد الشام. شاع أمر الرواية في ذلك الوقت حتى أن كاتبا اسمه «حكمت شريف» أصدر كتيبا بعنوان «كُليمات في علم الروايات»، ما يؤكد الحاجة لمعرفة طرائق كتابة الرواية باعتبار ذلك علما، وهو يماثل ما نصطلح عليه الآن بـ«علم السرد»، وفضلا عن ذلك فقد صدرت أكثر من عشر مجلات متخصصة في الرواية قبل بزوغ القرن العشرين».
الرواية التاريخية
سألته: هل تريد إلغاء مفهوم الرواية التاريخية؟ فأجاب «إنما اقترحت استبدال المفهوم القديم بمفهوم جديد هو التخيّل التاريخي، فقد تعذر على المصطلح الأول استيعاب الكتابة المتصلة بالتاريخ، فما عادت الرواية حاملة للتاريخ كما كان الأمر مع جورجي زيدان بل أمست متّصلة بالعبرة التاريخية التي تعتمد على حبكة متخيلة تستلهم وقائع لها صلة بالتاريخ لكنها لاتمتثل لشروطه، وإن سعى زيدان لحمل التاريخ في رواياته كما صرّح بذلك فما عني بذلك: أمين معلوف، وبنسالم حميش، وواسيني الأعرج، وإميل حبيبي، وعبدالخالق الركابي، وابراهيم نصرالله، وعلي المقري، ويوسف زيدان. تقترح علينا المدونة السردية تعديلا للمفاهيم النقدية. لا نخسر شيئا كبيرا حينما نقترح مفهوما جديدا معبرا عن حال الكتابة السردية».
الرواية ديوان العرب وحذار من غشماء السرد
في ختام حديثي مع الدكتور عبدالله إبراهيم أشرت لما أثاره تصريح له من «أنّ السرد ديوان العرب في العصور القديمة، وأن الرواية ديوانهم في العصر الحديث» فعقّب بقوله «لا أجد نظيرا للسرد في تمثيل أحوال الأمم، فهو سجلّ شامل بأعمالها وأحوالها وأحلامها وتطلعاتها، ولا أجد نظيرا له في العصر الحديث، فالرواية تبوأت المقام الأول في تمثيل أحوال المجتمعات العربية، نجد ذلك عند محفوظ، وغائب طعمة فرمان، والطيب صالح، وجبرا إبراهيم جبرا، وحنا مينا، وفؤاد التكرلي، وغادة السمان، وغالب هلسا، وغسان كنفاني، إبراهيم الكوني، ولطفية الديلمي، وخيري الذهبي، وجمال الغيطاني، وإسماعيل فهد إسماعيل، وصلاح الدين بوجاه، وحنان الشيخ، وصنع الله إبراهيم، وأمير تاج السر، ويمكن إدارج عشرات من الروائيين من الأجيال اللاحقة انخرطوا في نمط رفيع من الكتابة السردية مما يتعذر ذكرهم في هذا المقام، وأنا شديد الاهتمام بمتابعتهم، وعلى الرغم من كل ذلك فحذار من غشماء السرد الذين يعبثون بمعاييره، ويفسدون شروطه، وهم عدد غير قليل من هواة الكتابة غير المؤهلين لخوضها، وأصطلح عليه «خُدّج الرواية» الذين ظهروا بدواعي الجهل والغرور من غير استيفاء شروط الكتابة السردية».
تحياتي وتقديري للدكتور عبد الله ابراهيم.جهوده رائعة وتستحق الإشادة..وقد قام بعمل موسوعي جبارفاصبح علم على رأسه نارونورفهومناربحرهاد.
مرّة أخرى أودّ التعليق إنني أطلعت على خلاصة كتاب الدكتورعبد الله إبراهيم ( التخييل التاريخي) كمصطلح بديل للرّواية التاريخية ؛ وهوكتاب بديع مبدع.وهنا أقول : التخييل التاريخي بعيد عن مفهوم الرّواية التاريخية ؛ والأجدريكون ( التصوّرالتاريخي ).لأنّ الرّواية التاريخية ؛ وهي أهمّ وأرقى وأخطرأنواع الجنس الرّوائي ؛ لا تتخييل الحدث في الماضي إنما تستمدّ منه الصورة في خطوطها العريضة ثمّ تبني عليها سرداً روائياً يلامس الحدث ولا يلامسه معاً ؛ فتكون الصورة الجديدة وسط إطارجذاب غيرموجود في أصل الحدث ( الجاف ).فتبعث فيه الرّوح والحياة كأنه كان في غيبوبة مؤقتة فعاد حركة دؤوبة ؛ وبذلك تسموبالحدث من العمق إلى الأفق ليكون : قصّة تروى بالصور؛ لا بالتخييل المصنوع الخبر.وإلا تحوّل الحدث التاريخي إلى أسطورة مفخخة للحقيقة الزمنية ؛ باسم الرّواية التاريخية.ومثال لذلك رواية تولستوي : الحرب والسّلام ؛ وهي رواية تاريخية تاسيسية تناولت دخول نابليون لموسكو….فتناول فيها المؤلف الشخصيات الرئيسية من الواقع الحقيقي ؛ فيما صنع شخصيات ثانوية من الخيال المفترض ؛ وجمع بينهما بحبكة تجاوزت الزمان والمكان…أما طروحات الدكتوربشأن فائقية المنثورالعربيّ على الموزون الشعري ؛ فأتفق معه جملة وتفصيلاً…مع تقديري.
المقال جيد
المقال ثري جدا ويستحق اكثر من ثراءة واحدة .