كلما أراد دميان لوبو أن يكلّم نفسه يروح يبني مسرحا خياليا لهذه المحاورة*. يتخيل مشاهدين أو سامعين لا يفوته، في ما هو يجيب عن الأسئلة التي يطرحها على نفسه، أن يترصّد ردود أفعالهم. كما أنه أحلّ، كطرف محاور، مذيعا أطلق عليه اسم سيرخيو أوخان. ولم يكن هذا الأخير، مع أنه من اختراعه، طوع بنانه في طرح أسئلته. كثيرا ما كان ذاك المذيع، الوهمي على أي حال، يحرجه أمام ذلك الجمهور المتوهّم وجوده هو أيضا، إلى حدّ أن دميان لوبو يتمنى لو أن سائله لم يتطرق إلى ذلك الجانب من حياته الشخصية.
في بداية الرواية يسأله سيرخيو أوكان أي سمكة تعبّر عنه: «سمكة القرش أو السردين؟» فيجيب لوبو بأن لا هذه ولا تلك، «القرش لا تعبر عني إذ تنقصني عدوانيتها، ولا تعبر عني سمكة السردين لأني لست من قطيع». لوبو يفضل الحنكليس لأنه منفرد ويتكيف مع الطبيعة ويعيش مختبئا بين الصخور.
وها هي الصدفة تأخذ دميان لوبو إلى ما يشبه جحر اختباء الحنكليس الضيق. حدث ذلك بعامل مصادفة محض، إذ فيما كان يجول بين معروضات حِرَفية وفنية استهواه دبوس مذهب فأخذ يحدق فيه عن قرب، فيما هو يسير به، قاصدا سرقته، إلى أن انتهى به الأمر مختبئا في خزانة قديمة كانت ربما بين المعروضات. وما لبث الحمالون أن نقلوا الخزانة، وهو في داخلها، إلى منزل زوجين لتوضع في غرفة نومها، وذلك بعد أن اكتشفت الزوجة «لوثيا» أن الخزانة جزء من طفولتها أيام كانت تقيم في منزل جدّيها. وقد وُضعت الخزانة، التي ظلّ الزوج يتساءل عن الغرض من الإتيان بها إلى المنزل، لصق خزانة مبنية في مساحة لها مجوّفة. وفي اليوم الأوّل من وجوده في ذلك البيت، أو في تلك الخزانة، عرف لوبو أين سيقضي أيامه، بل شهوره: هناك في خزانة الحائط التي سدّتها الخزانة الخارجية.
من مقرّه هذا ستبدأ سيرة التحول في شخصية لوبو، وكذلك تحول الآخرين، القليلين: لوثيا وزوجها وابنتها، وكذلك، في مشهد واحد أو مشهدين، تلك المرأة التي جاء بها الزوج، في غياب زوجته، إلى البيت. تلك البداية تذكر كثيرا ببدء تحول غريغور سامسا، بطل رواية فرانز كافكا، إلى حشرة كبيرة لا تتوقّف عن التحول بإزاء العالم حولها.
ثم أن هناك بداية أخرى للرواية، لكنها ستظل هناك، في تلك البداية، ولا تبرحها. ذلك حين يروي لوبو عن علاقته الهوسية بأخته الصينية، التي تبناها والداه بعدما ظنا أنهما لن ينجبا، لكن حدث أن والدته حبلت به بعد ذلك، فصارت علاقته الجنسية بها ضربا من غشيان المحارم. وإذ كان الوالدان أكثر اهتماما بها، مما به، تحول هو إلى أن يكون بمثابة الابن المتبنى، وهذا ما كان يقلّل من وخز ضميره بسبب دأبه إقامة تلك العلاقة المستمرّة مع أخته.
هذه البداية الثانية، بل الأولى في الترتيب السردي، ما لبثت أن انقطعت عن الرواية لولا خيط رفيع يصل بين رغبته الهوسية بجسد اخته وبداية تعلقه بلوثيا، امرأة البيت. وإذ يظلّ لوبو، شأن سامسا، بل شأن الحنكليس، مقيما في اختبائه، يتنصت على ما يجري في الغرفة، مستخدما حاسة السمع وحدها. كان أول ما شاهده، بعد أن أحدث ثقبا في خشب الخزانة، هناك عند مغلاقها، قدمي المرأة لوثيا والجزء القليل الذي يعلوهما من رجليها. وهو، وإن سمع ما رافق مجامعة الزوجين، أدرك أنهما غير متوافقين.
في النهار، حين يخرج الزوجان كل إلى عمله، والبنت إلى مدرستها، يخرج من مخبئه، ويروح يتجول في البيت. وما لبث، بعد انقضاء اليومين الأولين، أن صار يعيد ترتيب الغرف ويمسح الغبار وينظّف الأواني التي تُترك متسخة في المطبخ. ولما أحست الزوجة بأن هناك وجودا ما يعمل على مساعدتها وإراحتها، فكّرت بأن ملاكا أو روحا متضامنة تقوم عنها بعملها. وهي آمنت بذلك، لكن لتدرك بعد ذلك أن شخصا ما، بشريا، يقيم في المنزل. لكن التغيّرات، بل التحولات التي تتوالى على لوبو، ومنها تركه لحيته وامتناعه عن الاغتسال وتناول الطعام، لم يؤديا به إلى الموت، شأن ما أوصلت التحوّلات بطل كافكا. تنتهي الرواية برحيل الزوج، والتقاء لوبو بلوثيا، وجها لوجه، بل جسدا لجسد، هناك على السرير، وذلك بعد أن أتاح لهما تلاحق أحداث الرواية معرفة متدرّجة لواحدهما بالآخر.
على الدوام، فيما نحن نقلّب صفحات هذه الرواية، نعرف أننا نقيم في الوسط بين الحقيقة والوهم، أي أننا نكون مرّة هنا في هذه ومرة أخرى في ذاك.
لكن تقلّبنا بين الاثنين هو ما يعطي الرواية قوتها. ولنضف إلى ذلك ازدواجا آخر هو ذلك الذي يدعونا، في الصفحات الأخيرة من الرواية، إلى أن نحمل ما يجري لدميان لوبو على محمل جنونه، أو فصامه. هي رواية متعدّدة المحاور، كما هي متعددة البدايات، متراوحة بين التصديق وعدمه، كما بين العادي والهذيانيّ.
ـ رواية خوان خوسيه ميّاس «من الظل» نقلها عن الإسبانية أحمد عبد اللطيف، وقد صدرت عن «دار المتوسط» في 183 صفحة ـ 2017.
٭ روائي لبناني
حسن داوود