«خاتون بغداد» هو عنوان الرواية الأخيرة للعراقي شاكر نوري بعد رواياته: «نافذة العنكبوت (2000) ونزوة الموتى (2004) وكلاب جلجامش (2008) والمنطقة الخضراء (2009) وشامان (2011) ومجانين بوكا (2012) وجحيم الراهب (2015)».
والرواية الجديدة صدرت عن دار كتّاب Publishing في العام الحالي 2017 وهي رواية تروي بأناة، وتؤدة، ما جرى في العراق منذ الحرب العالمية الأولى 1914 حتى الاحتلال الأمريكي لبغداد في 9 إبريل/ نيسان 2003 برصده لحياة الآنسة غيرترود بيل الإنكليزية التي عاشت بين 1868 و1926 ونهضت ـ اعتمادا على وظيفتها بصفتها السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني بيرسي كوكس، الذي عُهد إليه بإدارة شؤون العراق بعد سقوط بغداد، ورحيل خليل باشا آخر الولاة العثمانيين- بدور مهم في تاريخ العراق الحديث لا ينكره المؤرخون ولا السياسيون.
ومن يقرأ الرواية يلاحظ بوضوح سعي الكاتب لإضفاء طابع الشخصية الروائية على مس بيل، على الرغم من أنها شخصية حقيقية. فقد عدل عن التوثيق التاريخي الذي يتخلل الرواية عبر تكرار الأسماء والتأريخ للحوادث بذكر اليوم والشهر والسنة، إلى إطلاق العنان لخيالات الراوي الذي طفق يرسم لنا صورا لتلك المرأة، واستقبال العراقيين والعراقيات لها، والدهشة تملأ عيونهم، فهم يرون لأول مرة امرأة في غاية الحسن ترتدي حذاءً ذا كعب عال، تصدر عنه إيقاعات منتظمة، وهي تتنقل من مكان لآخر، على هذا الرصيف أو ذاك. أما شعرها الأشقر، وبشرتها البيضاء الرقراقة التي تذكرهم بلون الطباشير، فيثيران شهوة الرجال العراقيين الذين لا يعرفون إلا النساء بالأحْجبة والأردية السود الكالحة، وأما هنّ فيتلصَّصْن من ثقوب الأبواب، وشقوق الشناشيل، وهن يحاصرن ضحكاتهن، وقهقهاتهن.
وقد اتكأ شاكر نوري على الراوي العليم تارة، وعلى المسّ بيل نفسها تارة، في ذكره للكثير من المتواليات السردية. فهي موضوع يهتم به الراوي حينا، وراوٍ يصدر عنه فعل القصّ حينًا آخر. واللجوء إلى هذا النوع من التدابير السردية مرده إلى حقيقة يدركها القارئ، فالاعتماد على الراوي العليم يختص بالأحداث التاريخية، والوقائع التي تكاد تكون شبه معروفة لدى القارئ الذي لا يجهل مجريات هذه الحقبة من تاريخ العراق، بينما يكون الاعتماد على الراوي المتكلم، في ما يختص بالحوادث التي تتعلق بها هي وبعالمها الخاص، كعلاقتها بوالديها في لندن، وعلاقتها بهنري الذي كادتْ تقترن به قبل أنْ يغرق في بحيرة (لار) شديدة البرودة، أو علاقتها بالضابط ريتشارد الذي لقي هو الآخر حتفه في معركة مع الأتراك، ولم يتح لها في الحالين أن تحقق ما كانت تحلم به من زواج يسعدها في ما تبقى لها من أيام العمر، أو علاقتها بأحد الضباط المتزوِّجين. كذلك تروي بنفسها بعض الحوادث التي كان لها فيها الدور الأكبر، كتولية فيصل الأول عرش العراق، وما لقيته من اعتراض بعض الضباط الإنكليز، وعلى رأسهم لورنس.
وقد لجأ الكاتب في بعض مفاصل الرواية إلى ما يشبه الاعتراف، فالإنكليزية غيرترود بيل تقابل فيصل الأول بعد أن طرده الفرنسيون من دمشق، وكانت انطباعاتها عن تلك المقابلة جيدة، ما جعلها وفقا لاعترافها ترشح تعيينه ملكا على العراق. والأسباب التي تدفعها لذلك كثيرة، ففيصل الأول، عدا عن شخصيته المهيبة المحببة، ينتمي لأسرة عريقة، يمكن للعراقيِّين أن يدينوا لها بالولاء، على الرغم مما جبلوا عليه من عنجهيةٍ وعِناد. لكن المعترضين على هذا كانوا كثيرين، سواء من العراقيين، أو من عساكر الإنكليز. وقد أفرط الكاتب في التركيز على هذه الحوادث التي انتهت بتتويج فيصل الأول ملكا، وإنشاء المتحف العراقي، ثم إنشاء المكتبة الوطنية، والكثير من المجالس، والمؤسسات الدستورية التي تضْمنُ سيرورة المملكة.
وفي غمرة هذه الأحداث، ذات الطابع التاريخي الخالص، يسلط المؤلف الضوء على قصص العشق، وعلى ما جرى في عام 2003 في بغداد، وعلى التغيير الذي جاء به الغزو الأمريكي من تطرُّف وعنف، وتجييش طائفي وإرهاب، وتوطيد للجريمة، مستخدمًا شخصية فرديناندو الأجنبي القادم إلى بغداد للتحقيق في مآل المكتبة الوطنية، والمتحف العراقي وآثاره. وقد التقى عراقيا اسمه أبو سقراط، وعددا من الشخصيات الغضبى من الاحتلال، ومن تردي الأوضاع، وهم يلتقون عادة في حانة تسمى حانة الرافدين، هي البار الوحيد الذي بقي في بغداد من غير تفجير. وفي الحوارات التي تتكرَّرُ في هذه الحانة يجري الربط بين الاحتلالين الإنكليزي لبغداد عام 1917 والأمريكي عام 2003 وتتواتر المشاهد التي عنى بها شاكر نوري للكشف عن أن الاحتلاليْن ـ وإن كانا في مطلق الأحوال، اعتداءً سافرًا على العراق الذي قدم للعالم أول تجربة للكتابة، وأول مدونة للشرائع والقوانين (شريعة حمورابي) وأول ملحمة تذكرنا بطوفان نوح (جلجامش) فإن الاحتلال الأمريكي لا يخلو من حماقة وجنون، أغرق العراق في العنف، ودفع به في نفقٍ مظلمٍ لا يعرف منتهاه، في حين أن الاحتلال الإنكليزي- على الرغم من أنه احتلال ـ كان المحتلون فيه أكثر ذكاءً، فمن خلال النموذج الراقي ـ غيرترود بيل- فهم الإنكليزُ العراقيين، وحاولوا التعاملَ معهم بطريقة متحضرة، تراعي ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم ومزيجهم العرقي، والديني، والمذهبي والثقافي، وقد أحبّ العراقيون مسّ بيل وأحبتهم، والدليل على هذا أنها تردَّدت في السفر إلى لندن حين احسَّتْ بدنوِّ أجلها، ورحيلها عن عالمنا إلى العالم الآخر، وفضلتْ الوفاة في بغداد، وأن تدفن فيها إلى جانب من دفنوا من الإنكليز.
وعلى الرغم مما يطغى على رواية شاكر نوري من التخييل الروائي، الذي يتخلى فيه عن التوثيق، فقد ظلَّ، في المجمل، أمينا لمحكيه التاريخي، فقد استعان على هذا بالرجوع لمصادر، منها ما كتبته مس بيل من مذكرات، وما صنفته من مؤلفات عن العراق وتاريخه وآثاره، وهي مؤلفات ترجم بعضها للعربية، وفيها مزيج من التاريخ والأدب، أحد هذه الكتب بعنوان «عربُ بلاد ما بين النهرين» وآخر بعنوان «الصحراءُ والثلج» وثالث بعنوان «صورٌ فارسية» و»قصائد لحافظ الشيرازي» و»قصرُ الأخيْضر» و»مراسلات مسّ بيل» وأخيرًا «العراق في رسائل مس بيل» الذي ترجمه عن الإنكليزية جعفر الخياط.
ولا بد لنا قبل أن نختتم هذه المقالة القصيرة عن خاتون بغداد من التنويه بأداء شاكر نوري اللغوي، لأنَّ الكثير مما نقرؤه من روايات يعاني من الركاكة، والمزيد من الأخطاء، التي تشمل إلى جانب النحو، الإملاءَ، مما يشعرنا بأنَّ الكثير ممن يوصفون بالروائيين هم متطفلون على هذا الفن، وأدعياء، ينبغي تحذير القراء منهم، ومن سوء أعمالهم. فشاكر نوري يوازن بين اللغة السردية، والموقف الذي يرويه، فإذا كان الأمر متعلقا بما ترويه مس بيل عن علاقاتها العاطفية ببعض الرجال (هنري، أو ريتشارد) ترقُّ لغته، وتشفُّ، حتى لتكاد تصبح شعرًا. وعندما يروي ما جرى في المتحف عشية الاحتلال الأمريكي على لسان أبي سقراط نجد اللغة تخشُن، وتتحَوَّل إلى لغة سوقية، جارحة وفظة، يقول أبو سقراط مخاطبًا فرناندو «حشد من غوغاء الضواحي جاءوا، وتوغلوا داخل المكتبة الوطنية. جرى النهب أولا برصانة وفطنة وتدبير. وبسرعة خارقة وفوضوية وسفيهة ووقحة: أطفال ونساء وشباب وكهول قاموا بسرقة الكتب، تجولوا في المكتبة كأنهم يختارون مشترياتهم في أحد الأسواق. والعجيبُ أن موجات الناهبين كانوا يعرفون أمكنة المخطوطات النادرة، والأكثر ندرة، فسارعوا إلى حملها، والركض بها عبر الأزقة والطرقات، إلى مكان مجهول».
ويقشعرّ بَدَنُ القارئ لدى وصف الراوي، من منظور المسّ بيل، مشاهد يقوم فيها بعض الشبان من أتباع المذهب الشيعي، بممارسة طقوس (التطبير) أي ضرب رؤوسهم الحليقة بالسيوف، والسلاسل الحديدية، حتى تسقط جلدة الرأس، ويزداد النزيف زيادة تغمرُ الوجوه، وهذه المشاهد تدفعُ بها للقول بعفوية، وتلقائية « يا إلهي! لم أرَ صورة كهذه من قبل، أبدًا. توحُّشٌ لا مثيل له». وهو المشهد نفسه الذي استنكرهُ فيصلُ الأول إلى جانب المسّ بيل. والأنكى من ذلك ما سمعته الإنكليزية من الحاج ناجي «هؤلاء المساكين لا يضربون رؤوسهم بالسيوف فقط، بل يحملون خُمْس أموالِهم إلى الأئمّة «.
صفوة القول إنَّ هذه الرواية «خاتون بغداد» رواية تاريخيّة، بَيْدَ أنَّها، خلافًا لكثير من الروايات التاريخية، تروي لنا الحاضر الذي نعيش فيه، وكأنه ماضٍ جرى قبْل مئة عام.
٭ ناقد وأكاديمي من الأردن
إبراهيم خليل