أعاد ضرب خان شيخون بأسلحة كيميائية القضية السورية إلى مستوى لم تكن عليه قبل بضعة أيام من حدوثه. كانت أمريكا مع ترامب قد صرحت بعدم مناقشة إزاحة بشار أو إثارة قضية مآله. وكان هذا تغييرا في السياسة الأمريكية التي ظلت ترى أن المشكلة الجوهرية في المفاوضات يجب أن تنصب، إلى جانب تحقيق الهدنة، القضاء بخروج بشار. لكن التدافع الروسي ـ الأمريكي أدى إلى تغيير نبرة الحديث، قبل المفاوضات، وكان التسليم بعدم مناقشة مصير الأسد بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير. لقد اعتبر النظام هذا الموقف دعما لسياسته في محاربة «الإرهاب» الذي يجمع العالم برمته على استئصاله. ولما كان أي حديث عن الهدنة لا يعمل في الحقيقة إلا على المزيد من حدة الحرب، وليس العمل على إطفائها تمهيدا للوصول إلى حل، لأن النظام يريد تحقيق مكاسب مهمة على الأرض لتكون المفاوضات لفائدته، فإن عمى النظام، وهو يستغل تأكيد أمريكا على أن مصير الأسد لا يمكن أن يقرره إلا الشعب السوري، من جهة، وسعيه إلى ضمان المزيد من الانتصارات بمضاعفة تحركاته، من جهة ثانية، لم يؤد به إلا إلى استخدام الأسلحة الكيمائية في خان شيخون في محافظة إدلب، فكانت الكارثة التي استنكرها العالم أجمع، بما فيه الصين التي ظلت حليفا للنظام.
جاء رد الفعل الأمريكي سريعا ومفاجئا للجميع. وقد ترجم في الضربة الأمريكية على قاعدة الجيش، وتغيرت نبرة الحديث إذ صار مصير الأسد في لب القضية، بعد أن كان التلويح بأن ذلك بيد الشعب. وطبيعي بعد هذا الحادث أن تتصارع التصريحات في سماء الإعلام. فروسيا تستنكر الضربة الأمريكية، وتؤكد أن النظام لا يمتلك أسلحة كيميائية، والنظام السوري يعتبر قضية خان شيخون «مفبركة»، وأنها جاءت لتبرر تلك الضربة. وكانت إيران تسير في ركب سوريا الروسية، فيما سارعت جهات عربية وغربية إلى دعم التدخل الأمريكي الذي جاء ليعبر عن التوجه الجمهوري في إدارة الصراع على المستوى الدولي. فما أشبه الليلة بالبارحة!
لقد قرر الشعب السوري مصير الأسد ونظامه منذ أن خرج إلى الشارع مطالبا بالحصول على الحرية. وكل من كان يرى غير ذلك واهم ولا يريد رؤية الحقيقة عارية. وبعد انصرام أزيد من ست سنوات على التقتيل والتهجير نجد من يناقش القضية السورية بمعزل عن مصير الأسد. وفي كل ذلك مصالح متضاربة ومتفاوتة، ولا سيما بين الأطراف المتصارعة على الأرض. ومنذ بداية الأحداث كان التنويه بضرورة عدم التدخل الخارجي في سوريا كي لا يتكرر المشهد الليبي، وخاصة بعد نهاية القذافي المأساوية. تدخل العالم في سوريا، وكانت طائرات التحالف، والطائرات الروسية، وكانت إيران وحزب الله على الأرض، وكان ما كان مما يذكر الجميع ما هو متواصل إلى الآن من كوارث بسبب قول الشعب لا للقمع، نعم للحريات. وها الشعب السوري يدفع ثمن الطلب باهظا.
استغلت روسيا وإيران الوضع الذي تولد مع مجيء الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، ومحاولة إدارة أوباما عدم تكرار التجربة الأمريكية مع الجمهوريين في العراق التي أدت إلى تعاظم كراهية أمريكا في العالم. وكان من نتائجها الاتفاق حول الملف النووي الإيراني مع الغرب الذي اعتبرته إيران انتصارا عظيما وقتها، وفتح شهيتها للتمدد في المنطقة، وصارت تسعى لبسط يدها في العراق، ومد رجليها إلى اليمن. واستغلت روسيا الحدود التي وقفت عليها أمريكا في حربها في المنطقة، فاستأسدت، وصارت تقدم نفسها البديل لأمريكا، بحجة محاربة «الإرهاب»، وإذا بها تخوض الحرب إلى جانب النظام، ليس ضد الدولة الإسلامية، ولكن ضد الشعب وقواه المعارضة. لذلك لا عجب أن نجدها تنفي امتلاك النظام أسلحة كيميائية، وتستخدم الفيتو ضد قرار بهذا الشأن. وستستمر المهزلة المأساة! لقد أعاد موقف ترامب من القضية السورية، عن طريق تدخله المباشر بعد خان شيخون، إلى مستوى جديد من الصراع في المنطقة العربية، والذي تبدو فيه المصالح الدولية متضاربة ومتداخلة، والعرب غائبون ومغيبون ومتغيبون.
إن موقف أمريكا من النظام السوري، قبل استخدامه الأسلحة الكيميائية، من خلال تصريحات ترامب، حول مصيره، لا يعكس في واقع الأمر سوى الموقف الأمريكي من إسرائيل. فمناقشة مصير الأسد ليس له من معنى غير فتح المجال أمام المجهول الذي يمكن أن يعرض إسرائيل لمشاكل محتملة. أما سياسة النظام السوري تجاه إسرائيل فمعلومة، ولم تشكل أي خطر عليها. هذا ما يمكن فهمه مما روج له ترامب، ولعل هذا الترويج لم يكن إلا من باب إعطاء الفرص للأسد للمزيد من الاطمئنان على مصيره، واللعب بالنار التي ظل يقذف بها في الوجه السوري، بالبراميل المتفجرة، وبالأسلحة الكيميائية. فليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها إلى هذه الأسلحة. وما استخدامها مباشرة بعد ذاك التصريح سوى دليل على ذلك. هذا من جهة. أما التدخل الأمريكي السريع والمباشر ضد القاعدة العسكرية السورية، فليس سوى تأكيد على أن أمريكا اليوم ليست هي أمريكا أوباما. وعلى الروس وإيران أن يستوعبوا الدرس جيدا، وأن أمريكا لا يمكنها أن تظل محايدة تجاه ما يجري، وهذا من جهة أخرى. إن رسالة ترامب، قبل خان شيخون وبعدها مزدوجة. فهي تعكس التصور الجديد للسياسة الأمريكية في المنطقة. فاجأ العالم انتخاب ترامب، وسال مداد كبير حول شعبوية الرجل، ولكن نجاحه في الانتخابات يعكس في واقع الأمر «القوة» الأمريكية التي فرط فيها أوباما، وهو يسعى إلى تقديم وجه آخر. وها ترامب يستعيد الوجه الأمريكي الذي لا يريد أن يحل وجه آخر بديلا عنه. إن خان شيخون في رأيي ليست سوى القشة التي قصمت ظهر بعير الصراع على المستوى الدولي والذي يشكل العرب فيه محور الموضوع. فكيف ستتطور المنطقة في ظل محاولة أمريكا استرجاع مكانتها في الشرق الأوسط؟ وحين نقول ذلك، لا نعني فقط مسلسلات المفاوضات حول سوريا، ولا مآل العراق، ولكن أيضا، وبصورة خاصة، مصير القضية الفلسطينية التي تم تجميدها نهائيا بسبب ما يجري، وترك إسرائيل نتنياهو تتحرك وفق مشيئتها.
إنها مرحلة جديدة، ستعاد فيها السيناريوهات القديمة ـ الجديدة، والتي لا يمكنها البتة أن تكون لصالح العرب، سواء في فلسطين، أو سوريا، أو العراق، أو اليمن، أو ليبيا… فالتوافق الروسي ـ الأمريكي لا يمكن أن يكون إلا لفائدة كل منهما. ولا تصب تلك المصلحة المشتركة إلا في مصلحة إسرائيل. فما هو الموقف العربي من هذه التحولات الممكنة؟ سؤال يفرض نفسه لأن كل التطورات تسير ضد المصلحة العربية، ولن تعمل على انفراج القضايا المعلقة والمطروحة. وماذا عن الإرهاب الذي ظل يجمع العالم؟
تصرح بغداد بأن المساحة التي ما تزال تحتلها «الدولة الإسلامية»، لا تتعدى ستة في المئة. فهل نحن أمام نهاية وشيكة لتكالب العالم على الرقعة العربية؟ هل فكر العراق في جعل أربعة وتسعين في المئة للتعايش والحوار والسلم بين مختلف المكونات وتجاوز خلافات رفع الرايات، وتجاذب الطوائف؟ وماذا عن اليمن وليبيا؟ والصراع المغربي ـ الجزائري؟ والمـصــري ـ الــسـوداني؟ كانت خــان شـيخون بمثابة قـشـة البعير. فكيف سيجري بعدها عقر البعير؟
كاتب مغربي
سعيد يقطين
في سوريا لن يتغير أي شئ حتى تنتهي سورية كبلد ؛ ستقسم لكنطونات ستكون لإسرائيل اليد الطولى في أهمها