«خرائط» للرّوائي الصّومالي نور الدين فرح: تِيه الأنا… في خرائط اللغة… والدم

حجم الخط
0

تعدّ رواية «خرائط» الرّواية الأولى في ثلاثية حملت عنوان «دماء في الشمس» للروائي الصومالي نور الدين فرح، وفيها نواجه صوغ متخيل سردي، ينتمي إلى بنية روائية تستقي أفقها الكتابي من محاولة فك الاشتباك القلق، الذي يطال الإنسان على مستويات منها الطفولة والهوية والانتماء والوطن، بالتوازي مع محاولة لتلمس هذا الوجود المُشكل في عالم صِيغت ملامحه في أفق المركزيات والتيه، ومن هنا تنشغل الرواية بهوامش هذا العالم، أو في البلدان الواقعة على التخوم التي يسكنها الموت، حيث ينمو بوتيرة متسارعة، مع فائض من الأحلام المتآكلة.
في رواية «خرائط» ثمة شبكة من الأحداث السردية، وامتداد دلالي يطال ثيمات متعددة، مع الاتكاء على أسلوب سردي متقدم تقيناً، حيث تتناوب أساليب السرد بضمائر: المخاطب والمتكلم والغائب، ما يعني أن ثمة وجهات نظر تصوغ العالم السّردي المعقّد، كما الطّافح بأنظمة الخطاب، والباث السردي، على نحو يشي بأنك أمام عمل لن تصل إلى وجهته الدلالية والشّعورية إلا من خلال مجموعة من الخرائط السّردية والفكرية. تنفتح الرواية على استخدام ضمير المخاطب بهدف «الإشراك السردي»، حيث يتموضع القارئ في مركز الشخصية ليمارس اكتشاف الأشياء، وتفعيل البنى الشعورية للشخصية الرئيسة «عسكر» المركز الناظم للخطاب السردي. يتجول عسكر في خرائط السرد ليعيد صوغ عالمه الذي يبدأ منغلقاً محاصرا بفضاء، وأزمنة امرأة واحدة، هي كل ما يصله في العالم، أنها «مسرا»… المرأة الإثيوبية التي تحتضن، وتربي عسكر بعد وفاة والديه في بيت «العم أوراكس». يعرف عسكر رائحة مسرا… دمها… وصوتها، يعرف تضاريسها، غير أن مسرا ما هي إلا امرأة إثيوبية تنتمي إلى أرض تبادل العداء لأرض عسكر، وهنا تكمن القيمة الجمالية، كما تتجلى المفارقة، لا سيما عندما يتحقق الانفصال والخلع عن رحم الحياة الذي يغدو- فجأة- عدواً خائناً… على الرغم من أن مسرا باتت أماً غير بيولوجية لعسكر، ولكنها قبل كل شيء كانت عالماً كاملاً، فهي المرأة التي يحتاجها (الذكر)، لا بالمعنى الذي ينصرف إلى كونها إحالة إلى تمثيل أنثوي، إنما تتجاوز ذلك نحو تجسيد المرأة باعتبارها رحماً، ووطنا، وحبيبة، وسكناً. وهكذا أضحت مسرا حدود العالم، ومنتهاه، وبين هذين الكائنين ثمة لغة قوامها الجسد والعيون والرائحة والصمت. تبقى مسرا سيدة العوالم المختلطة، غير أنها من منظور المحيط لم تكن إلا امرأة من الشّمال، أو مجرد خادمة فقط: «وبسبب تعلقك الكبير بها، أصبح وضع مسرا في المجتمع مثيرا للجدل، فبالنسبة إلى العديد من أفراد المجتمع، لم تكن سوى تلك الخادمة التي جاءت من مكان ما في الشمال، وعوملت بازدراء، إذ إنهم احتقروها ونعتوها بشتى الأسماء حتى قيل إن اسمها الحقيقي ليس مسرا… ولكن من كانت مسرا؟ بالنسبة إليك، كانت هي الكون برمته، بل مجموعة الأفكار التي تغذى عقلك عليها، ليس مهما البتة إن كانت جاءت من المرتفعات الإثيوبية أم لا».
في سرد غير خاضع لتراتبية الحدث، نقرأ جملة من القضايا التي يأتي عليها نور الدين فرح بين تضاعيف متخيله السردي، ومن ذلك إشارات إلى الهجنة العرقية، والاستغلال الجنسي، والعبودية، فقد استغلت مسرا جنسياً، حتى أنها أجهضت غير مرة نتيجة العلاقات التي كانت تخضع لها، إذ تنقلت بين أكثر من دور، منها الخادمة والعشيقة والزوجة، وهكذا أمسى جسد مسرا وروحها مجالاً للآخر، فمسرا تعرضت لسلسلة من التّحرشات والنيل الجنسي من قبل أفراد عائلة عسكر كأداودان والعم أوراكس، وهنا تتبدى المفردات الدّلالية المتّصلة بالتكوينات الثّقافية لعوالم الذكورة، والمرأة، والهيمنة التي تتمركز تحديداً حول هذين الكائنين اللذين ينتميان إلى عالم التابع (الطفل والمرأة) كما ينقل لنا، ويعاين عسكر القادر على استشعار كافة الممارسات المحيطة به من حيث الإقصاء لذاته أولاً، ولمسرا… العصا التي يتكئ عليه الطفل، كونها تقوده إلى خضم النشاطات الإنسانية، وجسّ نبض الحياة.
ثمّة كتل سردية اعتنى بها نور الدين فرح بغية توصيف العلاقة بين عسكر ومسرا موظفاً فصولاً طافحة بلغة خاصة، أو داخلية، تحتفي برؤية دهليزية لعوالم الطفل، إذ يتخذ السرد مواقف واتجاهات تعنى بالعوامل المحيطة كما الأشخاص والثقافة، واكتشاف الأشياء التي يواجهها الطفل، وبوجه خاص مسرا… تلك المرأة التي تنتشر في المتن السردي بصمت، ولكن حضورها يتخلل كل شيء، فما عسكر سوى نتاج مسرا التي مارست صوغ وعيه على امتداد التشكيل السردي، وأزمنة الخطاب، كما أنها تحضر في المكان، نشعر بها، ونشتم رائحتها، ونسمع صوتها، كما نشهد انحناءات جسدها، عالم استطاع أن يتخيله نور الدين فرح عبر ذهنية طفل مستعيناً بأدوات روائية متقدمة، تنضح بالحساسية العالية، والتعقيد.
يكبر عسكر، ويذهب ليعيش في مقديشو مع خاله «هلال» وزوجته «سلادو»، يكتب عسكر لمسرا بعض الرسائل، غير أن اللغة تتحول إلى حاجز يحول دون التواصل، فمسرا لا تقرأ اللغة الصومالية، وهذا ينشأ بالتّوازي مع انبثاق العداء من قبل خط التفكير الإثيوبي الرسمي لأي تواصل مع أي صومالي، يعيش على طرفي الحدود بين إثيوبيا والصومال، وهنا نستشعر تكوّن الجدار الذي يعلو يوما بعد يوما بين مسرا وعسكر، سواء أكان لغوياً وثقافياً، وحتى إنسانياً، هذا النهج بدأ حينما كان عسكر طفلاً. «سأعرف مع مرور الوقت أنها ليست أمي الحقيقية. ومع تقدمي في العمر ومقابلتي لمزيد من هؤلاء الناس، قررت أن أكف عن مخاطبة مسرا بأي شيء حتى نكون وحدنا في الغرفة».
بين ثنايا هذا العالم السردي الخصب والعميق، على نحو يقودنا إلى التسليم بأن نور الدين فرح في روايته هذه يصوغ كل شيء… الحب والوطن واليأس، وبين مفردات الأيديولوجيا تنتج الدلالات لمعاني الاستعمار، والهيمنة، والحب، والخيانة، والشك… غير أنها مجتمعة تبدو ملتبسة، وشائكة، إذ لا شيء واضح، ولا عالم نقي، ومع ذلك، فثمة شيء واحد ينمو… يكبر وينتشر … هو الموت، ولا شيء غير الموت الذي يشكل إحدى الثيمات المحورية في المتن السردي، فعسكر شاهد على فظائع الحرب في المنطقة الأفريقية، وحين يهمّ بسؤال مسرا عن الموت والحرب، يجتاحها الحزن ولا تقدم إجابة، ربما لأن معرفة الموت يجب أن تختبر عبر أفق المشاهدة، واقعية، تتكئ على ذاكرة الحرب، كما سيشهدها الطفل لاحقاً؛ ولهذا كانت عوالم الطفل محصورة بين ثنائية الدم والماء، وهما رمزا الحياة والموت، وهذا يفسر العناية المفرطة بالحديث عن الدم لدى نور الدين فرح، لاسيما حين تتوالى نتاجات الحرب في منطقة أوغدين… وهنا تتولد المفارقة حين تُتهم مسرا بالخيانة أثناء الحرب: «مسرا كانت الكون بالنسبة إليّ، كانت طيبة ولطيفة وتنضح بالأمومة وكنت أحبها بحرارة وأهتم بها برقة، والآن تفكك ذلك الكون واقترفت مسرا الخيانة. ماذا عليّ أن أفعل؟ أنا الذي ما زلت أحبها». ثمة موقف متشكك تجاه مسرا من قبل عسكر، وهذا يأتي بالتّجاور مع صراع في ذات عسكر مفاده الاختيار بين الدراسة الأكاديمية، أو حماسه الوطني، والالتحاق بالجبهة من أجل القتال في سبيل قضيته.
في سياق تتبع خرائط عسكر السردية ثمة حدث يترك أثراً، يتمثل بفعل الختان أو التطهير الذي يعني فعل انفصال مسرا عن عسكر بعد أن أضحى رجلاً، غير أن هذا الانفصال يوازي انفصالا آخر عندما تشتد المواجهات حول إقليم أوغدين، وهذا يفعّل تنبه عسكر لهويته وانتمائه، والبدء بقراءة خرائط الهوية، ويتولد الاهتمام بحرب التحرير التي يشنّها شعبه ضد شعب مسرا، وهكذا تتوالى الثيمات السردية حول الحرب التي تنشأ في الصومال. في الطريق إلى مقديشو، تبقى مسرا حاضرة في كل موقف يواجهه عسكر، الذي بدأ يدرك حقائق جديدة في ما يتعلق بهذه المرأة (أمه) كما الصومال (دولته) قياساً بعالمه الذي يخلو من منطقية العلاقة التي تجمع بين الأرض والسماء، كما قيم العائلة التي لم يختبرها عسكر، فكل شيء حول عسكر مشتت ومختلف: «وأثناء هذه الفترة كان عسكر يفكر في كل التناقضات في منطق هذه الأمور فهي لم تكن أمه والدولة لم تكن وطنها وكانت تعلمه أحياناً بعض اللغة الأمهرية عندما يحل الظلام، وهي لم تكن متزوجة ولم يكن لديها طفل أو رجل بصفته زوجاً، ولكنها كانت سعيدة بما توفر لها، وأنه لم يكن لديه شخص ينعم عليه بلفظ «أب» ولكن كان لديه العديد من الأعمام والأخوال، أحدهم كان متزوجاً من مسرا».
كانت مسرا جزءاً من هوية عسكر التي تشكلت في حدود الآخر، ولهذا يتساءل عسكر: «جال في خاطري أنه من غير الإنصاف ألا تحظى مسرا ولو بمجرد ذكر في بطاقة هويتي». والآن تخلصت من اعتقادي السابق أن ذلك كان بسبب كونها أورومية وكوني صومالياً». مسرا التي تنتمي إلى ماضي عسكر الأمي… أي قبل معرفته القراءة والكتابة، ومع ذلك، فهي تبقى عالما غير مكتمل لكونها تعني ذلك الآخر (العدو)، ولهذا تنتهي، وتموت بل تشوّه جثتها… بطريقة طقسية نتيجة بالخيانة (غير المؤكدة) حينها يتساءل عسكر عن حدود ذاته في المرايا والخرائط، ومسؤوليته عما آلت إليه مصائر مسرا. لا بد من الإشارة إلى أن الرواية تنطوي على خطابات حافلة بالدلالات المتصلة بعوالم الحرب، وتداعياتها، أي العالم الذي تنشأ الذوات فيه بين حدود القتل والتهجير واللجوء، كما يتضح في حوار عسكر مع إحدى الفتيات اللاجئات:
«مددت يدي نحوها.
أمرتني قائلة: «لا تلمسني».
سألتها عن السبب.
لأني أقف أمامك في جلد قد استعرته» ردت قائلة.
سألتها إن كانت قد استعارت أشياء أخرى
«اللسان الذي أتحدث به ليس ملكي أيضاً.
الحوار السابق، يقودنا إلى مفاهيم تتصل بعوالم ما بعد الاستعمار، فالأقاليم التي تتحدث الصومالية كانت موحدة في الأربعينيات في ظل علم المستعمر فيما عدا إقليم جيبوتي، هذا الجيب السردي يشي بالكثير من الإشارات المهمة التي تصف العالم والخرائط، أو تلك المساحة غير المضاءة من التاريخ، وتتكشف شيئا فشئيا في ذهن عسكر الذي يؤثر الانعزال بعد نتاج الحرب، وفي غمرة إقامته في منزل خاله هلال وزوجته سلادو في مقديشو، تنشأ حوارات مع كليهما حيث يتسع عالم عسكر ليدرك أن ثمة في العمق أسراراً تصوغ خريطة العالم …فزائير كلمة برتغالية، فقد نعتت الدولة بهذا الاسم نسبة إلى رجل برتغالي مرّ من هناك، كما دولة النيجر التي أخذت اسمها من اسم نهر أطلقته زوجة أحدهم على كامل البلاد، في حين أن إثيوبيا كان اسمها الحبشة، ومع وجود الإمبراطورية تحولت إلى إثيوبيا.
إذن، هنالك أسماء عامة للدول، وأسماء محددة كما يشرح هلال – خال عسكر- غير أن دولاً كالاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، تدعم الأسماء العامة على حساب الأسماء المحددة، كما أن الحكومات تلجأ للتعميم حين تواجه نزعات انفصالية، ونتيجة لهذا، فقد تشتت مفهوم الصومالي إلى صومالي بريطاني، وصومالي كيني، وصومالي فرنسي، وصومالي إيطالي. إن سمة التكوين السّردي تتحدد بمحاولة توصيف ذلك التكوين الكولونيالي، والمختلط للهوية، فضلاً عن تلك التنازعات المستمرة، إنها أزمة تذهب إلى نقد الذات، ونتاج ما بعد الاستعمار السلبي الذي تحقق على أيدي النخب الوطنية، فالتخلص من مستعمِر جاء من وراء البحار أسهل من التخلص من مستعمر أفريقي كما جاء على لسان الخال هلال.
في المدرسة يحاول عسكر أن يتعلم اللغة، بيد أنه يواجه صعوبة مع تلك الحروف التي تطفو في مخيلته بقلق الوجود بين لغة عربية وصومالية وأمهرية.. وهنا يُستحضر خطاب الإمبراطور هيلاسيلاسي حول أهمية تعلم اللغة الأمهرية بوصفها سبيلاً للتقدم الاقتصادي والشخصي، فضلاً عن فرض اللغة العربية، وهكذا فقد تحولت اللغة إلى متاريس تعوق فعل التواصل بين أهالي المنطقة الصومالية، ما يفرض تساؤلات في ذهن عسكر (الطفل): «من المؤكد أن الطفل الذي تعلم بلغته الأم لا يضرب بمثل تلك القسوة، أليس كذلك؟ ألا يأتي التعلم عندها بطريقة طبيعية؟». الضرب والاضطهاد الذي مورس على عسكر في المدرسة، يوازي ما تتعرض له مسرا، فكلاهما على الرغم من اختلافهما عرقياً إلا إن طبيعة الاضطهاد واحدة.
وفي الختام، تمضي الرواية في تكوين أو تعقّب عوالم عسكر، وعلى نحو خاص وعيه لأزمته الوجودية وهويته السّياسية، وانتمائه ضمن ثنائية مسرا والوطن، بالتجاور مع كتل سردية ذات طابع تنظيري حول مفهوم الهوية الصومالية، وتعقيداتها في ما يتصل بتكوينها الأفريقي والعربي والاستعماري عبر حوارات مطوّلة بين عسكر وخاله -المثقف – هلال الذي يرى أن الكلمة المكتوبة أو المبادئ المكتوبة هي التي تنتصر في التاريخ، فكل ما هو شفوي، لاسيما عند اشتداد صراع الهوية، والحدود لا يعوّل عليه. خرائط: سلسلة إبداعات عالمية، ترجمة محمد فرغل، ومراجعة ليلى المالح، المجلس الوطني للثقافة والفنون، الكويت، 2013.

كاتب فلسطيني ـ أردني

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية