قبل عقدين من الزمن باغت شاب شبه أمي نجيب محفوظ وطعنه في رقبته، ولم يكن محمد ناجي يعلم أي شيء عن تاريخ ذلك الأديب العجوز، سوى أنه أحد الملاحدة الذين يحاربون الدين ويجب القضاء عليهم، بموجب محاكمة قديمة لروايته الشهيرة «أولاد حارتنا» التي لم تنشر كاملة في مصر إلا في وقت متأخر، بموجب قرار رسمي من الأزهر.
بمعنى أن هذا الإرهابي المتطرف، الذي أقدم على تصفية الأديب العربي الوحيد الحاصل على جائزة نوبل للآداب، لم يكن قد ولد أصلاً عندما تمت محاكمة الرواية، وإنما ورث كراهية محفوظ وأدبه بموجب وصايا رجال دين معروفين، وأنه قرر ارتكاب جريمته هو وصديقه عمرو إبراهيم بموجب أحكام تكفيرية تم تخزينها في ذاكرة الإنسان العربي، إزاء الرواية، وأن إعدام مؤلفها مسألة وقت بالنسبة للذين لم يقتنعوا بالمؤسسات القضائية الرسمية.
وهذا ما حدث تماماً بمقتضى توجيهات من رجل الدين محمد الغزالي تحديداً، الذي كان من أوائل الذين طالبوا بمنع نشر روايته، عندما كتب تقريره المعروف حول مفاسد الرواية. إلا أن الأمر اختلف بعد نجاح الإرهابيين في اغتيال فرج فودة، حيث قال بأن «قتل فرج فودة هو تطبيق لحد القتل للمرتد لأن الإمام فشل في تطبيقه»، بمعنى أن المبدع أو المفكر عندما تتم موضعته في خانة العداء للدين، سواء بمحاكمة رسمية أو شعبية مدفوعة بتحريض من رجال الدين، فإن هذا يعني أن حكم الإعدام قد صدر ولا يمكن ردّه أو تغييره، أما صاحب الفتوى الصريحة بقتل فرج فودة فهو رجل الدين عمر عبدالرحمن، بالإضافة إلى طابور طويل من رجال الدين الذين لا زالوا يهاجمون أدب نجيب محفوظ وفكر فرج فودة حتى بعد رحيلهما،
هذا المنطق التصفوي ليس جديداً في ميدان العلاقة ما بين رجال الدين والمبدعين، بل هناك مرجعيات موجعة تمتد في أعماق التاريخ، حيث قُطعت أوصال ابن المقفع وطُبخت أمامه، وتمت تصفية الطبري، وأُعدم السهروردي، وحُرقت كتب ابن رشد، وصُلب الحلاج، أما قائمة التكفير فهي طويلة وتمتد على حبل طويل منذ لحظة الرازي والفارابي وابن سينا إلى اليوم، سواء باتجاه كامل منجز المبدع الفكري، أو داخل مفصل من مفاصله، حيث تم التفريق بين نصر حامد أبو زيد وزوجته، وتمت استتابة رشيد بوجدرة، وتعرض حلمي سالم لمحاكمة قاسية بسبب قصيدة «شرفة ليلى مراد» تماماً كما حدث لرواية حيدر حيدر «وليمة لأعشاب البحر» ولمجموعة موسى حوامدة «شجري أعلى» ولقصيدة محمود درويش «أنا يوسف يا أخي»، وغيرها من المجابهات التي رافقتها حملات التكفير وإهدار الدم والنفي، المهم أن كل تلك الأسماء والإبداعات، تم تصنيفها في خزان النصوص الآثمة التي يُحرم الاقتراب منها أو احترام منتجيها.
كل من يموضع في خانة المارق هو هدف للقتل ولو بعد حين، هذا هو منطق أعداء الحوار في الحياة الثقافية العربية، المتربصين بأي محاولة تعبيرية لا تتفق مع مرئياتهم، وإن كان التاريخ يشي بانتباهات داخل مفاصل اجتماعية مغايرة لمحاكمة النص الأدبي، فأقصى ما طالب به مدير جريدة «اللوفيغارو» غوستاف غوردان بعد سلسلة مقالات تحقيرية وتحريضية ضد ديوان شارل بودلير «أزهار الشر» أن يحبس الكتاب وليس الشاعر في درج مهمل، وقد قصد بالدرج البارد ذلك (القبو الصغير التابع للمكتبة الوطنية التي دُفن فيها الكثير من أمثال هذه الكتب التي تم منعها)، أما الآباء الكاثوليك الذين سحبوه إلى المحاكم في الغرفة التأديبية السادسة في باريس عام 1857 فلم يصلوا إلى أكثر من تغريمه ثلاثمئة فرنك وحذف بعض القصائد، وكل ذلك في مدار مقولة نابليون الثالث «ليس في مقدورنا إبادة المثقفين، إلا أننا نستطيع التضييق عليهم».
تلك مجرد حلقة من حلقات التصادم ما بين المثقف ومفاعيل السلطة بكل تمثلاتها، حيث يحتفظ التاريخ الإنساني بقائمة طويلة من الكتب المحروقة ومن النصوص المحرمة التي كانت ممنوعة من التداول في أقطار وثقافات مختلفة بذرائع أيديولوجية، إلى أن تحولت تلك النصوص إلى علامات في تاريخ الأدب الإنساني، حيث منعت رواية جورج أورويل (1984) في الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وبريطانيا، كما حوربت رواية سلمان رشدي «آيات شيطانية» في مختلف الدول العربية والإسلامية، ورواية «رب الأشياء الصغيرة» في الهند، ورواية دان براون «شيفرة دافنشي» في لبنان، ورواية اريش ماريا ريمارك «كل شيء هادئ على الجبهة الغربية» في ألمانيا، ورواية فلاديمير نابكوف «لوليتا» في فرنسا والأرجنتين ونيوزلندا، حتى «أليس في بلاد العجائب» منعت في الصين، لتتمدد القائمة إلى روائع الأدب الإنساني ورحيقه كرواية هنري ميللر «مدار السرطان» ورواية فلوبير «مدام بوفاري» ورواية كافكا «المسخ» وهكذا.
لم يتصالح المجتمع الإنساني مع الأدب الجريء بالصدفة، بل بموجب تراكمات حقوقية ومراودات نهوض حضاري شامل، حتّم بدوره مرافعات مدنية من داخل النص الأدبي، إلى أن اتخذت تلك الطريقة من المجابهات الرقابية الحادة أبعاداً أخرى تصب في صالح السلم الاجتماعي والنص الأدبي بطبيعة الحال، وفي هذا الصدد يمكن بل ينبغي التذكير بمحاكمة رواية «ليدي تشاترلي» حيث أُتهم مؤلفها دي اتش لورنس بمخالفة الآداب العامة والإخلال بها، وقد عقدت المحكمة عام 1960 لتحديد ما إذا كانت ستنشر في بريطانيا أو ستظل محظورة، ولذلك تم استدعاء أكثر من خمسين خبيراً للشهادة من أهم أدباء ومثقفي اللحظة أمثال، إي إم فورستر، وريتشارد هوغارت، وريموند ويليامز، وذلك للحديث حول مقاصد ومنازع وخصائص تلك الرواية الفارطة في الحسّية، وقد تم الانتصار في نهاية المطاف إلى حرية الكاتب في التعبير بإجازة القاضي لنشر الكتاب.
أما في الحياة الثقافية العربية فما زال هذا البعد التفاوضي على النص مغيباً، ففي كل تلك المعارك التي راح ضحيتها أدباء، سواء بالقتل أو السجن أو النفي أو تشويه السمعة، لم يُناقش النص الأدبي ضمن مداراته المجازية والاستعارية والتصويرية، بل تم تخزينه في الذاكرة العربية في مستودع النصوص الآثمة، ولم تستمع المحاكم الشرعية أو الاجتماعية المأخوذة بسطوة المؤسسة الدينية إلى نداءات النص الداخلية، وما تختزنه أليافه وطياته، ولم تكلف خبراءها من المختصين باللغة والأدب بفحص البُنى العميقة لتلك النصوص، وطبيعة المعاني المتولدة عنها، بمعنى أنه لم يكن لا للأدباء ولا للنقاد أي حضور في أجواء تلك المحاكمات بسبب الإقصاء الذي تمارسه المؤسسة الدينية لتستفرد بالكاتب ونصه، بحيث لا تتحول مأساته إلى قضية رأي عام، يمكن من خلالها الضغط على ضمير ونوايا المتربصين بالكاتب.
في الحياة الثقافية العربية غالباً ما يحاكم المبدع العربي لأنه حاول المساس بالذات الإلهية من خلال شطحة استيهامية، أو أراد أن يحاكي قدسية القرآن الرباني بنص دنيوي، ذاتي النزعة، أو لأنه تجاوز خطوط صرامة الخطوط المرسومة لما يجوز وما لا يجوز من الآداب، حيث تبدو بؤرة (التناص) هي الأكثر وعورة وإغراء لتأثيم النصوص، وكل ذلك من وجهة نظر أحادية تتبناها المؤسسة الدينية، وتمتلك وحدها حدودها التفسيرية، سواء باجتزاء النصوص من سياقاتها، أو تقويلها عوضاً عن تأويلها، أو إعادة موضعتها في سياقات تُخل بمقاصدها، الأمر الذي يصيب الجماهير بحالة من الهيجان لتأديب الكاتب المارق، كما يتأهب صانع القرار السياسي لبتر كل ما يمكن أن يؤدي إلى فتنة أو خدش بالمعتقدات، إلى الحد الذي باتت الذاكرة العربية تحتفظ بمعجم للنصوص الآثمة بمقاييس مفاعيل السلطة السياسية الدينية الاجتماعية.
كل ذلك الفراغ التقويمي الذي يذهب ضحيته المبدع نتيجة قراءات كيدية قاصرة ومدّبرة، يؤكد الحاجة إلى إعادة النظر في معايير مساءلة الإبداع عربياً، وإبدال مرجعيات الحكم على النص، إذ لا يعقل أن تكون المؤسسة الدينية هي المدّعي والمحقق والقاضي والمرجع الاستشاري في كل قضية من قضايا النص الأدبي الإشكالي الموصوف بالمتجاوز، بمعنى أن يكون لخبراء تحليل النصوص رأيهم المسموع حول المجازات والاستعارات والتناصات والخيالات التي يتكئ عليها النص. أما ذهنية مقاربة النصوص في حدود (إعراب الفاعل) فهي لا تصلح للحكم عليها أو تقويمها، بقدر ما تراكم عدد الأسماء المغضوب عليها في خزان النصوص الآثمة، لأن التاريخ الأدبي والإنساني الذي قال كلمته بحق نجيب محفوظ لم ينتظر ولم يعبأ بما كتبه رجل الدين عبدالحميد كشك محرضاً على قتله في «كلمتنا في الرد على أولاد حارتنا»، لأنه لم يتواصل أصلاً مع النص لافتقاره إلى تلك القدرة التي لا يجيدها إلا محبو الإنسان والحياة والأدب.
كاتب سعودي
محمد العباس
هنالك ما أسميه ( الضرورة السردية ) في الرواية والتي ﻻ يتسنى للراوي أن يتخطاها إلا بتجاوز قدرا” من الخطوط الحمراء. وعلى الرغم من ذلك ، فإن المبدع يملك من المهارة ما يبقيه محلقا” في فضاءات الإبداع مع الحفاظ على الشعور الجمعي المعتقدي .