بصرف النظر عن مختلف المنظومات الفكرية أو الجمالية التي يندرج فيها حضور الخطاب، بما هو حضور خلق وإبداع، فإنه يستمد ديناميته من قلب ميله الدؤوب إلى إعادة فعل التفسير، التحليل والتأويل، مع توخيه ما يكفي من الحرص، قصد تلافي الوقوع في ضحالة التكرار، كما يستمد هذه الدينامية من حرصه على مضاعفة تنشيط آليات البحث والتنقيب عما يمكن أن يكون محتجبا فيه/عنه، وكذلك عبر اعتماده منهجية إعادة قول ما سبق قوله، بكل ما تطوله كفاياته أو لا تطوله من صيغ تحويلية وتجريبية، انسجاما مع تعاقب الضوء والظلمة على أرضه، كما على سمائه، وانسجاما كذلك مع تعدد مراوحاته بين ظاهر الصورة وباطنها، ضمن ما يعتري بنياته من تغيرات خلال عبوره المتتالي لفصول الكلام. وفضلا عن كون الخطاب فضاء مشتركا لتقاطع العلامات والإشارات بمرجعياتها المتعددة، فإنه أيضا جماع خطابات موسومة بتنوعاتها واختلافاتها وبحثها الدائم عن تشكلها المؤجل، حيث يؤدي الظهور المطرد لمكوناتها وملحقاتها في ثنياته، إلى إحداث تقطعات وتصدعات بنائية على أرضيته، كمؤشر ملموس لحضور أعراض حياة، وإرهاصات دنو، تماس، تجاور، أو تحاور. وبالنظر إلى استحالة استيفاء الخطاب لشمولية بنائه، بحكم انفتاحه الدائم على تلك الاستضافات، وكذا الاختراقات المتتالية الواردة إليه من قبل مكونات القول والاستدلال والتأويل، فإنه – وتبعا لذلك- يظل عرضة للإصابة بهشاشته الكامنة فيه، التي تقوي حاجته إلى سلطة موازية ترعاه، وتضفي على ظاهره مسحة من التماسك المضلل الذي يساهم في تأمين عملية امتداده عبر الأمكنة والأزمنة، كما يساهم في شحنه بجاذبية التلقي، من خلال تخصيبه لتربة مقروئيته، وتفعيله لإغراء رؤيته والإنصات إليه، إلى جانب توظيف مجموع التقنيات والوسائط المعتمدة عادة من قبل المنابر المحتمية بسلطة المركز، بغاية إكسابه حدا أدنى من المصداقية والمشروعية. وتحضرنا في هذا السياق غير قليل من الخطابات الإبداعية التي لم تسلم من مأساة الاستماتة في الفوز بالحق في الحضور، عبر توسلها لتلك الوسائط المقيمة خارج مسكنها، والتي تأبى أن تظل مجرد وسائط ثانوية، كي تتحول لاحقا، رغم لا شعريتها، إلى مؤثثات هجينة تحتل حيزها المهيمن داخل مسكن الكتابة.
أحيانا يعمد جنس معين من أجناس الخطاب، إلى استقطاب تحالفات المركز والهامش، من أجل الفوز بخدعة الحضور ووهمه، خاصة حينما يتعلق الأمر بضرورة تواطؤ/تحالُفٍ تمليه شروط لحظة حاسمة يتنازلان فيها ولو مؤقتا عن تناقضاتهما، في أفق إجهازهما على خصوصية خطاب ما قد يبدو لهما مغايرا، أو مقبلا على تحوله إلى مصدر تهديد لحضورهما.
غير أن الخطاب ذاته المثقل بأعطابه، قد يكون مهيأ في كثير من الأحوال لتقمص خطابات مضادة لتوجهاته، حينما يتظاهر بتشابهه وتماهيه معها تحت أنظار القراءة الطيبة، أو حينما يتقدم إلى هذه القراءة باعتباره امتدادا لمسار سابق، ربما كانت المعايير المعتمدة فيه، تعمى عن رؤية هذه الأعطاب، إن لم تكن تعتبرها نتيجة وعي مغلوط موضوعية ومنزهة عن كل انتقاد يمكن أن يطعن في مصداقيتها. وهو الخلط الذي يدعونا إلى إعادة النظر في مصدر هذه المصداقية التي كانت إلى حين تضفيها بعض القراءات المتواطئة عليها، حيث سيتأكد بجلاء أن الأمر لا يتعلق بمجرد أعطاب طارئة، بقدر ما يتعلق ببؤس وفقر متأصلين في ذات الخطاب، كما في مصداقيته.
الخطاب وفخاخ التوافق
غير بعيد عن ذلك، يتموضع الخطاب المرابي وقد تصدر المشهد بحضوره المهيمن، خاصة في أزمنة الالتباسات الكبرى، تلك التي تتاح خلالها فرص اختلاق أنماط هجينة من المفاهيم والاستدلالات المنسجمة مع حالة التعتيم العام التي تكون مستبدة بهذه المرحلة أو بغيرها، خاصة أن الأزمنة الملتبسة تتميز عادة بتغليبها لملابسات الخلط، وتحجيمها لمواصفات الفهم والتقييم، إلى جانب تميزها بانحسار سلطة العقل على حساب تنامي مكائد سلط الإجماع ذات المنزع النفعي والانتهازي، علما بأن أزمنة الالتباسات الكبرى، هي الإطار الملائم لانتعاش ظاهرة التفريخ الممنهج للتوجهات المشبوهة، والمتخصصة في تصنيع الخطابات المترجمة لتوافقاتها.
والتوافق هنا يتضمن حضور قمع مستتر، ذي صيغ تواصلية أنيقة تحجب ما يعتمل فيه من تحالفات معبأة ضد كل موقع يعبر بشكل أو بآخر عن رفضه لدعوة الاندماج في أنساق خطاباتها، حيث تتماهى دلالة التوافق مع ذلك الدرع الرمزي الموجه لحماية حرمةِ داخلٍ ما، من انتهاك خارجٍ محتملٍ، لأن هذا الخارج وبصرف النظر عن مرجعياته وخصوصيته، يعتبر من وجهة نظر الخطاب التوافقي وباءً حقيقيا ينبغي تطويقه واستئصاله، ولو أدى الأمر إلى اعتماد القوة المفرطة، تحت ذريعة اعتباره مصدرا مركزيا من مصادر الخلل الكوني.
ثنائية حكمة التوافق وعنفه
من هذا المنطلق- وبمقاييس الخطابات المعولمة دائما- تصبح الحكمة الحداثية ذات التوجه الكوني والمعززة بوحشية الإكراه، مؤهلة لبناء خطاب مزدوج ومحكم لا يتسرب الشك إليه، كما يتعذر اختراق ظاهره، أو القبض على مكونه الفعلي المضمر فيه، ذلك أن الحكمة الكونية، ومن منطلق توجهها المتوحش، تقوم بدور أساسي يتجسد في تقنية إخفاء العنف الملازم للتوافق، الذي يمكن أن يعلن عن وجوده في اللحظة المناسبة، أي لحظة الحسم التي يتصدى فيها خطاب التحالف/التواطؤ، لذلك الخارج اللامندمج، بلؤم أكذوبة تحمل اسم التوافق، والمبادرة بوضع حد لتلك الشرارة المتوعدة بقرب تطايرها من هناك، تجاه منصة الحَطبِ. في هذا السياق يكون للحكمة ذاتها، شكل قفاز حريري يحجب قبضته الفولاذية عن الأنظار.
خطية الخطاب ومنعطفات الكتابة
والمثير للجدل أن الخطابات التي تفرزها هذه الأزمنة، تأخذ في البداية شكل كرات نارية تتطاير عشوائيا من الأرض، كما تتهاطل من السماء، محدثة حالة من الحبسة التأويلية والتحليلية، حيث لا يملك معها التلقي سوى الاستسلام التام والمطلق لقوانينها. وحالما تطمئن هذه الخطابات إلى إحكام سلطتها على التلقي الكوني، تجنح إلى هدوئها الملغم، عبر انتظامها في خط مستقيم، يسبغ عليك طمأنينته الغامضة وقد أعفاك من تعب التركيز، مادامت الاستقامة الخطية للخطاب عموما، تمكنك من القدرة على السير بعينين مغمضتين، من دون أن تكون بحاجة إلى توخي الحذر، أو إلى تنشيط ذاكرتك، عساك تستضيء ولو قليلا بنور العقل. كما أن استقامة الخطاب برتابتها الخطية وحمولتها الدلالية المفبركة، توحي بالحضور الكاسح لسلطة اليقين الكاذب الخبير بتشغيل تقنيات إطفاء جذوة الحجاج.
غير أن هذه السلطة تظل مهيأة للاهتزاز بتأثير من تدخل «متغير الكتابة» ومنعطفاته التي هي منعطفات التعارضات والتقاطعات في محيط ما كان يبدو إلى حين، منسجما ومتناغما فيه. إنه المتغير الذي يسرب آلية القلق/التصديع، بما هو آلية فضح وتفكيك للاستقامة المموهة، وبما هو إرجاع للأنساق إلى نصابها المرجعي، باعتباره نِصابا محكوما بقوة تأرجحاته التي تنفلت من رقابة الخط المستقيم،من أجل تأجيج أوار خطوط شبكية تكتسح هندسة الفضاء. غير أن الخطاب المعبأ بتفاعلاته وتحولاته وقد أمسى موجها بمتغير الكتابة، لا يندفع خارج الاستقامة البدئية بشكل متهور نحو مجهوله، بل يعمد إلى القيام بارتداداته العفوية والتلقائية التي تسعفه في ضبط ما اجتازه من مسارات هي تباعا في طريقها للطي.
إنها الارتدادات التي تتأكد بها الكتابة من موقع انطلاق الإشارات، كي تتمكن من اختبار قوتها الإجرائية، ومن معرفة حدود احتفاظها بقوة البث. إنها ليست ارتدادات نوستالجية أو مشوبة بمسحة تردد يعود إلى فقدان الثقة في جدوى مواصلة تلوين الشاشة للكلام، بل هي ارتدادات معززة بما تستدعيه أسئلتها المتناسلة من خطوط لا حدود لتشكيلاتها. كما أنها ارتدادات عضوية، ذات دور أساسي في تعميق الحفر، وفي توهيج أثر العبور/الغدو والرواح.
شاعر وكاتب من المغرب
رشيد المومني