ألقى رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي يوم السبت الماضي «خطاب النصر»، وجاء فيه أن العراق قد تحررت اراضيه كلها من عناصر داعش ، وان القوات العراقية قد وصلت إلى آخر معاقله وطهرتها منه، وان العلم العراقي يرفرف اليوم فوق جميع الأراضي العراقية، وعلى أبعد نقطة حدودية، وان العراق اليوم دخل مرحلة ما بعد النصر على داعش.
وان هذا النصر إنما تحقق بوعي العراقيين ووحدتهم وتضحياتهم، وفتوى الجهاد الكفائي التي استجابت لها «الجموع المؤمنة»، وان الحرب كانت وطنية شاملة قل نظيرها، وان الحشد الشعبي قد تشكل على أساس هذه الفتوى! وإن وحدة العراق وشعبه أهم وأعظم انجاز بعد اكتمال فرحة النصر بالحفاظ على وحدة العراق، ومن ثم سيتم المضي لتحقق العدالة والمساواة واحترام الحريات والمعتقدات والتنوع الديني والقومي والمذهبي والفكري والالتزام بالدستور والعمل على سيادة سلطة القانون في جميع انحاء البلاد فضلا عن حصر السلاح بيد الدولة. وفيما يتعلق بإعادة الإعمار كان الخطاب واضحا حيث ان الهدف لن يقف عند حدود إعمار المدن المحررة، وإنما سيشمل كل مدن العراق التي خرج منها المقاتلون واستشهدوا دفاعا عن وطنهم»! وأعلن البيان أن محاربة الفساد ستكون الامتداد الطبيعي لعمليات التحرير.
ومن الواضح ان البيان كان متفائلا بشكل مفرط، فالجميع يعلم أن من المبكر الإعلان عن هزيمة نهائية لتنظيم الدولة في العراق، إذ لا يزال التنظيم موجودا في مساحات واسعة من الأراضي العراقية، وأن الوضع رجع الى ما كان عليه في نهاية العام 2013، أي قبل سيطرة التنظيم على مدينة الفلوجة ومساحات واسعة من مدينة الرمادي في بداية 2014، ثم سيطرته لاحقا على مدينة الموصل في حزيران/ يونيو من العام نفسه، والتي تبعها بالسيطرة على ثلث مساحة العراق. وبالتالي ما زال لدى تنظيم الدولة/ داعش القدرة على خوض حرب استنزاف ضد القوات العسكرية والأمنية العراقية، فضلا عن قدرته على القيام بعمليات ارهابية نوعية كالتي كان يقوم بها من قبل، خاصة وان التكتيك العسكري الذي اعتمدته القوات العراقية في حروب السنوات الثلاث الماضية، وما قبلها، والمبني على عناصر ثلاثة هي: قوات قتالية كبيرة، وكثافة نارية عالية، وغطاء جوي أمريكي بشكل رئيسي (بسبب محدودية قدرة القوة الجوية العراقية)، لا يمكن اعتماده اليوم لملاحقة أفراد أو مجموعات في مساحات صحراوية شاسعة مليئة بالوديان، أو في مناطق جبلية أو وعرة كما هو الحال في جبال حمرين ومكحول لا سيما والقوات العراقية غير مؤهلة حتى اللحظة للقيام بعمليات خاصة تعتمد على قوات مرنة في الحركة وذات تدريب عال يمكنها ملاحقة تنظيم الدولة في المناطق التي يتواجد فيها.
والواضح ايضا من خطاب النصر هذا، أن العبادي لا يزال يعتمد تمثلاته الخاصة التي لا علاقة لها بالحقائق والوقائع المعلنة أو غير المعلنة دون ان ينتبه إلى ان اللغة نفسها لا تتسق مع هذه التمثلات! فحديث الفتوى والجموع المؤمنة لا يمكن لها ان تتسق مع حقيقة أن العراق مجتمع تعددي، وان هذه الفتوى وهذه الجموع المؤمنة تمثل طيفا واحدا من أطياف المجتمع العراقي ولا تمثل العراقيين جميعا! وبالتالي فان وصف المعركة بالوطنية تعكس تمثلات العبادي والفاعل السياسي الشيعي حصرا والذي احتكر قرار مواجهة داعش!
وبالعودة إلى الوقائع، فان البرنامج الحكومي لحكومة العبادي نفسها، فضلا عن الوثيقة السياسية التي تشكلت بموجبها حكومته، تحدثت عن «حرس وطني» يعتمد على قوات محلية، يتم تشريع قانونه خلال ثلاثة أشهر من لحظة منح الثقة للحكومة! ولكن الفاعل السياسي الشيعي كان له رأي آخر تمثل بدعم ميليشيا عقائدية ذات بنية طائفية لضمان هيمنته على الدولة، وضمان احتكاره للسلطة، واخيرا ضمان فرض هوية أحادية على الدولة! هكذا يتعمد العبادي إنكار الاعتراضات السنية والكردية الصريحة على هذه الميليشيات، ومن بينها المقالة التي كتبها رئيس مجلس النواب سليم الجبوري في صحيفة النيويورك تايمز التي طالب فيها بإبعاد هذه الميليشيات عن معركة الموصل، بل انه يتعمد القفز على الاعتراضات الأمريكية على مشاركة هذه الميليشيات في معركتي الفلوجة والموصل في بدايتها على الأقل!
كما أنه يسوق سردية وهمية لا علاقة لها بالواقع عندما يتحدث عن ميليشيا الحشد الشعبي بوصفها نتاجا لفتوى الجهاد الكفائي، في حين ان الجميع يعرف أن العدد الأكبر من هذه الميليشيات كان قائما قبل الفتوى، وبعضها كان يقاتل في سوريا لدعم النظام هناك بتواطؤ صريح من بغداد! بل إن ثمة قرارات صدرت عن مجلس الوزراء ورئيس مجلس الوزراء قبل ثلاثة أيام من الفتوى تحدثت عن «متطوعين» و»تسليح» و»دعم لوجستي»! كما يعلم الجميع ان الفتوى التي نصت على ان «على المواطنين الذين لديهم القدرة على حمل السلاح، التطوع للانخراط في القوات الامنية « قد تم استغلالها سياسيا لشرعنة هذه الميليشيات فقط! والمسألة الأهم هنا أن النسبة العظمى من هذه الميليشيات لا تقلد مرجعية السيد علي السيستاني من الأصل، وبالتالي هي غير ملزمة بفتواه! فالغالبية العظمى من هذه المليشيات (90٪ منها) تؤمن بمبدأ الولاية العامة المطلقة للفقيه (ولاية الفقيه)، وبالتالي هي تقلد مرجعية الخامنئي، وأوامر الاخير هي الملزمة لهم لأنه يمثل بالنسبة لهم الولاية نفسها التي يمتلكها الإمام المعصوم عند الشيعة الامامية (يصف الخميني في كتابه «الحكومة الاسلامية» هذه الولاية بانها الولاية نفسها التي كانت ثابتة للرسول الأكرم (ص) والأئمة المعصومين من بعده، وان القول بأن صلاحياتهم أكثر من صلاحيات الفقيه توهم خاطئ وباطل)، وهذه الميليشيات تعلن هذا الالتزام صراحة دون مواربة!
وإذا ما تجاوزنا الكلام الانشائي عن العدالة والمساواة واحترام الحريات والمعتقدات والتنوع الديني والقومي والمذهبي والفكري والالتزام بالدستور والعمل على سيادة سلطة القانون وحصر السلاح بيد الدولة، التي لا تخرج أيضا عن تمثلات وتأويلات الفاعل السياسي الشيعي لمحتوى هذه التعبيرات ولا تعني شيئا حقيقيا على أرض الواقع! فان الحديث عن إعادة إعمار مناطق منكوبة بالكامل بالتوازي مع إعمار مناطق «المحرِرين»، يعكس مرة اخرى رؤية أحادية ذات طبيعة طائفية تماما فيما يتعلق بإعادة إعمار المناطق التي تضررت بفعل العمليات العسكرية، ومن بينها مدن وصلت نسبة التدمير فيها إلى ما يزيد عن 80٪ (الجانب الأيمن من الموصل، والرمادي، وبيجي ومصفاها)، عندما يساوي بينها وبين مناطق أخرى لم تتعرض لأية عمليات عسكرية! و الامر هنا لا يقف عند حد الخطابات، فمراجعة سريعة لتخصيصات الميزانية الاتحادية لعام 2018 والتي تناقش اليوم في مجلس النواب، تكشف عن عدم تخصيص أي مبالغ لإعادة الإعمار في المناطق المنكوبة خارج إطار التوزيع التقليدي المعتمد لتخصيصات المحافظات طوال السنوات الماضية، ومن ثم فان أي حديث عن استراتيجية محلية لإعادة الإعمار مجرد دعاية في ظل الوضع الاقتصادي الحالي للعراق!
والاهم من ذلك كله فان البيان لا يطرح أية مقاربة سياسية لمعالجة المشكلات الجوهرية التي كانت سببا رئيسيا في انتاج التطرف في العراق! فالبيان يحاول الايهام بأن داعش كانت المشكلة الجوهرية في العراق، وان هزيمتها المفترضة عبر المقاربة العسكرية والأمنية قد انهت الازمة العراقية ككل! وهذا دليل إضافي على أن درس داعش لم يتم الافادة منه مطلقا! كما ان التعكز على شعار وهمي حول مكافحة الفساد يظهر مرة أخرى عدم القدرة على الاعتراف بأن هذا الفساد ليس فسادا فرديا بل هو جزء من بنية الدولة نفسها!
أخيرا لقد عدنا إلى الوضع الذي كان موجودا عمليا في نهاية العام 2013، مع كل المشكلات التي كانت قائمة حينها، مع إضافة ثلاث مشكلات أخرى هي فض الشراكة/ الصفقة بين الفاعل السياسي الشيعي والفاعل السياسي الكردي التي حكمت الوضع العراقي بعد عام 2003، ومشكلات النازحين وعودتهم ومدنهم المدمرة، ومشكلة المليشيات التي يراد لها ان تحكم المحافظات السنية كإقطاعيات تابعة لها بتواطؤ مطلق من الدولة! وبالتأكيد فان بيانا انشائيا مثل بيان النصر لا يعكس أية إرادة لحلول حقيقية بقدر ما يعكس إرادة أحادية لفرض أمر واقع تكرسه علاقات القوة المختلة القائمة!
٭ كاتب عراقي
يحيى الكبيسي
النصر المزعوم كان للأمريكان وطائراتهم بالعراق
كما هو النصر المزعوم لبشار كان للروس وطائراتهم بسوريا !
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقالل موضوعي يفسر بيان إنشائي مملوء بالفقاعات و خالي من الحقائق.
مقال تشكر به دكتور