قرأت في موقع تويتر، الأسبوع الماضي، تغريدة متفردة، قال صاحبها إنه قرأ مؤخرا رواية صغيرة، لكاتب عربي معين، ذكر اسمه، لم يسمع به من قبل، ويعتقد أنه من الكتاب الشباب المظلومين إعلاميا، لذلك كتب الاسم ليتذكره الناس.
الكاتب الذي وضح صاحب التغريدة ذلك عنه، هو في الحقيقة من جيل قديم في الكتابة العربية، بل هو من جيل الرواد في القصة والرواية، وظهرت أعماله منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وأنه كان وما يزال مشهورا جدا، وصاحب قراء وتلاميذ بلا حصر، ومات منذ سنوات ليست بعيدة، وكان قد شاخ في العمر، لكن قلمه ظل نابضا بالإبداع كله، حتى رحل.
حقيقة أشعر بالأسف فعلا أن يكون القارئ العربي، في أيامنا هذه، متلهفا للكتابة في تويتر وفيسبوك، وغيرهما، ووضع الصور والفيديو، في انستغرام، وسناب شات، من دون أن يفكر لحظة أنه قد يكون يدون أشياء مضحكة، وممعنة في الغباء.
ليس الناس بالطبع مطالبين بأن يعرفوا كل من كتب ومن رسم ومن لعب الكرة في الشوارع والأزقة، ومن غنى، ومن طرب ومن رقص، ومن قتل قتيلا ومن مات مقتولا ومن فعل أو لم يفعل أي شيء في هذه الأرض. لا نطلب ذلك من أحد بكل تأكيد ولن يتحقق حتى لو طلبناه، لكن لوحة مفاتيح الكومبيوتر، التي تركض بسرعة غريبة نحو تويتر، وغيره لتسجل جملة ما، يمكنها أيضا أن تركض، أو حتى تزحف ببطء إلى غوغل وغيره من محركات البحث المنتشرة على الإنترنت، لتتأكد من صدق المعلومة قبل أن تبثها قولا محكما.
غوغل بالذات محرك قوي وشديد البأس، ويأتي بالنملة الإلكترونية من جحرها في ثوان معدودة، ولطالما استخدم في أغراض كبيرة وصغيرة، ومعروف أن عددا كبيرا من الطلاب الدارسين في مختلف المراحل التعليمية، والتخصصات، يستخدمونه في البحث عن معلومات يريدونها، عوضا عن المكتبات القديمة، التي كانت مصادر سخية ووحيدة للمعلومات، فيما مضى، والكتاب أيضا، يستخدمونه مصدرا للمعلومات التي يلمونها من أجل الكتابة. وكل الأخبار التي تأتي فيه حتى لو كانت غير دقيقة، تبدو أخبارا يمكن الاعتماد عليها إلى حد ما. وتوجد بالطبع بعض الخرافات التي يلهث خلفها من يهمهم الأمر، كأن يقرأ أحدهم عن اكتشاف علاج قاطع لمرض السكر، الذي ليس له علاج قاطع حتى الآن، فيلهث إلى الطبيب حاملا البشرى ومستفسرا عن ذلك العلاج الذي لن يكون متوفرا يوما ما. وقد جاءني مرة أحد المرضى برسوم تخطيطية، استخلصها من غوغل، وكانت لجهاز قيل إنه يوضع على البطن، فينشط البنكرياس، وينتهي مرض السكر، ولم يكن في الحقيقة جهاز بهذه المواصفات.
صاحب التغريدة، إذن، قرأ رواية للكاتب الكبير، الرائد، الراحل، وربما لا يكون قرأها لأن سيرة الكاتب وصورته غالبا ما توضع على الغلاف الخلفي، وأي متصفح لكتاب لا بد يقلب أوراقه قبل أن يبدأ المطالعة. وحتى لو لم تكن الصورة موجودة، والسيرة موجودة، فالقارئ الجيد يشم العتاقة في الأسلوب والمفردات، ويعرف إن كان الكاتب كبيرا وهو لم يسمع به من قبل جهلا منه، أو صغيرا ومغمورا ويمكن أن يكون ظلم إعلاميا خاصة إن كان نصه جيدا.
مع ذلك كله، هناك مبدعون يبدون محصنين ضد عدم المعرفة هذا، ولدرجة أحس معها أنهم موجودون في حليب الأمهات الذي يرضعونه للأطفال. فلا أحد في الدنيا حتى لو لم يكن قارئا منتظما للأدب، لا يعرف غابرييل غارسيا ماركيز، وقصته الخالدة «مئة عام من العزلة». ولا أحد في وطننا العربي من أي جيل، وحتى لو كان أميا لم يدخل المدرسة، ولم يقف على أبوابها، لا يعرف توفيق الحكيم وطه حسين ومصطفى لطفي المنفلوطي وجرجي زيدان وجبران خليل جبران ونجيب محفوظ، هؤلاء ركائز الكتابة في كل زمان ومكان، تأتي الأجيال وتبدع، ويظلون موجودين وشامخين، تماما مثل البنيان القوي الصلد، موجود ويظل موجودا في أي وقت. وأذكر أنني كنت في المرحلة المتوسطة حين بدأت أقرأ لهؤلاء، ولم تكن أسماؤهم غريبة أبدا، وبالذات الكاتب الذي ذكره صاحب التغريدة. كنا في مدينة الأبيض في غرب السودان البعيد في ذلك الوقت، وكانت كتبه موجودة هناك، ويشتريها الناس بعادية مطلقة، ولا أحد يحس بالغرابة أو الرغبة في طرح سؤال عن هوية الكاتب. وصادف أن أقيمت فعاليات ثقافية حضرت جزءا منها في مقر فرقة الفنون كما أذكر، وكانوا يناقشون رواية «السمان والخريف» لنجيب محفوظ، ورواية «في بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس، بجدية كبيرة، شارك فيها قراء من كل الأجيال.
لقد تحدثت وربما تحدث آلاف غيري عن موضوع سطوة التكنولوجيا على العقل، في زمننا هذا، بحيث أصبح من المستحيل أن يحدث شيء واقعي لا يتم نقله إلى الفضاء الافتراضي الرحب، في ثوان معدودة: الأكل، الشرب، السفر، التنزه، التسوق، اتساخ البيوت ونظافتها، الآهات في الشوارع، الفرح، الحزن. وتجد شخصا صادف حصاة عادية جدا وخاملة في أحد الأزقة، وضع صورتها وكتب، صادفتني هذه الحصاة، وابنا من المفترض أن يكون مهتزا، مكلوما على فراق أمه التي ماتت منذ دقائق، يسرع إلى موقع التواصل ليكتب: أمي ماتت، ويظل مرابطا حول الموقع ينتظر من يعلق ومن يضع علامة إعجاب، ومن يختار ملصقا الوجه الحزين الدامع، ليضعه تعبيرا عن المؤازرة، هكذا. وقد كتب صديقنا الروائي السوري خليل صويلح مرة يقول: غير معقول ذلك، فإن موت أمك ليس خبرا عاجلا للبشرية، لتنقله إلى الفضاء بهذه السرعة، اجلس قليلا، مع نفسك، إبك امك، استعد ذكريات معها، بدلا من وضعها خبرا والجلوس في انتظار ما تحصده من زيارات لمنشورك الخالي من أي عاطفة.
في السياق نفسه، أي استخدام لوحة المفاتيح في نقل أشياء ليست حقيقية، ولم يرد صاحبها أن يتأكد منها، ما نراه من نعي للكتاب والفنانين، وأخبار زيجات وطلاقات لنجوم أو هكذا يسمون، ربما لم تحدث أبدا. وأذكر أن شاعرا تم نعيه عشرات المرات وما زال حيا، ويمشي مستقيما بلا عصا حتى، ويكتب الشعر العاطفي أيضا، وروائيا من جيل قديم مات بعد تكرار نعيه الذي استمر ثلاثة أو أربعة أعوام. وقد اعتدت حين أعثر على خبر مستفز أن أنقب جيدا، وأستعين بكل إمكانيات البحث المتوفرة لأستوثق منه قبل أن أتذوقه تماما.
في النهاية، وبقدر السعادة الغامرة التي نحس بها حين نسمع عن تكوين جمعيات للقراءة في البلاد العربية، يحاول أعضاؤها اقتناء الكتب، ومناقشتها في جلسات جماعية، وبعض تلك الجمعيات، في بلاد تبدو خـالـيـــة من روح الــحــيــاة حتى، بسبب الحروب والمجاعات والحصار، يأتي من يذكرنا بأن الزمن ليس للقراءة الحقة، واقتناء الكتب عند الكثيرين، مجرد تسوق عادي، بلا مزاج ولا رغبة جادة في المعرفة.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
لن يفقد الكتاب الورقي مكانتة مع الزحف الرهيب للكتاب الالكتروني ومجالات التكنلوجيا المختلفة ونتائج ابحاثها المختلفة…لكن المشكلة الحقيقية هي مع تقدم وسائل العلم والتكنلوجيا يكثر الاجرام والتخريب وانتهاك خصوصية الفرد والاستعمال الخاطئ لهذة الميديا العالمية وتكنلوجيتها…لو انت شاهدت معظم الشباب وبعض الكبار في شوارع الخرطوم وفي المركبات العامة يضعون سماعات الخلوي في اذنيهم احدي نتائج هذة الطفرة والتي من مساوئها اكثر من محاسنها….لذلك يجب الاستفادة من هذة الثورة العلمية التكنلوجية لتعود للمواطن بالمنفعة بدل متاهات جوانب الحياة الاخري…..