خطورة البلاغة

■ لا نقصد من وراء هذه العنونة مناولة مفهوم البلاغة، وإنما نروم البحث عمَّا يجعل النص الأدبي ذا مسحة جمالية؛ تثير رغبة القارئ وتستفزُّه للحفر في أعماقه، على اعتبار أن ما نسميه بالحقائق هي مجرد استعارات نحيا بها، ونتداولها بشتى الوسائل التعبيرية ، فإذا كان ديكارت قد طرح مقولته الشهيرة « أنا أفكّر إذا أنا موجود» فالتفكير لابد أن يكون باللغة؛ حتى يحقق الكينونة كموجود في كون مليء بالاستعارات والامتدادات، غير أن التعبير لابد أن يستلهم من شيطان اللغة والكلمات – كما يرى بول ريكور- الوساوس القولية/ الفكرية ليحوّلها إلى أقوال وأفعال. وهنا مكمن قيمة البلاغة كأساليب تشحن النص بِطاقَاتٍ تُسْهِم في بَصْمِهِ بالتَّوهُّج الإيحائي والانفجار الترميزي. هذا الأمر لا يكون له وجود إلا داخل بنية اللغة، هذه الأخيرة تتعدد بتعدد الاستعمال، فهناك اللغة العادية التي سبيلها اللفظ في استعماله البسيط والحامل لدلالة محدودة ومقيّدة، ونجد هذا في الخطابات الإعلامية، وتحرير التقارير والتواصل اليومي وغيرها، لأن أساسها توصيلي وليس تأثيريا، في حين أن النص الإبداعي يجنح نحو التوظيف البلاغي ذي الملمح الجمالي، فنعثر على لغة جانحة ومتمرّدة عن المألوف القولي والتعبيري، وذات أبعاد فنية في طيّاتها الجمالية والإشاراتية.
إن بلاغة النص لا تكمن في اللغة، لكن في حسن توظيف كل طاقات اللغة، واستثمارها الاستثمار الناجع في خلق صور؛ ذات سمات مُرْبِكة ومُدْهِشة، وخالقة لخيال يؤدي إلى تحويل الأفعال إلى علامات لغوية موحية، مُضمِرَة لِمَكْنُون المعاني والمضامين. ولعلَّ فَلَاحَ كتّاب دون آخرين؛ راجع إلى القدرة على اقتناص الفعل التعبيري، وتَصْييره في بوتقة جمالية تغري الموجود وتغلّف الوجود. وهنا تبرز خطورة البلاغة في الاستعمال الصائب والمثير. ولابد من الإشارة إلى أن أنواع توظيف اللغة؛ لا يخلو من هذا الجانب البلاغي، سواء تعلّق الأمر باللغة العادية، التي هي الأخرى مُفْعمَة بهذه الطاقات الموحية، خصوصا التعبير الدّارِجي، فعندما نقول: «الْحُرُّ بِالْغَمْزَةِ وَالْعَبْدُ بِالدّبْزَة» فالخطاب إشاري ترميزي يحمل تأويلا يَثْوِي ثقافة شعبية غنية بمدلولاتها الأسلوبية والمضمونية، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه «البلاغة الشعبية» التي تحيل إلى الْمَثَلِ الشعبي، ولغة اليومي باعتبارهما خطابين محمّلين بدلالات موحية، ومُقوِّمين رئيسيْن في النَّسيج الثقافي لأي أمة من الأمم، إضافة إلى الدور المهم في ترسيخ بلاغة نصية تتميّزُ بالتفاعل والتنافذ بين المحمول والدلالة. والثقافة العربية غنية بهذه الاستعمالات الأسلوبية، التي تجعل الملفوظ يخرج من معناه الحقيقي إلى سياق كلامي آخر دال ومُشْرَع على تآويل، يتحقق بفضله ذلك التفاعل والتنافذ المشار إليهما سالفا، أي له معنى استعاري يزيد من شَحْنِه بِشُحنات إضافية، والمثلان العربيان الآتيان يمكن عدّهما ضمن هذا، فلو تأملنا هذا الملفوظ المثلي ( أَصُبَّ الْمَاءَ فِي الرَّمْلِ) و( أَفْتِلُ الْحَبْلَ فِي فَمِ الْعِجْلِ) وجدناهما مثالين نابعين من صميم واقع عيني، مُشْبَع بمثل ذلك، فهما مقولان استعاريان يحيلان على العبث والاستحالة، فبلاغتهما في ما يحملانه من دلالات عميقة؛ حققاها من عملية تكثيفية بكلام كثير في ملفوظ مختصر وموجز، وفي هذا إشارة دقيقة لنباهة واضع هذين المثالين وتشبُّعه بمستوى بلاغي ضارب في الأصول الأسلوبية. من هنا نشير إلى كون الثقافة الشعبية، ثقافة مسكونة بالهاجس البلاغي نظرا لقيمته في التبليغ والتأثير، كما نشير إلى أننا لا نضع الثقافة الشعبية في سلة بلاغية واحدة، بل تناولنا جزءا منها لدوره في إضاءة جوهر التأليف الشعبي في تأدية المدلول البلاغي الذي نصبو إليه، عبر هذه الحوارية المتفاعلة والمتنافذة بين الحقيقة القولية وبعدها الاستعاري.
فالبعد الاستعاري لا ينتج إلا عن طريق الاستعمال غير للمألوف للكلام، سواء كان ينتمي إلى صنف الأمثال الشعبية أو العربية أو الكلام اليومي، ونعني بذلك كيفية التعبير عن ظواهر أو آفات اجتماعية، بلغة قريبة من الوجدان الجمعي بعيدة في دلالتها، ولها ظلال كَثَّةٌ في ذاكرة الثقافة الشعبية الجمعية، وهنا مَكْمَنُ الدَّوْر التَّأثيري لمثل هذه الخطابات التعبيرية، ففي العمق يمكن الحديث عن فلسفة الأثر والصدّى الإيجابي، الذي تخلّفه كافّة الخطابات الشعبية في المتلقي، الذي رغم معايشته لها؛ إلا أن التوظيف التركيبي لها يُحْدِثُ في دواخله رجّات مباغتة ومصيبة للمبتغى. والمتأمل في المنتوج الثقافي الشعبي، من أمثال ومقولات أسلوبية، يكشف مدى غنى وثراء هذه الثقافة، التي تحفل ببلاغة مثيرة ومستثيرة، مثيرة للإحساس الداخلي ومستثيرة للذوق العام لتغيير سبل التلقي لهذا المنتوج، وملبيّة لحاجاته الاجتماعية والجمالية والفكرية.
في المقابل نجد أن النص الإبداعي ينسج بلاغته، أي جماليته وفق خضوعه لبنية الأشكال البلاغية المتمثلة في التشبيه والمجاز والاستعارة والكناية والمحسنات بِشِقَّيْهَا اللفظي والمعنوي والحذف والتقديم والتأخير، فهذه المقومات لها دور جوهري في خلق ما يمكن أن نسمّيه «بالبهاء النصي» الذي يتم اكتسابه من قدرة المبدع على التوظيف الأحسن والخلّاق لها، بَاصِما النَّص بِبَصَماتِ الحياة الإبداعية، ومحقِّقا له ديمومة ممتدة في تاريخ الإبداع الإنساني، غير أن هذه الأشكال تتحقق في بنية النص الشعري، انطلاقا من كون الشعر الجنس الأكثر استثمارا لها، ولن يتحقق هذا البهاء النصي، إلا من خلال، التوليفات الناجعة لبنية الجملة الشعرية، التي تتسم ببناء يخرق العادات التعبيرية خالقا أسلوبيته، هذه الأسلوبية يجب أن تنطلق من الداخل النصي لتمنح جمالية فنـــية للكينونة النصية.
إن النص الشعري جمّاع ذخائر معرفية ووجودية، حضارية واجتماعية، تعبّر عن تجربة الشاعر، وهو أيضا تاريخ الذات الباحثة عن الكينونة؛ في مسارب واقع مبتذل ومتغير، وبالتالي يتطلب توظيف كل الممكنات الأسلوبية لاحتواء هذه الإبدالات والغوص عميقا في المناطق المجهولة فيها، ومحاولة الإنصات لهذه الهزّات العاطفية والباطنية، التي تعْتُورُها في لحظات التّأمّل والعبور نحو المجهول الذاتي والوجودي، هذه الممكنات المتجلية في اللغة الوعاء الحاضن لتشكيل المجاز والاستعارة والتشبيه، كمقومات أساس في بناء الصورة الشعرية، وما يحقق أيضا شعرية العدول، أي الخروج عن المألوف والمعتاد في أساليب البلاغة التقليدية، فالنص الشعري يخلق بلاغته المعبّرة عن كينونته النصية، كما يخلق قانونه انسجاما مع مكوِّن الخرق الذي يميّزه، أي الجنوح صوْب الانزياح كخصيصة مميّزة له، لكن هذا الانزياح يعتمد على الاستعمال المغاير للغة كوسيلة للقول الشعري، ولكن كطاقة لها شحنات إضافية تصطبغ بنية النص، غير أن هذا لا يعني الاتكاء عليها بالاستعمال السطحي، بل عن طريق الإتيان ببنية تخرق المألوف في الجملة الشعرية، ومن ثم إضفاء سمة التكثيف الدلالي. والتكثيف الدلالي يتولّد بوساطة التقطير التعبيري للغة، من خلال الاحتفاء بذاتها، وبنهج العدول في الأسلوب، وذلك بالتخييل الذي يشرَع أفقا يكثّف الجوانب العاطفية والوجدانية ويحقق الجانب الإيحائي الإشاري في النص الشعري.
لنتأمل هذا القول الشعري للشاعر المغربي أحمد المجاطي:
«تمزّق المسمار في نسيجه
وأنت بين أذرع نداء»
فالمستوى الدلالي صادم وخارق ومربك للمألوف في البلاغة القديمة، التي تعتمد على الأساليب البلاغية التقليدية، لكن في هذا الملفوظ الشعري بلاغة جديدة، غير ثابتة المعنى، مفتوحة على احتمالات تأويلية تحفز الذات القارئة على إعمال كل الطاقة المعرفية والتركيبية للوقوف على دلالة ما تبقى في حكم المستحيل واللّاممكن، فاللغة هنا لا تعبّر بقدر ما تخلق عالما تخييلا يعمّق الرؤية الشعرية، التي تشكّل خلفية للكتابة الشعرية لدى الشاعر، وتضفي عليه البعد الدلالي الخلّاق.
من هنا تتجلى أهمية السبك الأسلوبي، ونقصد به القدرة على التأليف التعبيري، بلغة تركن إلى الإيجاز وامتصاص الموروث والاستناد إلى متخيّل يضفي طابعا تصويريا (من الصورة) على البناء العام للجملة، ومن ثم النص، وفي هذا دعوة إلى عدم التوسّع في العبارة بتكثير الألفاظ – على حد تعبير الفارابي ( 260ه) ـ بقدر ما هي رسالة تبطّن الاعتكاف على تحقيق التكثيف العباراتي، إن صح القول، حتى نتلمس الجوانب الجمالية والفنية في النص، أي تحقيق بلاغته التي تميّزه عن باقي المنتجات التعبيرية.
وفي سياق المناولة، لابد من الإشارة، إلى كون إبدعية النص المبدَع؛ لا تكون حقيقة، إلا بفضل خلق إيقاعها البلاغي، الذي يُسهم في نسج عالم بطليموسي موشوم بالبعد الإشاري والترميزي المتفرّد والمتميّز، وعليه فإن الدّالّ الاستعاري يضفي على المدلول التعبيري إيحاءات ودلالات تتخلق، في إطار العلاقات الرابطة بين تمظهرات الأشكال البلاغية، وفق رؤية تتجاوز القائم البلاغي التقليدي؛ بطرح بلاغة تفجّر العالم الشعري بمتخيّل مستمد من مرجعيات ثقافية مختلفة؛ وثرية بطروحات تتجاوز المنجز البلاغي بإضافة حياة جديدة في شرايين البلاغة. والإبداع الإنساني حافل بهذه الخصّيصة التجاوزية، وفي هذا تعبير، عن حيوية هذا النتاج العقلي المفعم بلغة وخيال، وأساليب تسبغ على النص روح الخلق والديمومة.
ولا غرو، في أن تاريخ الإبداع الإنساني، استطاع خلق بلاغته الناطقة بحاله، والضاربة في السطوة الجمالية والفنية، التي منحت للإبداع قيمته وأهميته في تربية الذوق الأدبي والشعري والجمالي للمتلقي، وتفجير الخيال لديه وأدّت وظيفة كاترسيسية/ تطهيرية
للذات المبدِعة والذات القارئة في علاقة تأثــــرية تأثيرية.

٭ شاعر من المغرب

خطورة البلاغة

صالح لبريني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    تحياتي لكاتب المقال الجميل ؛ وهومن الوزن الثقيل.أستأذن حضرتك في قولك : (على اعتبار أن ما نسميه بالحقائق هي مجرد استعارات نحيا بها، ونتداولها بشتى الوسائل التعبيرية ).والصواب عندي :{ على اعتبار أن ما نسميه بالاستعارات هي مجرد حقائق نحيا بها، ونتداولها بشتى الوسائل التعبيرية }.أما لفظ ( النصّ ) الذي تكررفي المقال فالفرق له عن الخطاب.أنّ النصّ هوتحوّل الخطاب من النظريّة إلى التطبيق العمليّ فيكون نصًّا.لذلك الصواب استبدال لفظ النصّ في المقال بلفظ الخطاب لأنّك قد تناولت نظرية الخطاب في المقال لا التطبيق كنصّ في التوظيف العمليّ.ويبقى للكاتب القـرار.جهد مبارك ومثمر؛ مع المودة والسّلام.

    1. يقول صالح لبريني ( المغرب):

      شكرا لكم دكتور جمال البدري على هذه الإضاءات النيّرة التي أضاءت عتمات مقالتي المتواضعة
      دمتم مخلصين للإبداع
      مع خالص تقديري ومحبتي

  2. يقول هدى الذيب:

    أعجبني استعارتك لعنوان كتاب لايكوف وجنسون في إشارة لأهمية البلاغة بشكل عام والاستعارة بشكل خاص في الخطاب اليومي. تحياتي

إشترك في قائمتنا البريدية