خطيئة

عيناي أبصرتها واقفة على حافة الرصيف، أنيقة جدا، ممشوقة القوام، ظهرها جهتي، تتأمل البناية الفخمة على الجانب المقابل من الطريق. البناية لإحدى الدوائر، لم أعرف عنوان الدائرة. : يظهر أنها تعمل في تلك الدائرة. قلت مع نفسي. وقفتها ذكرتني بوقفتها أمام باب قاعة محاضرات قسم الفلسفة في كلية الآداب، تنتظرني. كنت أتأبط رواية «السقوط الحر»، الرواية قرأتها قبل سنوات. أمس في الليل، عثرت عليها، بين الكتب، في الصندوق، استللتها وأخذت أعيد قراءتها. قلقاً وشارد الذهن، أقف على رصيف الشارع، منتظرا الحافلة التي تقلني إلى منطقتي. رأسي يكاد ينفجر، ثمة طنين في أذنيّ لا يتوقف أبداً. تتيه نظراتي بين الناس الواقفين على مقربة مني. هل هي؟ أم إنني في وهم… كانت المسافة بيني وبينها لا تتعدى المتر، عندما التفتت نحوي واجهتني الشامة على خدها الأيسر
تأكدت من أنها هي، لا يمكن أن تكون إلا هي، عرفتها بيقين تام على الرغم مما تركه الزمن من آثار عليها، ظلت هي ذاتها بذاك الألق المبهر والجمال الآسر .هي صامتة الآن، في سكون مهيب كما هي عادتها حين تتأمل وتفكر بشيء ما. ربما عرفتني كما أنا عرفتها. هي الآن تنظرني ولا ترفع عينيها عني، بتكشيرة هي التكشيرة ذاتها التي كانت تواجهني بها عندما أرجع إلى البيت في ساعة متأخرة من الليل. لا تلوميني. حبي لك لا ينطفئ أبداً. كنت أقول لها. لكنها لا تقتنع، تغضب، تمتعض، وبصمت تنسحب إلى غرفة النوم. أظل وحيداً في الصالة مع اشتغالاتي الملحة. حين انتهي منها، أترك أوراقي وملفاتي وأدخل عليها والفجر يتهيأ للانبلاج. بعد الافتراق، كنت ألوم نفسي على ما صدر مني نحوها، لم أفهم كنه صريخها في القطع الأخير من الليل، في الريح العاصف في شباك غرفة النوم المطلة على الشارع الخلفي، في ظلام الغرفة الشفيف، تصلني أصوات انفاسها الهائجة، وأنا منشغل بأوهامي التي تأكدت من خطئها بعد فوات الأوان. فقد كانت تتألم من الجروح الكثيرة في جسدها وروحها، جروح حفرتها سيوف الخطيئة التى خلقتها أوهامي. عندما رفعت رأسي المطأطأ، رأيتها تبحلق فيّ بامتعاض واستغراب، تهز رأسها وتنفخ الهواء من فيها في الفضاء أمامها. مهلا سيدتي، توقفي أرجوك، لا تنفخي من فمك المخضب بالعنبر، حسراتك في الهواء. من حقها أن تتملل، فهي لا تدري، أني كنت قبل لحظة، قبل أن يحالفني الحظ وألتقيها من غير ميعاد، وأثناء التباعد بيني وبينها، انتبهت لقصوري في واجباتي نحوها. ما ألمني، كنت هناك وسط الدوامة التي أطاحت بي في جميع الجهات. أعرف وهي الآن على بعد متر مني، أن خرائط جسدها وخفايا روحها، فيها الكثير من جروح وشروخ الزمن المقفر. اقتربت خطوتين منها حتى سمعت تأففها يتكسر في صدرها. قلت بصوت استمر حبيساً في الداخل مني وبشغف للبوح: ما الذي حل بك يا حبيبتي في هذا الكون المتسع بلا حدود أو نهايات؟ ماذا جرى لك؟ أنت غير ما كنت قد ألفتك قبل أن تختفي عني أو أختفي أنا عنك في ساعة نحس. لم يكن خطأي، خدعني الرجل المتغول بكم هائل من سراب لا حدود له، على مدى ما تتوقف فيه البصيرة من غير أن استبصر مراميه. دفعني إلى أعمال جمّلَ صورتها في عقلي حتى بدت كأنها جنة المنتظر. سنة بعد سنة ومنطقة الفراغ تزداد اتساعاً بيننا. حتى صرت لا أراك لا في الليل ولا في النهار. لقد غبت عنك بدفع من ذلك الرجل الشبق للجسد وشهوة المال والسطوة والسلطان، أشركني في مشاريعه التي لم أجنِ منها غير الخيبة والخسران، خسرانك، كي يستفرد بك. جمالك الباهر وما تكتنزين من ثراء وغنى، ثراء فاحش يسيل له اللعاب يا حبيبتي. لقد ورثت من والديك وأجدادك من قديم الزمان، ثراء منتجا لثراء أكثر. يا الله كم كنت غائبا عني وعنك. الرجل المدنصر، اكتشفت متأخراً، وأقصد عندما أستعيد ما مر: تتذكرين في أول لقاء لنا معه، كان يضع عينيه في عينيك وهو يحادثني، في وقتها أخذت الأمر على محمل النية الحسنة. كان يريد أكلك بالنظرات. لم أكن اتصور أنه كان يخطط ويرمي لأخذك مني. وضعه وما يملك وما هو فيه، من جاه ومال وجبروت وسلطة، وكل ما هو جميل في العالم، طوع بنانه، جميع هذا، جعلني أبعد أو لم أفكر فيه أصلاً. لكن الإنسان حين يتدنصر، يلتهم كل من يضعه حظه العاثر في طريقه. المهم، حبيبتي، اقتربي لنعاود السيرة الأولى. أعدك بأني لن أغيب لحظة عنك، ولن يخدعني أحد بعد اليوم وبعد هذا الذي مر. إنها لم تزل غاضية مني والدليل هو تنهدها المستمر وابتعادها خطوات عني كلما اقتربت منها أكثر. ها هي الحافلة قد جاءت. أخرجت صوتي الراكض بصمت في تلافيف دماغي، قلت هذه المرة، بصوت مسموع : حبيبتي نهى، تفضلي، لنصعد إلى الحافلة قبل ان تمتلئ. إخرس يا عديم الاخلاق. قالت ومن ثم صمتت، فقد وقفت في هذه الأثناء، سيارة حديثة، فخمة، أمريكية، من تلك التي يستخدمها رؤساء الدول، على بعد ربع متر منها. تقدمت خطوتان، فتحت الباب وصعدت. أنزلت زجاج نافذة الباب المواجه لي. ضحك صاخب من داخل السيارة الفارهة. انطلقت السيارة بسرعة.. ظللت وحدي بعد أن صعد الناس إلى الحافلة وهم يحدقون في وجهي باستغراب..

٭ قاص عراقي

خطيئة

مزهر جبر الساعدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    تحياتي لصديق الكلمة الساعديّ : حضورموّفق ؛ وتواصل العطاء أفضل الإنتاج الدافق.والرّواية تبدأ بقطرة من القصّة القصيرة : كالشامة على الخد الأيسروالأيمن سواء ؛ لتكون الامتداد السّماويّ ؛ لوجه كالقمرخارج المحاق ؛ من العمق إلى الأفق : عراق.

إشترك في قائمتنا البريدية