ثلاثتهم، الصوفي والعذري والثوري عانوا بدرجات متفاوتة من اشتباك يتعذّر فضّه بين الجسد والروح، وبين السيف وغمده، وهو ما عبّر عنه هاردي اشارة إلى ثنائية الساكن والمسكون، فالغمد يبلى لكن السيف يبقى، فالإنسان يشعر أحيانا بثقل البدن عندما يعوقه عن التحليق عاليا، لأنه أسير عدة جاذبيات منها، الفيزيائي كجاذبية الأرض والميتافيزيائي وهي جاذبية الزمن مقابل الأشواق للأبدية، فالجسد لا يقوى على أن يكون هنا وهناك في اللحظة ذاتها، وهو مما يضطر الصوفي كمحي الدين بن عربي إلى أن يجلد ساقيه في الهزيع الأخير من ليله الطويل، لأنهما اشبه بالدابة التي خذلت من يركبها، وناءت بأشواقه التي لا يحدها مكان أو زمان.
وقد يبدو الجمع بين أضلاع هذا الثالوث، وهو الصوفي والعذري والثوري به قدر من التعسف، لأن التباعد بينهم أوضح من التقارب، لكن المرئي والمرصود من خارج التجربة وعلى نحو مجرد، ليس الحقيقة كلها وربما كان نقيضها لأن من يتدفأ على النار ليس كمن يكتوي بلهبها، فالمسألة إذن هي تحديد المسافة التي تقربنا أو تبعدنا عن النار.
الصوفي رأى في موته حياته، هذا ما ناشد به الحلاج مريديه عندما قال:
اقتلوني يا ثقاتي
إن في موتي حياتي
ففي تلك العتمة البيضاء التي سهر فيها عُمرَه ثم أودع فيها رماد جسده تجلّى له الحلول، ورأى المطلق مبثوثا حتى في تفاحة كان يحملها ويطوف بها قائلا إن المطلق فيها، وحين يقال إن الحلاج خلع الخرقة وترجل من مرتفعات الصوفية الداجنة إلى قيعان تعج بالبشر الأشقياء فمن باب أولى أن يقال بأنه خلع جسده، وهذا هو مصدر المفارقة الحلاجية، وحين زرت ضريحه في منطقة علاوي الحلة ببغداد، جلست ساعة مع حارس الضريح العجوز، وحين قلت له إن الحلاج تحوّل إلى رماد ولا يسكن في هذا الضريح صَمَت ولم يقل شيئا، ثم أضفت قبل أن أمضي وبصوت هامس أن الحلاج في مكان آخر .
إن خلع الخرقة بمعنى الخروج إلى الشارع هو المعادل الموضوعي والمادي معا لخلع الجسد، لهذا فإن من تمّ حرقه وذرّ رماده في سماء المدينة ليس الحلاج ذاته، بل جسده المخلوع الأشبه بجلد ثعبان خلعه صاحبه ومضى .
* * *
كتب أدونيس المهجوس بالصّوفية قدر اقترابها من السيريالية في كتابه «الصوفية والسيريالية» أن الهدف الأخير الذي يسعى إليه الصوفي هو التماهي مع هذا الغيب، أي مع المطلق ويهدف السيريالي إلى أن يحقق الأمر نفسه وليس المهم هوية المطلق، بل حركة التماهي معه سواء كان الله أو العقل أو المادة أو الفكر والروح.
وهذا الفهم الأدونيسي للصوفية والسيريالية معا، يحرر المصطلحين من الضيق الأكاديمي الذي عانيا منه زمنا طويلا، ومن كتب في بواكيره:
لأنني أمشي
أدركني نعشي
وسعى إلى توسيع الأرض بقصيدة ليس صوفيا بالمعنى التقليدي وليس سيرياليا أيضا بالتعريف المعجمي، بل هو شاعر مسكون بسؤال الوجود والحنين إلى الأبدية، كما وصفها مالارميه وهو يصغي لأصداء أصوات قادمة منها ولها حفيف في الفضاء.
أما العذري فهو شغوف بإطالة المسافة بين الرّغبة وإشباعها إلى حدّ يوحي بأنه مصاب بماسوشية تجعله يتلذذ بالحرمان ويستمرئ عذاب البعد والحنين، وحين يبدو كما لو أنه خلع جسده فهو في الحقيقة لا يتبرأ من الشهوة وحاجات الجسد، خصوصا بعد أن كشفت دراسات حديثة منها ما هو سايكولوجي كدراسة صادق العظم، أن الظاهرة العذرية ذات جذور يتعانق فيها الاجتماعي بالنفسي والسياسي أيضا، وهذا ما انتهى إليه طاهر حداد سوسيولوجيا عندما درس مجمل الظروف التي أحاطت بقبيلة بني عذرة، وما عانته من تهميش دفعها إلى البحث عن بدائل للتعويض عما هو مفقود، أما في دراسة صادق العظم عن الحب العذري فقد رأى أن العذري مشحون بشبقية تدفعه إلى إدامة حالة التوتر، وكانت هذه الرؤية صادمة لعشاق الظواهر البنفسجية المتعلقة بالرومانسية المرضية والمفرطة في العالم العربي.
والعذري تبعا لهذا التصور يسعى إلى شحذ الرّغبة لإدراكه بأنها تتلاشى بالوصال، وهكذا كان خلع الجسد بالنسبة إليه مجرد غطاء أو قناع لأن فائض الرغبة والنرجسية لديه جعله يبتدع أُنثاه من صُلبه، وعبر هذا الاكتفاء تجلّت عفّته في الظاهر لإخفاء ما يدور في الباطن.
لقد عاشت الظاهرة العذرية قرونا قبل هذا الكشف الاركيولوجي الذي يعيد قوس قزح بكل ألوانه الباهرة إلى أصوله الفيزيائية، وكذلك الصوفية قبل أن يُعاد استقراؤها وليس قراءتها فقط، كما فعل أدونيس، بحيث يكون المطلق بالنسبة لأصحابها متعددا، وليس حكرا على واحد، فهو كما قال أدونيس قد يكون العقل أو المادة أو الفكر او الرّوح.
* * *
الثوري الذي أعنيه وهو الأقنوم الثالث في فلسفة خلع الجسد ليس الثوروي بل نقيضه، لأن الثوروي يتقمّص صورة ليست من صلبه أو صميم تكوينه، لأنه الشبيه، والأشباه هم الأضداد لأنهم يذكروننا بغياب الأصول، تماما كما هي الديمقراطية الزائفة نقيض الديمقراطية وليست الديكتاتورية هي النقيض.
الثوري قابل لتأويل أشواقه، كما قال أدونيس عن الصوفي، فأهدافه ليست سياسية خالصة لهذا لا يتصالح مع أي واقع لأنه يواصل الحلم، فهو ذو تجليات شعرية واجتماعية وتاريخية، لكن المقاربات التقليدية ضيّقت مفهوم الثوري، كما ضيّقت مفهوم الثورة واختزلت الاثنين إلى بُعد واقعي وسياسي واحد، وهذا أيضا ما فعلته مع المقاومة عندما جعلتها بمساحة فوهة بندقية بينما هي بسعة الأرض كلها والوجود برمّته.
الثوري يخلع جسده حين ينوء بحمله ويعوقه بعكس الثوروي الذي تعامل مع الثورة بوصفها ممدوحا أو مهجوّا مقابل وعد بالعطاء، وهذه الثنائية قدر تعلّقها بالثورة ترادفها ثنائية الحداثي والحداثوي، والتي قد يكون أفضل مثال لها ماياكوفسكي وبيرلوك ومارنتي، وهم من جماعة المستقبلية الروسية والإيطالية، وإن كان الحداثي انتهى إلى خلع جسده بالانتحار وأنجز شعرا خالدا فإن الحداثويين فقد سانتهيا إلى تأليف كتب عن الطيران وفن الطبخ لربات البيوت.
كاتب أردني
خيري منصور