تتملل المرأة وهي جالسة بقلق على المصطبة الخشبية أمام صالة الولادة. كان الممر يلفه السكون والصمت. فينة وفينة أخرى تمر من أمامها إحدى الممرضات لم تسأل أيا منهن، فهن يأتين من غرف وصالات آخرى غير صالة الولادة. المشفى كان في سكون بهيج. المدينة هي الأخرى هدأت بعد أن اجتاحتها امواج من الفرح الذي صاحبه إطلاق رصاص، حتى خيل لها أن المدينة قد دخلت في التو إلى الحرب التى أعلن قبل ساعات عن نهايتها. المشفى على الرغم من واجبات منتسبيه من الأطباء والطبيبات والممرضين والممرضات، تركوا أماكن عملهم وأخذوا يتبادلون التهاني وعلت الزغاريد من غرف وصالات المشفى وممراته، عندما سمعوا آخر بيان ختم جميع ما سبق من بيانات الحرب التي استمرت ثماني سنوات».
الله كم أكره الحرب مع إنني في دخيلتي أعرف، في أحيان كثيرة تكون للحرب موجباتها أو مسوغاتها، لكنها في جميع الأحوال تترك في الروح جروحا لا تندمل أبدا. في ليل بعيد، بعيد جدا، كنت في بداية الشهر الثاني لزواجي وفي ذاك الليل الذي يرفض أن يترك مكانه في ذاكرتي، كنت في بيت مستقل أسكن فيه مع زوجي، الذي كان ضابطاً. عافني وحدي في البيت بعد عشرة أيام من زواجنا، قبل أيام من ذلك الليل المشؤوم، باشرت بعد انتهاء إجازتي في العودة إلى الثانوية التي كنت أُدُرس فيها، كنت حينها مفعمة بالفرح والسعادة، كانت بي رغبة أن اعانق طالباتي وزميلاتي من المدرسات ببهجة غمرت جميع كياني، مضت أيام قبل أن يحل ذاك الليل الذي ترك في الروح شروخا تأبى أن تغادرني، على الرغم من تراكم الكثير من السنين.
كان الليل قد تجاوز منتصفه وكنت أنتظر أن يجيء في هذه الليلة أو الليلة التي تليها على أبعد احتمال، لأني كنت قد حسبت فترة بقائه في الوحدة، هو من أبلغني عندما غادر كم من الأيام يمكث هناك ويرجع. بعد أن مللت الانتظار وتأكد لي انه لم يأتِ في هذه الليلة، اطفأت نور غرفة النوم وأخذت أتهيأ للنوم في انتظار صبح جديد يحل ويجيء هو معه حسب تقويمي. أخلدت للنوم تغمرني سعادة هي في تلك اللحظة كانت بسعة الكون. طرقات على الباب كأنها جاءت من مكان قصي، أو أنها ليست على باب بيتي، كنت بين الصحو والاغفاءة، تساءلت بيني وبين نفسي من يطرق بابي في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟ فتحت عينيّ ومن ثم دست على زر الإنارة فغمر غرفة نومي فيض نور مبهر. نظرت إلى ساعة الجدار أمامي، كانت تشير إلى الخامسة فجراً. وجدتني أشعر بالخوف والتوجس، فهو قال لي قبل أن يودعني: إجازات الضباط حصرياً في الساعة السادسة وتحت مختلف الظروف القتالية مع البشمركه، وإذا حدث وتأخرت إجازته، يتصل بي تلفونياً من أجهزة الاتصال الموجودة في وحدته، هو من أبلغني أنه سوف يتصل بي في حالة تأخرت إجازته. لذا انتابتني موجات شديدة الوطأة من الخوف. المسافة بين مقر وحدته ومدينتنا التي فيها بيتنا لا تتجاوز في جميع الأحوال السبع ساعات. الوحدة التي هو فيها، مقرها في مدينة حاج عمران على الحدود العراقية الإيرانية، وجدتني ارتعب وارتعد من النبأ الحزين والمؤلم الذي ينتظرني وراء الباب. لم أؤمن في حياتي بالتنبؤات، لكني في تلك اللحظة كنت أتوقع خبرا سيئا يختفي خلف باب بيتي. اشتد الطرق على الباب:
من هناك؟
ـ افتحي الباب أرجوك. كان الصوت فيه رجفة حزن واضحة وبحة ألم لا يمكن اخفاؤها. فتحت الباب فكان ما كان، هذا الذي جرح قلبي واستمر الجرح ينزف من قلبي رغم تقادم الزمن. أغمي عليّ ولم استعد وعيي إلا بعد ساعات وأنا ممدة على سريري في غرفتي وزميلاتي والجيران وأبي وأمي يحيطونني.
مرّ كل شيء في الأيام والاسابيع ومن ثم الاشهر بوجع في الروح وفقدان وخسران لا يعوض حتى هذه اللحظة، التي أنتظر فيها ولادة زوجة ابني، الذي سميته على اسم أبيه، رغم اعتراض أهلي في حينها على اعتبار أن الاسم مكرر؛ سعد سعد، كانت إجابتي لهم وما العيب في ذلك.
صراخ لطفل يأتي من داخل الصالة. اخذتها موجة من الفرح العارم، لم تستطع ان تسيطر على نفسها. تأكدت من أن زوجة ابنها، ولدت ما كانت هي تنتظره أكثر ربما من انتظار امه، هكذا كانت تقول لنفسها. ترددت كثيرا في دخول الصالة واحتارت بين الانتظار حتى تقوم إحدى الممرضات أو إحدى الطبيبات المشرفات بأبلاغها بالخبر السار. وضعت التردد والخجل خلفها وتعليمات الطبيبة المشرفة على صالة الولادة بعدم الدخول إليها. دخلت وهي تواجه الجميع على الرغم منها بابتسامة ظلت تطوف على وجهها. زوجة ابنها عندما ابصرتها، ابتسمت لها وقالت: خالتي أنا بخير والطفل الذي انتظرناه بخير. الطبيبة الواقفة عند رأس السرير، التفت إلى زميلتها وقالت باللغة الإنكليزية: «والوليد فيه شيء غير طبيعي، خلل في الدم غير بنيوي وبمعنى يمكن وبسهولة اصلاحه بالتغذية والمتابعة وبطريقة علمية لزمن محدود، ربما لسنتين. هذا التشخيص يظل محل شك إلى ان اتأكد علميا. في جميع الأحوال، الخلل غير بنيوي.. زميلتها قالت: الوليد ذو جمال باهر».. اندهشت الطبيبة وهي تبصر دموع المرأة، جدة الوليد، تسيل على خديها بصمت من غير أن تتفوه بكلمة. كانت عيناها ثابتتان على وجه الطبيبة على بعد بوصات قليلة. والدموع وهي تواصل انسكابها في فم المرأة؛ سألت: وماذا بعد دكتورة؟.. تفاجأت الطبيبة المشرفة من ان الجدة فهمت قولها فهما كاملا..
٭ كاتب وقاص من العراق
مزهر جبر الساعدي
حيّاك الله أخي مزهرالساعدي : والعود أحمد.طولّت الغيبة علينا.عنوان بديع ومضمون رائع.ونحن أيضًا فهمنا كالجدة { قولها فهمًا كاملًا }.
إذا كانت الغيبة الطويلة تنتج هكذا قصص ؛ فسأفعلها مثلك.سلم قلمك مع مودتي.