خليج العرب: من الاستقلال الوطني إلى الاستقلال القومي

حجم الخط
1

.. والآن هل انتهت حرب الجنوب؛ هل ستغلق جبهة «الجزيرة» العربية. هل قرار مجلس الأمن تحت البند السابع سيجري تنفيذه كاملاً أو منقوصاً، أو محرّفاً، أو أن سادة القرارات الدولية هم جادون حقاً هذه المرة، أو أنهم، وكما كانوا دائماً وفي عديد مشكلات العرب، يكدسون قرارات فوق بعضها، لتتبادل فيما بينها التحريف ثم الإهمال فالنسيان.
ما حدث هو أن ملف ربيع العرب المختطف قد ضم فصلاً دموياً جديداً إلى فصوله السابقة والمستديمة. فالمعنى الاستراتيجي العام وهو المعول عليه، لن يكون سوى استمرارية «الربيع» بالمزيد من ممارسة خصائصه المعروفة عنه منذ انطلاقه. لكن هذه الجبهة الجديدة المستحدثة تريد أن تكون مختلفة ليس في نوعية أحداثها وحدها.. بل في محركاتها الاستراتجية، ومن ثم لا بد أن تنتهي إلى نتائج لا تشبه حصائل الجبهات الأخرى المفتوحة منذ الأمس وحتى اليوم، إنها جبهة حرب حقيقية بين كيانات دولتية على مستوى أفقي إقليمي، وليست جبهةً لثورة صاعدة عمودياً من قاعدة شعبية ضداً على قمة حاكمة ظالمة. وأكثر من هذا فإن جهة الجزيرة العربية هذه لا تثير صراعاً جغرافياً محدوداً بمسببات حاضر مأزوم بتناقضاته الطارئة فحسب، لكنه هو صراع متغوّل كذلك في ذاكرة أحقاد عقيدية متأصلة ثقافوياً وسياسوياً، وحافلة بعقد ومركبات ذهنية وعنصرية، لم تجد حلولها في أوقاتها الماضية. ويأتي اليوم نظام دولي كامل ليعيد بعثها وطرحها كتحديات فاصلة على كل من يعتبرهم من خصومهِ التاريخيين.
هذه التركيبة المظلمة من نفايات التاريخ وثاراته المكبوتة، يتمّ تصنيفها وممارستها في حاضرِ عصر عفا على مفاهيمها ووقائعها المندرسة منذ دهور لكن هؤلاء، من صنّاع فكر التركيبة ومستغليها وموظفيها إنما يؤسسون طقوساً تختلق ديانة أخرى تحت ترميزات الدين الأصيل، لعلها بذلك تطرد أصحابها أحفاد المؤسسين ومعهم حضارة إنسانية هي واحدة من أهم بناة المدنية المعاصرة لعالم اليوم.
ربيع الحرية الذي هب أولاً على وطن العرب، ومن ثم طرح إنذاراً بإنهاء مصانع الاستبداد ومعامله عالمياً، لم تكن ثمة قوة قادرة على إحباطه إلا بانتزاع أدواته المحورية وهي الثورة الجماهيرية، من تحت سلطة معانيه ورجاله، ووضعها تحت أيدي أعدائها الدهريين. وفي الوقت الذي تُنتزع فيه مدنية الثورة الجماهيرية من قاموس الربيع، لتحل مكانها أخطر همجية إرادية ومنظمة، يجري تكديس الفظائع اليومية المرتكبة كأنها إنجازات الثورة، ومفاخر لأبطالها الجهاديين. لقد أمسى (تبديع) القتل، تنويعه بالذبح ومشتقاته، هو الخلاصة الأيديولوجية لمجمل هذه الحقبة المشؤومة. حتى كادت ذكريات أعلى وآخر أحلام النهضويين العرب تنقلب إلى ما يشبه حفلات جلد الذات، كما لو كان هولاء النهضويون الداعون دائماً إلى ثقافة التغيير الجذري.. هم المسؤولون بطريقة ما عن هذه النهايات الرهيبة، لكن الحقيقة هي أنه ليس من ثورة توصف بالتاريخية لن تكون أكثر من مغامرة كبرى تزّج الشعوب نفسها في ارتكاب مخاطرها، والمجازفة بدفع أثمانها الدموية الباهظة.
والعرب اليوم جميعاً منخرطون في هذا المصير المشترك سواء منهم الحركيون أو المتفرجون. وإذا كان البعض منهم مغمورين بأجواء النيران أو مشردين في ضواحيها؛ فالغالبيات العظمى منهم لن تكون في منأى عن زلازل الأرض العربية واهتزازاتها العميقة تحت أقدامهم، بمعنى أن اللحظة الراهنة لم تعد تسمح باللامبالاة ولا حتى باصطناعها، فالانتظار العقيم هو المدخل السقيم نحو همجية الفوضى المجنونة. لكن «الربيع» المنسيّ هو الذي قد يذكّر بنفسه. حين تنبلج مفاجأة ما عن غير توقع.
هنالك حقاً ملامح انقلاب قد يغدو بنيوياً في خارطة إقليم العرب وضواحيه، سوف يعيد تنظيم محاور، لتحمل مفاهيم سياسية مختلفة عما ألفته تجاربها المستمرة إلى حين قريب؛ مثلاً هل نقول مع الكثيرين أن أهم كتلة سلطوية قائمة في هذه الخارطة وهي المصطلح بتسميتها مجلس التعاون الخليجي أصبحت مقدمة على ما يمكن وصفه بولادة استقلالية جديدة. هذه الكتلة شكلت، منذ بدايتها، جبهة سياسية قائمة في ذاتها في المشرق العربي. وكادت هذه الجبهة أن تُنتج نوعاً من حضارة بيئية حافظةً تقاليدها ومفاهيمها ومسالكَها البدوية الخاصة بها. وفي تاريخ نهضة الاستقلال الوطني لدول المشرق تفرّد الخليج باستراتجية عربية تخص مصالح الأسر الخمس الحاكمة لأقطاره. ولقد لعبت هذه الاستراتيجية أدوار الكبح إجمالاً لأكثر الطفرات الانقلابية والثورية وأشباهها في أقطار محيطها. هذا بالرغم من أن أجيالها الصاعدة كانت تتعاطف مع معظم الشعارات (القومية) المرفوعة حولها في أجواء الإقليم.. كانت هناك حالة انفصام في الشخصية العامة الخليجية ما بين انتمائها الطبيعي للمواطنة العربية ومشاركتها العفوية لها سياسياً وثقافياً واقتصادياً وبين مواقف الفعل ورد الفعل العملية في أوقات الصراعات الحدية المثارة مع الأعداء التقليديين للقضايا العربية، من غربيين واسرائيليين.
كانت ثمة معادلة ثابتة لقيام كيانات الخليج. كان مال النفط وحده هو رأسمال الكيان الخليجي. هو قوة شراء الأمن الذاتي للكيان، لعناصره الثلاثة، وهي الأسرة الحاكمة والدولة والشعب.. وكانت أمريكا هي حامية هذا الأمن، وهي المستثمرة الأولى والأهم للنفط، ولفائض أمواله.
هذه المعادلة أثبتت فعاليتها عبر مختلف الأزمات بالنسبة لما تعنيه مفاهيم الاستقرار السياسي والوجودي للكيان الخليجي. وما كان لها أن توضع فجأة موضع إعادة النظر إلا مع بروز المنافس الإيراني كقوة عسكرية وإيديولوجية كبرى، خاصة مابعد سقوط بغداد وانهيار وظيفة تاريخية للعراق كحام الحدود الشرقية للعالم العربي. فهل أصبح الخليج مكشوفاً عسكرياً في المستوى الإقليمي، وعارياً من الحماية الأمريكية دولياً. وفي هذه الحالة ما المصير المنتظر إذن. إنها التطورات السياسية المتلاحقة منذ انغمار إيران في معظم الشأن المشرقي السياسي والإيديولوجي وصولاً إلى انفجار الجبهة اليمينية التي يتصدى لها الخليج بقيادة السعودية المتجددة بملكها ومنهجه المختلف تحت شعار عاصفة الحزم. فهل ما يتبعها سوف يجسد آفاقها..
إنها أيام القرارات الأهم منذ عقود بالنسبة لمصائر استراتيجية كبرى، وشاملة لمحاور معارك راهنة، وأخرى ضامرة ومتحفزة، كأنما يريد الخليج أن يقول أن التحدي الإيراني مقترن بالتخلي الأمريكي يحتمان حقيقة واحدة. عُرفت في العالم السياسي تحت صيغة مبدأ الاعتماد المتبادل.
غير أنه سيكون له تفسير انطولوجي في الحالة الخليجية، وهو أن مبدأ الاعتماد، هو انبعاث قوة الذات أولاً لتجذب قوة الآخر كيما تنضاف لرصيدها، وبذلك يتحقق تبادل منسجم وعادل بين عناصر مجموعهِ. فالخليج عائد إلى ذاته، إلى عروبته متضامناً مع شعوبها، مشاركاً وجودياً، وليس متبرعاً مالياً كحاله السابقة، بل متضامناً معها في أخص شؤونها النهضوية.
هل نقول إذن، إنه عصر النقلة العظمى من حقبة الاستقلال الوطني نحو الاستقلال القومي..

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

مطاع صفدي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محسن . عون - تونس:

    سلمت و سلم القلم. ما أحوجنا الى هذه الأنوار فلا تغب عنّا. شكرا. سلام

إشترك في قائمتنا البريدية