«خمسون غراماً من الجنة» للبنانية إيمان حميدان: تفاصيل الحرب والضياع

حجم الخط
0

تلتقط الروائية اللبنانية إيمان حميدان في روايتها الجديدة «خمسون غراماً من الجنة»، موضوعاً روائياً شائعاً ومتداولاً ومطروقاً من قبل في الرواية العربية المعاصرة والحديثة، ألا وهو موضوع العثور من قبل أحد الشخوص الروائية، أو أحد أبطالها المركزيين على لقية أو كنز، أو تدوينة سردية ووثائق ورسائل ومعلومات، لتكون عماد العمل الروائي المنوي كتابته ومفتاحاً باهراً في وسعه فتح مغاليق كثيرة وإزاحة ستائر مسدلة على عوالم ماضية ومندثرة. وهكذا يتم بطريق المصادفات الحياتية، وما أكثرها، العثور على حياة أخرى منسية في حقيبة أو غرفة أو في مكان آخر، في وسعه حفظ القرينة والدليل والمعلومة المنسية .
الروائية إيمان حميدان في روايتها هذه تلج هذا العالم لتكتشفه ومن ثم تبني عليه رؤاها وأخيلتها الفنية والجمالية والتعبيرية، في نسق سردي مختلف وجذاب، وفيه تمايز عما سبق وقيل في هذا المضمار من الكتابة، مؤسِسة بذلك عالمها الخاص في الكتابة، ملتقطة زاوية شيقة ومغايرة في عملها الروائي الجديد .
تتحدث الرواية «خمسون غراماً من الجنة» بضمير الغائب، والمتحدث هنا هو مايا، الشخصية المركزية في الرواية التي تتبادل الأدوار مع شخوصها، متحدثة بضمير الأنا، أو بتدوير اللسان في الرواية بين المخاطِب والمخَاطب، الآخرَين، أو بين ضمير الأنا نفسه وأناه الداخلية، في سياق من المونولوغ ليرتفع في مكان آخر ويصبح ديالوغاً مع شخصية ثانية، مستغرقة في شأنها النفسي ومصائبها العديدة، مثل شخصية البطلة مايا التي تفتتح مونولوغها مع اختها عبر التلفون في بيروت، هي المقيمة في فرنسا مع زوجها الذي أصيب بالسرطان وليس لها من حلّ سوى المناجاة البعيدة واللجوء إلى أقرب الناس إليها، لبث معاناتها اليومية ومعاناة زوجها مع الداء الخبيث الذي سيودي به في النهاية، لتقنعها اختها بمغادرة باريس والعودة إلى لبنان النافض عنه تواً، غبار الحرب الأهلية التي امتدت إلى ستة عشر عاماً .
في الحقيقة مايا لم ترد أن تنصاع لإرادة ما، كون أن لها شخصيتها وقوة الإرادة وتمتعها بقدْر من الحزم والشكيمة وقدر واسع من المسؤولية تجاه عملها وتجاه ولدها الوحيد شادي، الذي بدأ ينشأ في عالم غربي مختلف وبعيد عن لبنان. مايا التي لديها شغف بالكتابة والتصوير السينمائي والتدوينة السردية القابلة أن تتمظهر في سيناريو وحوار سينمائي، ستسارع إلى الانتقال لممارسة مشروعها المطروح عليها من قبل، أثناء إقامتها المشتركة مع زوجها الراحل وهي في باريس، لكن القدر هو الذي سيدفع مايا لترك باريس نهائياً والعودة إلى لبنان لغرض الإقامة ومواصلة العمل الذي تحب .
من هنا بدت مايا منشغلة في بيروت بعملها هذا، مع صديق قديم مقبل على مشروع لتصوير بيروت وتوثيقها، قبل إعادة بنائها من جديد وفق مشروع السوليدير الإحيائي والإعماري، الذي تبنته شركات عدة من أجل نهوض بيروت مرة أخرى لمواجهة الحياة والعصر والعالم الحديث وتجديد وتأهيل وبناء ما دمرته الحروب.
تبدأ الرواية فصلها الأول بطريقة التداعي الحر، ذلك التداعي المستمد سرديته من الرسائل، وهو عبارة عن مشهد تظهر فيه نورا الصحافية والكاتبة المطاردة من قبل المخابرات السورية في بيروت عام 1978 . المنطقة هي المزرعة ونورا تحاول الوصول إلى السفارة التركية لغرض الهجرة. نورا سورية، وكانت طالبة جامعية، غادرت دمشق بعد تعرض والدها للسجن لمعارضته لسلطة البعث التي تحكم سوريا، وتعرّض أصدقائها للاعتقال للسبب نفسه وانتحار اختها هناء التي اغتصبها ضابط سوري فحملت منه، وسفر صديقها بعد أن دبّرتْ له مأوى في المنفى السويدي. نورا قاصة كتبت قصة اختها ونشرتها على الملأ في مجلة لبنانية، فصارت المخابرات السورية تترصّدها في بيروت حتى ظفرت بها وقتلتها بكاتم صوت في المنطقة الغربية من بيروت .
في الفصل الذي يليه ستتغير متلازمة المكان والزمان، لنكون بعد صفحات قليلة في عام 1994 في باريس، الشهر هو حزيران/يونيو، المشهد هنا مختلف تماماً عن ذلك المشهد الذي أرادت به الروائية حميدان لفت القارئ إلى عامل الصراع الذي ستدور حوله الرواية .
حين نكون في باريس سنرى أن علاقة مايا بزوجها زياد أخذت تتردى، كون زياد راح في تلك الأيام يبتعد عن فراش الزوجية، كان ذلك بسبب مرضه وعدم قدرته على المعاشرة الزوجية، لكن مايا كانت تتوقع أن زياداً إما يخونها مع إحداهنّ، أو أنه بدأ يملّ منها، بيد أن المسألة برمتها لم تكن كذلك، حيث تتلخص في مرض زياد الذي بدأ ينتشر في جسمه. مايا ستقف إلى جانب زياد في المستشفى عله يشفى، لكن القدر كان واقفاً له بالمرصاد .
تحت وطأة هذا المصاب الكبير ستترك مايا باريس إلى لبنان، وهذا ما يوضحه الفصل الذي سيلي الفصل الآنف. في بيروت ستشرع مايا في البحث عن داني إلى أن تعثر عليـه، لتلتقيه في الأشرفية هو وصديقه أرنست، بادئة العمل في الفيلم الوثائقي .
وفق هذا السياق وإبّان تصويرهم للفيلم، تعثر مايا عن طريق المصادفة على حقيبة في أحد البيوت المهجورة في وسط بيروت ومركزها، هناك سيبدأ داني بتصوير تلك الأماكن التي هجرها أهلها أثناء انطلاقة الحرب الأهلية في عام 1975 فما فوق، وغادروها إلى مدن العالم. التصوير سيكون في منطقة رياض الصلح وما جاورها من بيوت مهدمة، ومدمّرة، وشركات معطلة ومقفلة وخَرِبة، بعض الأماكن لُغِّمَتْ بين أطراف الصراع الميليشياوي وغياب الدولة، هناك عثرتْ مايا في أحد البيوتات الشرقية القديمة، على كنزها .تتقن إيمان حميدان ترسيم الأحداث كمشهد سينمائي، لغة الرواية شفيفة، متقشفة في الوصف، واللقطات المشهدية بين وحدة سردية وأخرى، محسوبة، ولها وقعها على ذهن القارئ، الذي سيتلهف ويأخذه الشغف لمعرفة الأسرار الدائرة في الأوراق والوثائق والصور التي عثرت عليها مايا. إنها تكاد تصف نفسها حين تتحدث عن نورا التي ذهبت هدراً، ستكشف لها الأوراق وهي عبارة عن رسائل بين نورا وحبيبها في تركيا، عن شخوص عديدين سيظهرون في الرسائل مثل صباح وصديقها أحمد الذي تعشقه بقوة الحب الذي سيمنحها عبر مرافقتها له على دراجته النارية «خمسون غراماً من الجنة». ومن ثم زواجها من أحمد، زوجها الآخر الذي سيموت بسكتة قلبية، ويتركها لتفتح كشكاً لبيع السكاكر وما شابه، لكي تعتاش من خلاله هي وولدها كريم الذي ستكشف الأوراق عبر مايا أنه ليس ابنها، بل ابن نورا التي اغتيلت في بيروت في نهاية السبعينيات .
عبر هذا المسار السردي وتبادل الروي بين الراوية ومايا، سينتقل الحوار بين نورا وكمال عبر الرسائل، وبين صباح التي ستبحث عنها مايا لتجدها عبر رسالة تتحدث عن الخندق العميق في بيروت وعن صباح التي توجد في هذا المكان، لكن مايا لا تعدم وسيلة في البحث عنها، حتى تصل إلى صباح عبر مختار المنطقة، بعد سلسلة من البحث المضني، متوصلة عبرها إلى كل ما كان يدور في ذلك البيت وما جاوره، مخترقة بذلك حجب الأزمنة ومستحضرة عوالم المكان القديم وشخصياته الكثيرة. مايا التي وجدت نفسها تتماهى مع شخصية نورا، إذ كلاهما كاتبة، وكلاهما لديها المشاعر والأحاسيس العاطفية ذاتها، وحتى تولعهما بأشخاص ورموز زمنهما، فنورا كانت مولعة بغاغارين الروسي رائد الفضاء وتجمع تفاصيل عنه لتكتب كتاباً، وكذلك مايا هي الأخرى مولعة بأسمهان وتفاصيل حياتها ونهايتها المأساوية، ساعية إلى تأليف كتاب عنها، وكذلك ولوع نورا بكمال وحبهما يذكرها بتفاصيل كثيرة هي كانت قد عاشتها مع زياد زوجها الراحل، هذا عدا افتتانها بلغة كمال إلى نورا وتولد شعور من الود نحوه، عبر رسائله الرومانطيقية، كل ذلك يدفعها إلى البحث عنه والتعرف عليه، وكشف هوية صباح وحياتها السرية الأخرى، حين كانت تبيع جسدها في فترة من الفترات، وانتشال كريم من عالم الضياع، كونه حياً ولم يمت في الانفجار الذي زعمت صباح إلى كمال المقيم في تركيا، بأنه كان مع أمه نورا في لحظة الانفجار ورحل معها.
كُتب الكثير عن الحرب اللبنانية وصدرت روايات باتجاهات وأنسقة مختلفة ومتباينة فنياً وأسلوبياً وتقنياً في رؤيتها التعبيرية في ما بينها، ورواية إيمان حميدان تنضاف إلى هذا الجمع من الروايات، وهي أيضاً قدمتْ خطابها الجمالي وآليات عملها السردية بطريقة متميزة ومغايرة ومختلفة عن الآخرين.
لكن ما يؤخذ على الرواية هو وقوعها في خطأ فني يتعلق بالزمن، وهو يتلخص بلحظة مجيئها إلى بيروت وذهابها لمقابلة داني لغرض التصوير وتسجيل الملاحظات، فمايا تصف وقت ذهابها بشهر يونيو عندما تضع ابنها في الحضانة وتذهب لعملها إلى وسط بيروت، وهناك حين تكتشف الحقيبة ويتم تصوير بعض اللقطات الوثائقية تعود بسرعة، أي بعد ساعتين أو أكثر، لتصف الزمن بشهر آب/أغسطس، ففي البدء تصف الجو بأنه «كان لطيفاً رغم حرارة حزيران» لحظة جلوسها في مقهى بانتظار داني وحين تنتهي لتعود إلى ابنها تقول واصفة الزمن بعد صفحتين «إنه شهر آب وبيروت بدأت لا تطاق» .

كاتب عراقي

هاشم شفيق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية