يميل محمد حسنين هيكل لوصف من تصدوا لشخصية الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بالتقصير نتيجة الخلل في أدواتهم، فهو يرى أنهم «لجأوا إلى الكاميرا تلتقط الصورة ومضاً بالضوء، بينما كان يجب أن يلجأوا إلى الفرشاة واللون رسماً بالزيت، ثم أنهم كرروا الخطأ حين اختاروا الكلاسيكية في الفن، بينما كان يجب أن يلجأوا للمدرسة التأثيرية».
ويستكمل هيكل ليترحم في كتابه على رقة رينوار وخيال مانيه، ويبدو أنه قرر أن يعوض بنفسه حالة الفقر في الخيال، ويقدم شخصية مبارك في نسخة تحفل بالخيال، وإن كانت تفتقد الرقة أو حتى الرحمة، فمبارك بالنسبة لهيكل هدف على قدر كبير من السهولة، للدرجة التي لم يتورع فيها عن استخدام أوصاف مهينة، في سياق يتخذ صفة المهنية والموضوعية، فيطرح تعبيرات من عينة «البقرة الضاحكة»، وهو التعبير الذي أخذه هيكل من الشارع، ولم يتحرج من إقحامه في كتابه، بدون أي ضرورة أو حاجة، كما لم تكن ضرورة ملحة لتقمص شخصية فرويد، وهو يهمز في البشرة الداكنة للرئيس السادات ويضعها أساساً لعقدة نقص نفسية لديه، وهيكل مثل غيره أبقى مبارك في المركز والواجهة، ليخفي وراءه ما شاء ومن شاء بعفوية، أو تعمد، والأسوأ بانتقائية ومزاجية، فالثورة كانت تتخطى مبارك لتكون سؤالاً حول مصر وهويتها ووجودها.
خمس سنوات مضت وحسني مبارك خارج الحكم، كان سقوطه لحظة تاريخية بلغت فيها القلوب الحناجر وألقت بمشاعر مرتبكة على أجيال كانت تتخيل مبارك على كرسيه وفي قصر الرئاسة، إلى أن يقضي أمراً كان مفعولاً، وربما كان الشارع المصري يتمنى فقط أن يتجنب بمعجزة مشروع التوريث، الجيش كان يقاسم المصريين هذه الأمنية تحديداً، وكان أحمد شفيق مرشحاً قوياً بصفته ابن المؤسسة العسكرية، الذي يحمل نكهة مدنية، ولكن المصريين نجحوا في إجهاض التوريث للابن ثقيل الظل، الذي يفتقد لأي شعبية أو حضور، وتصوروا ربما لأشهر أنهم بصدد مرحلة جديدة من تاريخهم ينفضون عن أكتافهم أثقال عقود من الاضطهاد والتهميش.
تغيرات كثيرة طرأت منذ رحيل مبارك، وأخرى لم تحدث، فشلت أو تعثرت أو ربما تأخرت، والمصريون يعايشون العالم من منظور ما فاتهم أكثر مما لحقهم، وفي خضم هذه المشاعر المرتبكة يبدو أن حنيناً لعصر مبارك يفرض نفسه، للعصر وللشخص أيضاً، ولكن أي مبارك تحديداً ذلك الذي يستحوذ على حصة من المصريين، وأي من المصريين ما زال على استعداد أن يدخل في كورال «ما أحلى الرجوع إليه»؟
عصر مبارك يتوزع بين ثلاث مراحل، الأولى كانت مرحلة مبشرة في تاريخ مصر، أو على الأقل كانت تكتسب هذه الصورة، لأنها جاءت بعد فوضى السادات ومشاريعه الساذجة والمدمرة في الوقت ذاته، ففي حقبة الثمانينيات بدأت مصر تشهد انفتاحاً سياسياً معقولاً، بدأ بإفراج مبارك عن المئات من الشخصيات النخبوية التي اعتقلها السادات قبل وفاته، وبدأت الحالة الأمنية تستقر بعد أيام صاخبة رافقت وأتبعت اغتيال السادات. أما الحالة الاقتصادية فمصر شهدت تحسناً تدريجياً وبدأت تنتقل إلى مرحلة أكثر عقلانية واتزاناً من اقتصاد السوق، مقارنة بانفتاح «السداح مداح» الساداتي، ولهذه المرحلة ينتمي الجيل الذي ولد في أواخر الستينيات وبدايات السبعينيات، الجيل الذي يستحوذ على نصيب الأسد من بقرة البيروقراطية في مصر.
كانت المرحلة الثانية تأتت بعد حرب الخليج الثانية، ويمكن أن تعتبر إلى حد بعيد الأفضل في تاريخ مصر بعد ثورة يوليو، فالمشاركة المصرية في التحالف الدولي ضد عراق صدام حسين ساعدت في الخروج من المديونية الخانقة، بما أدى إلى فوران اقتصادي ملموس، ولعل هذه المرحلة كانت المدخل لمشروع التوريث وتصعيد الوريث جمال مبارك، مدججاً ومحاطاً بتأييد رجال الأعمال، الذين كونوا ثروات طائلة من خلال التعدي على ثروات الدولة والممارسات الاحتكارية التي كانت تجري برعاية الوريث وتحت إشرافه، ولعل النقطة الفارقة كانت الانتقال إلى الخطوات العملية بالاعتماد على شخصيات غير مؤهلة تنحصر كل مؤهلاتها في قربها من مزاج جمال مبارك وقدرتها على التعامل مع مخيلته الفقيرة وأفقه الضيق، فكانت خلافة كمال الشاذلي المحنك في إدارة مجلس الشعب ومايسترو عمليات تفصيل وتقييف القوانين، من خلال أحمد عز بكل تواضع إمكانياته ورعونة تصرفاته إيذاناً بكارثة محدقة وقريبة، وكان من المحتمل بصورة كبيرة، وبدون الحاجة إلى العدوى التونسية، أن يتحرك الجيش من أجل المحافظة على مكتسباته ليفرض مساراً آخر للأحداث ويصعد بشفيق أو عمر سليمان للرئاسة.
المصريون أسقطوا مبارك وعادوا إلى مواقعهم، ولم يدركوا للحظة أن المشكلة لم تكن في مبارك وحده، ولكن في دولة مــــوازية وخفية كان أســـسها الابن، هذه الدولة لم تجعل مصر تحظى بالاستقرار لا في عصر المجلس العسكري ولا عصر مرسي وكذلك هي في عصر السيسي، وبغض النظر بالطبع عن حجم الأخطاء التي ارتكبت في المراحل الثلاث التي أتبعت الثورة، وبتنحية عوامل التحالفات والعداءات التي تبدلت أثناء السنوات الأخيرة، إلا أن هذه الدولة ما زالت نشيطة وتستعيد بالتدريج إمكانياتها السابقة، من خلال سيطرتها على وسائل الإعلام وعلى بعض القطاعات الاقتصادية وقدرتها على شراء ما يلزمها من ذمم وضمائر.
هذه الدولة تمكنت من التصرف بكثير من المرونة، والخسائر التي لحقت بها أتت في رؤوسها التي كانت صعدت إلى السطح قبل الثورة، أما قواعدها الخفية وعلاقاتها التي تمتد أفقياً وعمودياً في البنية المؤسسية لمصر، وهي أوسع من مفهوم الحكومة، وحتى الدولة بالمفهوم السياسي، ولذلك فهي تستطيع أن تأخذ بالمبادرة بينما ستظل كل المؤسسات الأخرى تحاول الاحتواء بدون أن تنجح في ذلك، فالخطأ الذي يتمدد أتى مع الخروج من الميدان بدون استكمال الثورة بالمعنى الشامل، فالثوار كانوا يعتقدون أن المشكلة تبدأ من مبارك وتنتهي به، وتناسوا أن مجلس الشعب في زمن سرور كان يتشكل أساساً من أعضاء الاتحاد الاشتراكي الناصري، وأن هذه الفئة اكتسبت مع التبدلات والتحولات قدرة على التعامل مع أي عصر وليس المحافظة على مكتسباتها فقط، ولكن الحصول على مكتسبات جديدة، ولذلك كان يتوجب عليهم أن يتابعوا حصادهم وأن يتناسوا الإغراءات التي زينتها أضواء برامج التوك شو في القنوات التي يمتلكها أصلاً بعض من أعضاء المحفل المباركي، الذي كان يراهن على الابن ويزين طريقه ليختصر الوقت ويقفز إلى الرئاسة قبل أن يضطر لمواجهة مأزق الغياب البيولوجي لمبارك الأب.
قطعت مصر طريقاً طويلاً منذ فبراير 2011، وما زالت في الخطوات الأولى التي تتبع أي ثورة، والمواجهة اليوم أمام جيل الثورة تتمثل في دفاعه عن فكرة الثورة، وعن شرعية 25 يناير، وعلى هذا الجيل أن يتصف بالوعي وهو يواجه التضليل المنهجي والتلاعب بالمفاهيم فيتحالف يتامى البيروقراطية القدامى مع رجال الابن ليشوهوا الثورة ويصوروها كمؤامرة على مصر وشعبها، وتنطلق اليوم المطالبات بالإعدام لثورة يناير واعتبارها «هوجة» و»فلتة» ويتسابق أعضاء مجلس النواب في إدانة الثورة ورفض شرعيتها ليكون ذلك خطوة أولى تجاه العودة إلى الاعتام والارتحال في « زمن الحق الضائع».
٭ كاتب أردني
سامح المحاريق