لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أزور فيها العاصمة الفرنسية، رغم ذلك فإن شعور المحبة والإعجاب كان هو ذاته الذي شعرت به أول مرة.
أصبحت معتاداً على تذمر الباريسيين وشكواهم من ازدحام الشوارع ومن شبكة المواصلات العامة ومترو الأنفاق القديمة والمعقدة، وغيرها من السلبيات التي قد تكون مزعجة فعلاً لمن يقيم في هذه المدينة بشكل دائم. أما بالنسبة لعابر سبيل مثلي فإن كل ذلك لم يكن ليشغلني عن بهاء المدينة وألقها، وفي حين كان مرافقي يحدثني عن باريس التي أصبحت مدينة متسخة لم أكن أرى تلك الأوساخ، بل كان اهتمامي يتركز على ذلك الجزء الخلاب والممتلئ من القصة حيث النهر والبرج والمتاحف وأروقة الثقافة والفن.
باريس كثيراً ما تترك انطباعاً إيجابياً في عيون من يزورها من طلبة علم ومثقفين ورجال دين. جميعنا يذكر رفاعة الطهطاوي وكتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وهو الكتاب الذي عبّر عن نقلة فكرية لصاحبه وساهم في تغيير طريقة نظر الكثيرين إلى العالم الغربي الذي لم يكونوا يعرفون عنه سوى القليل. سيكون الطهطاوي هو أول من سيتساءل عن شروط الحداثة وعن عوامل النهضة وستتلوه في هذه المسيرة قائمة طويلة من الكتاب والمفكرين من اتجاهات مختلفة، كلهم سوف يتساءلون السؤال الأول البسيط ذاته الذي تساءله الطهطاوي: أين السم وأين العسل؟ وكيف يمكن فصل السم عن العسل للاستفادة من الأخير وإبطال مفعول الأول؟ من العبارات الجميلة التي سيضعها الطهطاوي متأثراً فيها بما رآه في رحلته العجيبة تلك، العبارة التي ستصبح مثار اهتمام لاحقاً والتي يقول فيها: «بالأقلام تساس الأقاليم». عبارة تحمل الكثير من المعاني أهمها أن الحكم يجب أن يعتمد على العلوم وليس القوة والجبر.
مؤخراً كتب الشيخ عائض القرني وهو، بالإضافة إلى منزلته في العلوم الشرعية، كاتب ذو أسلوب أدبي مميز، كتب عن باريس التي زارها للعلاج ما سماها شهادة حق وإنصاف وكان من الطريف أنه بدأها بقوله: «وأخشى أن أتهم بميلي إلى الغرب». وقبل أن يظن القارئ أن القرني يعتبر أن الميل إلى الغرب تهمة أو جريمة سيشرح الكاتب وجهة نظره التي تعتبر أن السياق مختلف وأنه تجوز المقارنة بين عالمين وتجربتين بخلفيات حضارية مختلفة. بحسب عبارات القرني الذي سيستدل بالآية الكريمة: «لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ» فإن «الاعتراف بحسنات الآخرين منهج قرآني». سيعقد الشيخ السلفي مقارنة ومقابلة لطيفة بين طريقة التعامل في المجتمع الفرنسي حيث «رقة التعامل وتهذيب الطباع ولطف المشاعر وحفاوة اللقاء وحسن التأدب مع الآخر» وبين المجتمعات العربية حيث التوحش والغلظة. سيعود الرجل ويستشهد بهذه التجربة في عدة لقاءات تالية ومقالات.
لكن باريس اليوم لم تعد معروفة فقط كعاصمة للثقافة والفنون وصيحات الموضة، بل كعاصمة مهمة وأساسية في مجال.. محاربة الإرهاب. نعم، يمكن وصف باريس اليوم كإحدى أهم عواصم مكافحة الإرهاب الإسلامي، إن جاز التعبير، هذا إذا لم تكن الأهم على الإطلاق. وسيذكر من سيكتب تاريخ عصرنا الحالي هذا أن المسلمين حينما أرادوا أن يصنعوا لأنفسهم حلفاً عسكرياً دولياً لمحاربة الإرهاب اختاروا أن يتم الإعلان عنه من باريس.
الحديث عن الإرهاب وتعريفاته وطرق مكافحته حديث متشعب لا يتسع له هذا المقام. لكن المهم في قصة الإرهاب هذه هو أن إجراءات مكافحته في بلد كفرنسا لم تعد تتوقف عند مراقبة العرب والمسلمين، أو ما بات يطلق عليهم اسم «الإرهابيين المحتملين»، بل إن الدائرة اتسعت، خاصة بعد تفعيل وتمديد حالة الطوارئ، بحيث صارت تشمل جميع الفرنسيين الذين باتوا يخضعون للمراقبة تقريباً في كل مكان عبر الكاميرات المبثوثة وعبر حق الدخول إلى الحسابات البنكية وغيرها من التشريعات التي كان آخرها قانون يهدف لخلق شبكة من المعلومات الخاصة بكل مواطن وتجميعها ضمن دائرة خاصة للبيانات التي ستكون متاحة للرجوع إليها متى ما احتاجت السلطات، تحت العنوان العريض لـ»تأمين المجتمع» و»منع الجريمة».
لقد وجد المواطن الفرنسي، الذي كان يعتبر أن حالته الاجتماعية وعمره ودخله أسرار لا تخص سواه، نفسه مجبراً على مشاركة هذه التفاصيل الشخصية من أجل حماية المجتمع من الإرهاب. ما تزال هذه الخطوات التي لا يبدو أن الحكومة مستعدة للتفاوض حولها مثار جدل. مصدر القلق هو أنه مهما كانت الضمانات سيظل هناك احتمال لإساءة استخدام هذه المعلومات لغرض إجرامي، سواء باحتمال وقوعها بين أيادٍ فاسدة، أو باحتمال بسيط آخر، إذا أحسنا الظن بكل الدوائر الرسمية، وهو أن يحدث اختراق لهذه المعطيات وهو أمر غير مستبعد في ظل تطور البرمجيات الفيروسية التي تقدر على اختراق وتخريب أقوى الشبكات تحصيناً. ما كنت أقوله دائماً هو أن فرنسا الحالية هي في حالة اختطاف. هذه القناعة ترسخت لدي مع ظهور نجم اليميني نيكولا ساركوزي الذي ترأس البلاد خلال حقبة تاريخية شديدة الحساسية (2007-2012). ساركوزي ابن المهاجرين كان أشد على المهاجرين من أي رئيس فرنسي آخر، وكثيراً ما كانت تصريحاته محل سخرية واستياء من مواطنيه الذين كان كثير منهم يقول إنه لا يمثلهم. لكن فرنسا ديمقراطية وبالتالي فإن هذا الرجل يمثل الجمهور الفرنسي بطريقة أو بأخرى. هذه عبارة فلسفية قد يطول النقاش حولها لأنها تلخص مأزق الممارسة الديمقراطية في قلاعها الغربية. لتقريب الصورة يمكن مقارنة ذلك الوضع بما يحدث الآن في الولايات المتحدة، حيث ترغم كل تلك الملايين على الاحتشاد ضمن حزبين فقط ضمن طريق يؤدي في نهايته بالجميع للاختيار بين خيارين صعبين: هيلاري كلينتون أو دونالد ترامب.
ما أقصده بالاختطاف هو محاولة تصوير أولويات اليمين ونظرته المتطرفة إلى العالم كأولويات وطنية للجمهورية الفرنسية، وهي عملية بدأت منذ عقود متأسسة على افتراض وجود صراع حتمي بين حضارات وهويات العالم. هذا الاختطاف عاش عهده الذهبي أيام ساركوزي لكن مجيء أولاند الذي ينتمي لمدرسة مختلفة لم يغير كثيراً في واقع نظرة فرنسا الحالية لنفسها، وهو ما يعني أن هذا الاختطاف صار أكثر تجذراً في بنية الجمهورية الفرنسية الحديثة. يظهر نجاح الرؤية اليمينية في التحول لمشروع للدولة في التوسع في حظر المظاهر الإسلامية الذي سيمتد ليطال ليس فقط الحجاب والنقاب، بل حتى زي السباحة الذي تفضل أن ترتديه المسلمات. يظهر انتصار اليمين أيضاً في اصرار السياسيين ورجال الحرب الفرنسيين على الدخول في حروب مستعرة وتمويل حملات دولية تحت العنوان الهلامي لـ»محاربة الإرهاب». كل تلك توجهات لا يبدو أنها ستتغير في القريب حتى إن تغيرت انتماءات من هم على هرم السلطة. الحقيقة هي أن كل تلك المشاريع لم تكن تعتبر ذات فائدة بالنسبة لمعظم المواطنين الفرنسيين الذين لا تضايقهم ممارسة المسلمين لشعائر عبادتهم ولا يعتبرون أن من واجباتهم إنهاء حكم دولة الشريعة في مالي أو محاربة التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق وليبيا، بل ربما كان أولئك يرون في كل هذا خصماً من راحتهم ورفاهيتهم وإهداراً لأموال كانوا هم أولى بها. من أجل ذلك كان يجب أن تستعر الدعاية من أجل كسب دعم هؤلاء المواطنين عبر التركيز على فكرة مفادها أن هؤلاء المتطرفين يستهدفون النموذج الديمقراطي الغربي والفرنسي خاصة، وأنه يجب التدخل لتطويقهم في أماكنهم البعيدة قبل أن يشتد عودهم ويتقدموا أكثر نحو الحدود الأوروبية.
ثم جاءت سلسلة من العمليات الإرهابية التي وقعت داخل التراب الفرنسي لتخدم بشكل غير مسبوق وجهة النظر اليمينية. اليمين المتشدد لم يتأخر وانتهز الفرصة ليصطاد في الماء العكر مجاهراً بخطابه العنصري ضد الأقليات، خاصة المسلمة، حتى أن ماري لوبين زعيمة «الجبهة الوطنية» لم تعد تكتفي بالمناداة بحظر الحجاب وإنما بالدعوة لمحاربة مطاعم الأكل الحلال ومحلات الكباب والكفتة التركية بزعم أنها تهدد الهوية الوطنية.
الأمن أصبح هاجساً حقيقياً للمواطن الفرنسي الذي يتساءل بحيرة عن سر هذا الاستهداف المستميت من قبل المتشددين الإسلاميين. هنا يظل سؤال معلقاً: هل جاءت هذه العمليات رداً على التدخلات الفرنسية وعلى الضربات العشوائية التي راح ضحيتها عدد كبير من الأبرياء والمدنيين في كل مكان وصلت إليه القوات الفرنسية؟ أم أن الذي حدث هو عكس ذلك تماماً وأن الإرهاب هو الذي بدأ بإعلان الحرب على الفرنسيين والأوروبيين الذين كان سيستهدفهم عاجلاً أو آجلاً لعدائه الوجودي لطريقة حياتهم، وهو افتراض يجعل كل التحركات العسكرية الفرنسية والأممية مبررة ومنطقية؟
يبدو هذا أشبه بقصة البيضة والدجاجة التي لا نعلم من منهما كان أسبق للوجود، لكن محاولة العثور على إجابة لهذا السؤال مهمة، لأن إجابته قد تقود إلى حل ألغاز كثيرة.
كاتب سوداني
د. مدى الفاتح