خواطر يمنية

حجم الخط
3

أسس السبئيون دولة قوية في جنوب بلاد العرب التي أطلق عليها اسم «اليمن». أقاموا علاقات تجارية مع شمال الجزيرة، ووصلت تجارتهم إلى الشام وجزر اليونان، وامتد ملكهم قروناً طويلة.
ويحدثنا التاريخ أن السد العظيم الذي أقاموه في مأرب تهدم، فتفرق شمل القوم، وضربوا في البلاد يبحثون عن أوطان أخرى. والحقيقة أن تهدم السد كان لأنهم في عصورهم المتأخرة أهملوا أعمال الصيانة الخاصة به، الأمر الذي أدى إلى تهاويه تحت ضربات «سيل العرم» المقبل من أعالي الجبال.
واليوم يمر اليمنيون بمرحلة أشبه ما تكون بتهدم سدهم القديم، حيث أتت عليهم السيول، وتناوشتهم العواصف والأحقاد. اليوم يتقوقع أبناء هذه «البلدة الطيبة»، على هوياتهم الجهوية والمذهبية والقبلية الضيقة، ويصنعون لأنفسهم مظلات صغيرة وسط غضب العواصف والأمطار، في وقت يمزقون فيه هويتهم الوطنية والدينية الجامعة. لا شك في أن الإنسان بطبعه يحتاج إلى غطاء، إلى حماية، إلى شعور بالانتماء. فإذا غاب الانتماء الكبير، لجأ الناس إلى انتماءات صغيرة جهوية وعصبوي،ة يعبرون بها عن حاجتهم للحماية قبلياً وطائفياً وجهوياً.
هذا- بالضبط – ما حدث في اليمن، حين اُختصر الولاء للشعب في الولاء للشخص والحزب والقبيلة، والولاء للوطن في الولاء للجهة الجغرافية، واختصر الدين بمحتواه الروحي الواسع في المذهب بحدوده البشرية الضيقة. وبما أن الولاء الوطني انهار، وحلت محله الولاءات الضيقة، فقد انقسم اليمنيون إلى شماليين وجنوبيين، وجبالية وسواحليين، وزيود وشوافع، وهاشميين وقحطانين، وحاشد وبكيل ومذحج، الأمر الذي أورثهم كماً هائلاً من الصراع السياسي والعسكري والإعلامي، مع موجة من الكراهية المصحوبة بلغة بشعة لا يقل أثرها التمزيقي عن آثار السلاح، إمعاناً في هذا الجسد الذي تفتك به صراعات وأمراض متعددة.
واليوم، يبدو الجسد اليمني مثخناً بالكثير من الجراح ونقص المناعة، لكثرة ما تناوشته من جراحات سياسية وعسكرية، إلى درجة يخيل للمرء معها أننا بحاجة إلى معجزة لاستعادة الجسد عافيته ونضارته. إن جسد المجتمع كجسد الإنسان يمرض ويشيخ، لكن الفارق بين الجسدين أن الأول لا يموت، في حين يوضع الثاني في التراب، تأكله ديدان الأرض. وبما أننا إزاء حالة رفض لعوامل فناء المجتمع، فإن الأمل بعودة الروح، أو عودة الوعي لا يزال يحدو الناس، في وقت يُطالَب فيه اليمنيون بالوقوف لحظة لتأمل ماذا جنت عليهم مكايداتهم السياسية، وخلافاتهم الحزبية، وانكفاءاتهم العصبوية.
ومن الخلاصات التي يمكن لليمنيين أن يخرجوا بها من تجربة السبع العجاف، أن قضية اختصار الوطن في شخص أو حزب مهما عظم هذا الشخص، أو هذا الحزب، إنما هي مغالطة يقوم بها ساسة انتهازيون يقدمون لنا اليمن مختصراً في جبة السياسي الحاكم، أو في قميص السياسي المعارض. إن هذه العملية السوسيو-سيكولوجية مورست من قبل أحزاب السلطة والمعارضة على حد سواء، وهذه العملية تشبه حد التطابق قضية اختصار الدين في المذهب أو الحزب السياسي الديني، أو اختصار الإسلام في خطيب الجمعة. كل ذلك يعني إضفاء القداسة الدينية على بشر يخطئ ويصيب، كما أنه يطبع الإلهي المقدس بطابع البشري غير المقدس، ويلقي على الدين بجريرة سلوكيات المتدينين، ويحمل الإسلام مسؤولية أفعالهم التي محلها الصواب والخطأ، وهو الأمر الذي أدى خلال السنوات الماضية إلى اهتزاز إيمان البعض بتلك المقدسات، لا بسببٍ من عمليات عقلية تأملية أفضت إلى اكتشاف خطأ المقدسات، ولكن بسببٍ من عمليات انفعالية عاطفية، تمثل ردة فعل عنيفة على انهيار أحلام معينة كان بعض المتدينين يروجون لها، وربط البعض بين انهيارها، وبين المقدسات، الأمر الذي أدى إلى ضرب من تجاوز الهجوم على المتدينين إلى مهاجمة الدين ذاته.
وأياً ما تكن نتائج أحداث 2011 في اليمن، وأياً ما يكن الموقف من هذه الأحداث، فإن ما هو مهم ومفيد لليمنيين اليوم هو أن يعلموا أن ما بعده ليس كما قبله، وأن شكل النظام السياسي والمنظومة الاقتصادية، وقواعد اللعب بشكل عام قد تغيرت إلى حد كبير. يجب اليوم النظر إلى مقاربات مختلفة لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والنظام والمعارضة، وشكل الدولة وعلاقة المركز بالأطراف، وعلاقة السلطة بالثروة، والعلاقة التي تربط السلطات الثلاث، والكيفيات التي بموجبها يتم توزيع السلطات حتى لا تتراكم في يد جهة تنفيذية أو تشريعية أو قضائية محددة.
ما حدث في البلاد خلال السنوات الماضية هو ردة فعل طبيعية لاختلال ميزان العدالة والفساد الذي مورس خلال العقود الماضية، وهذه نقطة مهمة يجب الاعتراف بها، لكي نتجاوز تداعيات عام 2011. وعندما نتحدث عن اختلال ميزان العدالة وعن الفساد، فإننا بالطبع نتحدث عن جملة المنظومة السياسية، والنخب الثقافية والاجتماعية، بمفهوم أوسع يتجاوز اتهام النظام السابق فقط وتبرئة ما عداه، وإن كان هذا النظام يتحمل القدر الأكبر من المسؤولية في هذا الصدد.
من المفيد لليمنيين أن ينتقلوا من حالة الانقسام السياسي إلى حالة التعددية السياسية، ومن حالة الوحدة الجبرية، إلى حالة تكون الوحدة فيها خياراً شعبياً مناسباً لكل اليمنيين، وهذا يعني تطبيق ضوابط عادلة في تقاسم السلطة والثروة في البلاد، وإقرار ذلك في الدستور والقوانين، واليقين بأن أي عملية انقلاب على الشرعية الدستورية سيكون مصيرها الفشل، وأن طريق السلطة الوحيد هو صندوق الانتخابات. ومن المفيد خلال هذه الفترة كبح جماح النعرات العنصرية التي فجرتها المليشيات التي قضت على كيان الدولة، والعودة إلى ثقافة المجتمع بدلاً من ثقافة القبيلة والطائفة والمنطقة والمكون السياسي والاجتماعي.
العنصرية التي باتت تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي بين أبناء البلد الواحد ينبغي أن يقوم لها خطاب مضاد، يعمل على ترشيد الخطاب الإعلامي، ووقف الضخ المناطقي والمذهبي، ونبذ كافة أشكال التعصب، ودعوات الكراهية وإثارة النعرات. إن مشكلة العنصرية أنها عندما يمارسها فريق ضد آخر، فإن الفريق الذي مارسها لا يلبث أن يمارسها مرة أخرى ضد منتسبيه، من دون أن تقف سكين التشظيات حتى تأتي على النسيج كله.
أخيراً: يلزم اليمنيين- اليوم- قليلٌ من الهدوء، لأنهم مع كل ذلك الضجيج الذي يُمارَس لن يصغوا إلى صوت العقل والحق والخير الكامن بعيداً في أقاصي النفوس الثائرة. وعندما يهدأ اليمنيون فإنهم بلا شك سيكتشفون كم كان صراخهم عالياً، وكم كانت مأساتهم كبيرة، وكم جنوا على أنفسهم، وعلى وطنهم. ومن هنا يكون تصحيح المسار، وبداية الوعي.
كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»

خواطر يمنية

د. محمد جميح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول إلياس الجزائر:

    السلام عليكم..ذكر الأخ الكاتب واصفا دولة سبأ ما يلي: ”1) أسس السبئيون دولة قوية في جنوب بلاد العرب التي أطلق عليها اسم «اليمن». أقاموا علاقات تجارية مع شمال الجزيرة، ووصلت تجارتهم إلى الشام وجزر اليونان، وامتد ملكهم قروناً طويلة.
    2(ويحدثنا التاريخ أن السد العظيم الذي أقاموه في مأرب تهدم، فتفرق شمل القوم، وضربوا في البلاد يبحثون عن أوطان أخرى. والحقيقة أن تهدم السد كان لأنهم في عصورهم المتأخرة أهملوا أعمال الصيانة الخاصة به، الأمر الذي أدى إلى تهاويه تحت ضربات «سيل العرم» المقبل من أعالي الجبال.” و نحن نركز على قوله في الفقرة رقم 2 التي يتحدث فيها عن السد و أسباب تصدعه..نقول هناك فرق بين التاريخ الذي كتبه البشر و بين كلام رب البشر و أسباب غرق القوم و تفرقهم هي في قوله تعالى بسم الله الرحمان الرحيم:(”لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ۖ وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ۖ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19 ..”) لا توجد حقيقية و ثابتة إلا في كتاب الله و ما عاداها تحتمل الحقيقة و الزيف: (”.. تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)..”) و السلام على من إتبع الهدى..

  2. يقول خليل ابورزق:

    مقال جيد و عميق و اهم مافيه تقصي الاسباب التي ادت الى النتائج. و الاهم هو تقصي اسباب الاسباب للوصول الى الجذور بما يضمن اجتثاث العيب من اصله و ليس معالجة الاعراض الظاهرية.
    بالمناسبة صحيح ما اورده الكاتب في بداية المقال عن النزوح الكبير اثر انهيار سد مأرب بسبب اهمال صيانته. و لكن السبب في اهمال صيانته كان في التراجع الاقتصادي للدولة التي كانت قائمة على تجارة البخور و العطور و البهارات ما بين افريقيا و الشام. فلما انتشرت المسيحية في هذه البلاد انقطعت الحاجة الى تلك التجارة فبدأت الدولة بالافلاس. و هاجرت العقول فانهار السد. و نتج عن ذلك النزوح الجماعي..اليس في هذا درس للدول القائمة اليوم على مصدر واحد للاقتصاد؟؟؟

  3. يقول الدكتورجمال البدري:

    هذا نصّ بلقيس ملكة سبأ اليمن : { قالت : إنّ الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ؛ وجعلوا أعزّة أهلها أذلة وكذلك يفعلون }.هنا { الملوك } ليسوا السلاطين من ذوي التيجان والصولجان والعروش ؛ كما فهمت خطأ بل { الملوك } تورية لملوك كندة ( أصحاب الشاعر امرؤ القيس من بني ثورمن سبأ اليمن أيضّا ) الذين كانوا أعداءً لسبأ بلقيس.وعملوا ضدها…فهي تشيرإلى الأعداء المتربصين بسبأ مع ( قدوم ) جيش الملك سليمان لا سترجاع مجدهم الآفل عن السلطان.وهذا ما أشارإليه شاعربني تغلب عمروابن كلثوم في معلقته ؛ وتسجيل انتصاربني تغلب على كندة الملوك بقوله : { فأبوا بالنهاب وبالسبايا…وأبنا بالملوك مصفدينا }.فعلًا إنها خواطريمنية.جعل الله خاطرك ( باردًا ) أيها الكاتب من كلّ حسرة تحشرج في الحلقوم كالشارب من ماء أل : { عرش عظيم } لبلقيس.وعرشها هوسدّ مأرب لا كرسي الإمارة للجلوس.وكلّ ماء عذب كثير محفوظ في مكان أمين من دون حراس يسمّى عرش ؛ أيها الناس.جمع الله من جديد ( أيدي سبأ ) حول { عرش عظيم } من المحبة والوحدة والسّلام.

إشترك في قائمتنا البريدية