مررت بأكثرَ من تجربةٍ في الكتابة (بعمرٍ قصير) آخرها كانت عن (حارة الطي) والذكريات الشرسة التي تنبح خارج النص، كنتُ أشعر بالحزنِ، دائماً، لأنها مرتبطة بالموت والحرب والبحث عن أشياء ضائعة (كالحبّ) مثلا، الذي يسميه أصحاب الخيبات الكثيرة حقلاً واسعاً لجرادِ أفكارنا.
لأنني أعرف أن المسافة يأكلها الزمن، ولأنني لا أريد أن أفقد ثقافة الشوارع المؤدية إلى سرحان طويل وعشوائي، لن أتوقف لشراءِ حذاءٍ جديد، سأمشي أكثر، سيكون معي ساعة من الوقت، كي أصل أسفل هذا العمر.
مررت بأكثرَ من حديقةٍ عامة (كعابرِ سبيل)، آخرها كانت ذات أضواء وأطفال وريح، بقيت هناك طوال الليل بعيداً عن العشق، كنتُ أدون ملاحظات سريعة حول النساء اللواتي يتركن شيئاً من ذكرياتهن تحت المقاعد الخشبية، حتى ولو كانت قشور البزر، مع ذلك لم أنكر أني من الزوار الغرباء الذين يأتون لأول مرة ويدارون عين القلب حتى تعبر فتاة الحلم إلى منازل الجسد، وترتب فوضى الحواس والكلمات الحُمر في كوخِ الذكريات.
أذكر أن فتاة في العشرين علمتني أول درس في العشق، قالت: نحن لا نعرف حقا متى نسقط في العشق، ولكن نعرف أننا سنسقط لعدة أسباب، مثلاً:
*الغناء في القطارات وبدون رقصة الكتف يفتح ثقباً واسعاً في القلب، وخصوصاً في قلب الشخص الذي يحدق من بعيد.
* البحث عن شقة صغيرة للإيجار في مدن كبيرة جداً، مدن لا تعيرك اهتمامها ولا تكترث بك إلا أنها تثيرك في كل ظهيرة، خصوصاً في الظهيرة الممطرة.
امممممم دعني أخبرك بأشياء أخرى لا يفكر بها أغلب الناس في العادة، مرة وبسبب نافذة مفتوحة سقطت في العشق، رأيتُ نهاية صوتي والدود ينهش ذاكرتي.
الفتاة التي علمتني أول درس في العشق علمت أن قلبي من ورق، لذلك مزقته إلى جزأين.
لستُ ممن يخدعون الناس!
مررت على الحواجز مثل بياض النهار كان العشاق يمتشقون رشاشاتهم من البرديّ وينصتون للصوت المباغت، الطائرات في أفقٍ رصاصي _ أمام الله تفتت الأحجار والأحلام، المرأة بالكوفيةِ الرقطاءِ، مقرُوحة الأقدامِ، تنظّمُ مدائح الفوضى وتتحدّث عن رهافةِ الوحدة واخضرارِ الوشم، عروق الأحلام وأصابع حزني على الساتر الترابي يقتلها السرد، ولأنيَّ لم أكن جاهزاً لضحكاتٍ تلتصق بالذاكرة، مشيتُ نحو الشوارع لأقول لها انتظري قليلاً… انتظري، سأعود من ليالي الحرب لأصفّر لفتيات المدارس ونوافذ الحنين وبائعي السجائر، سأعود لانحاز لأطفال يغنون في العلب، حيث أمي كانت تغزل خطواتنا وأغاني النوم أرجوحة. مررت في ليل الطفولة مسرعاً، لأطالب الهابطين من روحي والصاعدين في قطار الحرب بصرخات الحنين. مررت بالمدن والقرى الكالحة كنهرٍ هادئ، فحملتني بالطحالب والأوحال والدماء، ونبت شوكها في ضفتي جسدي، لست أعرف كيف اعتدت على حياتي هذه، حياتي التي صارت دون مستقبل حتمي ولكنها تلمع مع هطول الأمطار وتجري في براري الدفء، ويسمّيها الآخرون مكاناً خصباً لهاجس الغريب، ربما هي هكذا حياة الأنهار تتبع مجراها ظامئةً وسعيدة ولا تمتلك الخيار.
سوريا
حسن شاحوت
جميل جدا جدا