لطالما مثلت الخلفيات المذهبية والدينية مادة للصراعات والنزاعات السياسية في التاريخ الإنساني بشكل عام وفي تاريخ الشرق الأوسط بشكل خاص.
تجاوز العالم الكثير من الصراعات القائمة على خلفية دينية، إلا أن الشرق الاوسط مازال يطفو على بحيرة من دماء ضحايا النزاعات الطائفية والدينية، ما أن تهدأ أو تخبو نار صراع في منطقة ما، حتى تشتعل منطقة أخرى للأسباب نفسها، واليوم تشهد المنطقة توترا غير مسبوق، لنعيش خامة صراع، خيوطها تشكلت من مدارس المذاهب الاسلامية والطوائف التاريخية التي لا تريد أن تغادر واقعنا، غزلت بمغزل السياسة الدولية لنبقى مشدودين إلى وحل تاريخي تغوص فيه نظرتنا فتحجب رؤيتنا للمستقبل.
تداعيات لأحداث تشتعل فيها صراعات ونزاعات سياسية واجهتها الصراعات المذهبية بعضها قديم متجدد والبعض الآخر مستجد يحتاج إلى توقف ونظر، الأزمة الاولى هي انعقاد مؤتمر علماء المسلمين بغروزني العاصمة الشيشانية (25-27 أغسطس 2016) حضره نحو مئتي شخصية دينية، يتقدمهم شيخ الأزهر. وكان المؤتمر تحت عنوان (من هم أهل السُنة والجماعة؟ بيان وتوصيف لمنهج أهل السنة والجماعة اعتقاداً وفقهاً وسلوكاً، وأثر الانحراف عنه على الواقع) وقد عقد برعاية الرئيس الشيشاني رمضان احمد قديروف، اما مناسبة انعقاد المؤتمر فكانت ذكرى اغتيال والده الرئيس الشيشاني السابق أحمد قديروف، المفتي والزعيم الجهادي الذي انقلب على (المجاهدين الشيشان) واتفق مع الجانب الروسي على اثر خلافات مع قيادة الحركة التي كانت ترفض اخراج المقاتلين العرب من الحرب الدائرة في الشيشان ضد الحكومة الروسية، وهو ما كان المطلب الاساس لقديروف، الذي انتخب بعد ذلك رئيسا للشيشان عام 2003، لكنه سرعان ما اغتيل في مايو عام 2004 بتفجير ضخم في ملعب دينامو بغروزني خلال الاحتفال بيوم النصر، وقد اعلنت الجماعات المتطرفة بقيادة شامل باساييف عملية اغتيال الرئيس الشيشاني.
اذا بدءا باختيار مكان المؤتمر ومناسبة انعقاده، يبدو واضحا أن مغزل السياسة يعمل بحنكة في اختياراته، من جانب آخر اعلن أن الراعي الرسمي الذي تكفل بترتيب المؤتمر وتولى مسؤولية الصرف عليه هو مؤسسة طابة، وهي مؤسسة غير ربحية مركزها مدينة ابو ظبي ومديرها التنفيذي الداعية الاسلامي الصوفي الحبيب علي الجفري، اليمني الاصل المقيم في مصر، ولاننا نعلم جيدا موقف دولة الامارات من حركة الاخوان المسلمين التي وضعتها على قائمة الارهاب، فكان من المتوقع أن يتم استبعاد الحركة وعلمائها وبشكل خاص الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي يمثل المرجعية الدينية الابرز للحركة، لكن في الوقت نفسه، فان الرعاية الروسية للمؤتمر لها شروطها، فالدور الروسي الكبير في الحرب السورية غير خاف على أحد، وهو الذي منع الاطاحة بنظام الاسد عبر الدعم الروسي المستمر، بالمقابل هنالك دعم واضح من دول خليجية لحركات المعارضة السورية ذات التوجهات الاسلامية الراديكالية، اذن بناء على توجيهات الادارة الروسية يجب أن يُستبعد من المؤتمر السلفيون بكافة اطيافهم.
لكن الدهشة التي اصابت المتابعين كانت بسبب وجود وفد مصري رسمي كبير، ترأسه الامام الاكبر شيخ الازهر الدكتور احمد الطيب، والمفتيان الحالي والسابق ومجموعة كبيرة من علماء مصر، وهذا ما اعتبره المراقبون ابتعادا رسميا من حكومة السيسي عن فلك السعودية والاقتراب التدريجي من المحور الروسي، وقد جاء في البيان الختامي للمؤتمر إشارات ذات دلالة في هذا الاتجاه، فقد تضمن (التوصية بإنشاء مركز علمي بجمهورية الشيشان العتيدة لرصد ودراسة الفرق المعاصرة ومفاهيمها، وتشكيل قاعدة بيانات موثقة تساعد على التفنيد والنقد العلمي للفكر المتطرف ومقولاته، ويقترح المؤتمرون أن يحمل هذا المركز اسم «تبصير») كما اشار البيان إلى (ضرورة رفع مستوى التعاون بين المؤسسات العلمية العريقة كالأزهر الشريف، والقرويين والزيتونة وغيرها، ومراكز العلم والبحث فيما بينها ومع المؤسسات الدينية والعلمية في روسيا الاتحادية).
وقد حدد المؤتمر (اهل السنة والجماعة) بتوصيف محدد هو؛ أن أهل السنة والجماعة هم الأشاعرة والماتريدية «ومنهم أهل الحديث المفوضة» في الاعتقاد، وأهل المذاهب الأربعة الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الفقه، وأهل التصوف الصافي علماً وأخلاقاً وتزكيةً على مسلك الإمام الجنيد وأمثاله من أئمة الهدى. كما وصف التيارات السلفية بشكل عام باوصاف قاسية تصدر لاول مرة من مؤتمر بهذا الحجم، اذ ذكر بيان المؤتمر(تكرر عبر التاريخ هبوب أمواج من الفكر المضطرب والمنحرف، الذي يدعي الانتساب إلى الوحي الشريف، ويتمرد على المنهج العلمي الصحيح ويروم تدميره، ويزعزع أمن الناس واستقرارهم، وكانت أولى تلك الموجات الضالة الضارة، الخوارج قديما، وصولا إلى خوارج العصر الحديث من أدعياء السلفية التكفيرية، وداعش ومن سار على نهجهم من التيارات المتطرفة والتنظيمات المُسيَّسة التي يعتبر القاسم المشترك بينها هو التحريف الغالي والانتحال المبطل، والتأويل الجاهل للدين، مما ولَّدَ عشرات من المفاهيم المضطربة المغلوطة، والتأويلات الباطلة التي تناسل منها التكفير والتدمير، وإراقة الدماء والتخريب، وتشويه اسم الإسلام).
وقد اتهم عدد من الكتاب السعوديين من حضر المؤتمر بشكل عام والازهر ورموزه بشكل خاص بانهم فقهاء السلطان الذين يسيرهم الحاكم بحسب مزاجه وتقلباته السياسية، وطالبوا حكام المملكة بايقاف الدعم الكبير الذي تقدمه لمصر وبشكل خاص في المجال الاقتصادي بعد أن انقلب حاكمها ووقف مع اعداء المملكة والاسلام. ولم تمر على زوبعة مؤتمر غروزني سوى ايام معدودة، حتى اشتعلت الازمة الثانية بشكل خطاب عدائي وتوتر واتهامات بين الجمهورية الاسلامية في ايران والمملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من أن هنالك الكثير من التوترات والمعارك بينهما يشهدها اكثر من محور واكثر من ساحة، الا أن حدة الخطاب هذه الايام وصل مديات غير مسبوقة منذ ثلاثين عاما، فنحن نعلم أن العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين قطعت منذ تسعة اشهر، بعد هجوم المتظاهرين على السفارة السعودية بطهران على اثر اعدام الشيخ نمر النمر في السعودية، ومع اقتراب موسم الحج ونتيجة لمقتل 469 حاجا ايرانيا العام الماضي نتيجة التدافع في احد المشاعر، الذي حملت الحكومة الايرانية فيه الادارة السعودية لمناسك الحج وتقصيرها في الامر، كل ذلك دفع الايرانيين إلى طلب بعض الاجراءات لحماية حجاجها لهذا العام، وعند رفض الطلب من قبل الحكومة السعودية ومنع الحجاج الايرانيون من اداء مناسك الحج هذا العام، هاجم خامنئي المرشد العام في ايران الحكومة السعودية متهما اياها «بقتل» الحجاج، الذين علقوا في ازدحامات العام الماضي، وقال: «لقد زجّهم الرجال السعوديون المجرمون القساة القلوب مع الموتى في حاويات مغلقة، وقتلوهم شهداء بدل معالجتهم ومساعدتهم أو حتى إيصال الماء إلى شفاههم الظامئة «، ما حدا برئيس هيئة العلماء في السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ للرد بقسوة على هذه التعليقات قائلا «أمر غير مستغرب على هؤلاء، يجب أن نفهم أن هؤلاء ليسوا مسلمين، فهم أبناء المجوس، وعداؤهم مع المسلمين أمر قديم وتحديدا مع أهل السنة والجماعة»، وهذا التصريح اثار تصريحات عنيفة اخرى من الجانب الايراني جاءت على شكل تغريدات من مسؤولين رسميين أو تصريحات الرئيس روحاني نفسه حول الامر، حيث دعا العالم الإسلامي إلى «معاقبة» السعودية، وعلى وقع كل هذه الاتهامات والاطراف التي تقف وراءها يبقى مغزل السياسية يلف ويدور ليغزل من خيوط الصراعات المذهبية والدينية مأساة يومنا وغدنا.
٭ كاتب عراقي
صادق الطائي
صدقتَ يا صادق الطائي في مقالك الرائع في وصف حالة واقع خيوط المذاهب ومغزل السياسة. بمعنى غياب الوعي العلمي والديني والسياسي الصادق في التعامل مع واقع تشرذم الاتجاهات المُحنطة في تأريخها لإحياء موتها وإكسابها شرعية بثياب ملوثة من كل اتجاه دسستُ عينيَّ في القرءآن الكريم بلا اختيار فقرأتُ سورة الحاقة وتوقفتُ على خطاب أواخرها فصدَّعتْ دماغي بوصف عجيب وهي بسم الله …: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ. فلو قُرِئَتْ هذه المقاطع من الواعين وغيرهم.! فلا أدري ما هو موقفهم المُتناثر والمُتناقض في الفهم والتأوييل والتعليل والتنكيل ربما بي! وربما فيما بعضهم وفي غيرهم. لو قرأناها على جُل السامعين من مؤمنين وغير مؤمنين عرب وعجم وكفار وزنادقه وبلا اديان وكفرة فسنستنبط عجائب وغرائب التفسير والتاويل والتعليل والرفض والتنكيل بالنص وبمن يتَّبعه. سابقا وحاضرا ومستقبلا.لعلي أكون خاطئاً يُسرني فتح عينيَّ وعقلي على فهم الواقع وما ذكرتَهُ بعنوانك: فالخطاب القرءآني مُوجَّه لنا نحن البشر.السؤآل: مَنْ الي يقرؤهُ ويُطبقه على نفسه وينئى بنفسه عن كذب الذات والسير في طحالب الواقع بالتأويل المُستنبط بذكاء.”وخُلِقَ الإنْسانُ جهولا” حروب في البلاد العربية والاسلامية على السُلطة بالاستعانات الخارجية أياً تُقَدِّمْ الدعم المشروط لمستقبلها المُبرمج مُستقبلا منهم.بالعِلْمْ الظَّني. نحن قتلة أنفسنا بأيدينا وبتصوراتنا المريضه وتزداد مرضا بفُرقة التأويل لأجل سيادة الحُكم بلا حق وعدل,لكننا لم نفهم هذه الجملة القرءآنية واقعيا بسم الله:”هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ. فلا يوجد شيئ واقعي في ذلك!؟؟ عباراتك استثارتني!
كل الشكر والعرفان للمقال الرائع للاستاذ المتمرس الطائي…
لقد كفيّت ووفّيت في مقالك يا أستاذ الطائي عن المذاهب الاسلامية (من أهل السنة والجماعة) المعتدلة والمتطرفة – من جهة – والسياسة المحلية والدولية – من جهة أخرى – في الزمن الحاضر…
أرجو أن تسمح لي بذكر عنوان كتاب أعتقده مهم جداً عن التطرّف الاسلامي في هذا الزمان وهو:
” الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة ” – تأليف أ.د. عبد الرحمن أبن معلّى المطيري – جامعة الملك محمد أبن سعود الاسلامية في الرياض في المملكة العربية السعودية. أصدار جمعية أحياء التراث الاسلامي في الكويت أصدار2001. طبعة ثانية 2008.
شكراً لكم مرة أخرى على هذه المساهمة المتميّزة !!!