بيروت – «القدس العربي»: جميل أن ينعقد لقاء فني مسرحي في عاصمة الجنوب صيدا، وفي خان الصابون بخاصة، والذي يعود لأكثر من 300 سنة. لم تكن مدينة صيدا مدرجة في خريطة النشاط الفني المزدهر في العاصمة بيروت. اقصاء غير مقصود اخترقته فرقة منوال المسرحية، التي تعمل حالياً على برنامج «صبا» التدريبي المسرحي الجماعي. عمل البرنامج وعلى مدار ستة أشهر لبناء قدرات مسرحية لفئات شبابية مقيمة في مدينة صيدا والجوار، إلى أن كانت مسرحية «دارة دوّارة» التي أدّاها 11 شابة وشاب.
في وسط الصالة السفلية من خان الصابون جلس المتفرجون دون أن تفصلهم حواجز عن الممثلين. جلسوا محاطين بالآثار من نحاس وخزف وفخار وعبق رائحة الصابون وتاريخ المكان. مسرح لم يكن بحاجة لستارة فالممثلات والممثلون من الشباب كانوا قد غطوا في نوم عميق وراحت الأحلام تراودهم ونحن نتفرج. منهم من كان يتململ، ومنهم من كان يبتسم ومنهم الضاحكة أو الضاحك. وضعية تحتمها نوعية الحلم، ومنهم من وصلنا شخيره قوياً. داهمتهم اليقظة في اللحظة المحددة فتشاركوا مع الجمهور بما يراودهم من أفكار، أحلام وأماني.
في هذا الفضاء العابق بالتاريخ والهندسة الأنيقة ورائحة الصابون البلدي كان على الجمهور أن يرصد بانتباه حركة وكلام تلك المجموعة من الشباب. شكل الحب بين عبدو ولبنى فاتحة للعرض، ومع زهرة دوار الشمس أبحرت الصبية في اختبار يخوضه المراهقون دون استثناء «بيحبني ما بيحبني». عرّفنا الشباب إلى انتماءاتهم، فهم من الجنسيات اللبنانية، الفلسطينية والسورية. حضورهم في تجربة برنامج صبا تهدف إلى اكتشاف الذات والأخر، ومن ثم القبول. بحثوا في الواقع والمحيط المشتعل بالحروب. راحوا باتجاه الفلسفة عبر تشريح كلمة «وعي». وتواصلوا في اطلاق تعريف عن تلك الكلمة المهمة وحولها. قرأوا في التاريخ القديم وعرجوا على الأسطورة. فصيدا مدينة مؤثرة في الماضي والحاضر ولأهلها صولات وجولات في مجابهة الغزوات التي استهدفتها.
وكما هي صيدا المكان الأجمل في العالم بالنسبة لأهلها، فمخيم عين الحلوة هو الأجمل بالنسبة لشاب ولد ويعيش فيه بانتظار العودة إلى وطنه فلسطين. ومخيم اليرموك في سوريا هو الأجمل في مخيلة لبنى الحالمة بأن تعود لتحمل صفة مواطنة شرعية بعد تشتت طال أمده وعدم اعتراف بها.
«دارة دوّارة» ليس مسرحاً من أجل المسرح وحسب، بل هو أبعد من ذلك بكثير. برنامج «صبا» استهدف الشباب وهم يحتاجون للتعبير، ولتجربة التفاعل ضمن مجموعة.
11 صبية وشاب خضعوا لتقنيات أدائية غير سهلة، تفاعلوا معاً، كسروا حاجز الخشية من الآخر. تنفسوا بحركة مدروسة، شهيق ثم زفير. ومع الزفير تركوا نفوسهم وأجسادهم ترتاح من ضغوط عدة يتسبب بها الواقع، والحلم الممنوع والأفق غير المفتوح. مع هؤلاء الشباب وعبر «منوال» دخلت مدينة صيدا في حراك ثقافي لم تعرفه منذ زمن بعيد، علّها بذلك تثابر في تطبيق ممارسات هي جزء طبيعي من حياة كل مدينة في العالم. وكما قال القائمون على مشروع «صبا» أن المسرح «حيز نموذجي لممارسة الديمقراطية» وهذا ما يحتاجه الشباب لتحقيق التفاعل.
«دارة دوارة» عرض حاكي هواجس ومخاوف يعيش معاناتها جميع الشباب تقريباً. وكان للمسرح أن يفككها ويعيدها على الخشبة برؤيا واضحة، وعبر سياقات مختلفة ومتجددة. للمسرح مهمة نبيلة إن أتيحت فرصة الإفادة منها، تتمثل في كونه يترك المخاوف تنهار. ليس هذا وحسب بل يعيد بناء جدار يحاكي الذاكرة والماضي ويفتح أفق النظر إلى المستقبل بنفس عميق.
«دارة دوارة» عُرض في خان الصابون في صيدا ليومي 31 تموز و1 أب، وسيعرض مجدداً في بيروت ضمن مهرجان نحنا والقمر جيران الذي تقيمه مجموعة «كهربا» على درج الفاندوم – مار مخايل. عرض قائم على منحة من الصندوق العربي للثقافة والفنون – آفاق.
وفي ختامه نال الشباب الـ11 شهادات شكر لمشاركتهم في برنامج «صبا»، ولحضورهم وشخصياتهم التي تراوحت بين التحدي، الحب، العفوية، المغامرة، التفكير، التمرد، الفرح، المرح والإلتزام.
تعريفاً ل «منوال» فهي فرقة مسرحية تأسست عام 2014 بهدف تعزيز الحاجة للعمل ضمن فريق ومن خلال تعزيز النشاط المسرحي، وتطوير آليات العمل، والبحث في قراءة الإنسان لواقعه، في ظل الأزمات المتعددة التي يتعرّض لها. الفرقة التي تستند في عملها إلى المراجع العربية والعالمية من أدب وفلسفة معاصرة، سبق وعرضت أعمالها، إضافة إلى لبنان في مصر، أوغندا، إيطاليا ورُوَاندا.