يقف الإنسان وسط هذه المعمعة من العبث والجنون والفوضى التي تحدث في الحالة العربية من الماء إلى الماء، والتي لا تندرج تحت أي مستوى من الفهم أو التحليل أو التنظير، بعجب واستغراب ودهشة، متسائلا لماذا يحدث كل هذا؟ وكيف أصبحت «داعش» وأخواتها بديلا عن الحرية والعدالة الاجتماعية التي نادت بها الثورات العربية؟
وكيف تخرج علينا هذه الجماعات الغريبة من بيننا، من مجتمعاتنا البسيطة التي يعبد أفرادها الله بفطرتهم السليمة، ويسعى معظمهم وراء لقمة العيش والستر وقلوبهم مليئة بالإيمان، وعامرة بالتوحيد؟ وكيف تنبثق هذه الحالة الدموية العنيفة من أنبل فكرة شهدتها المجتمعات العربية، وهي ثورات الربيع العربي التي رفع شعاراتها مجموعة من المقهورين والفقراء والمظلومين، الراغبين في الحرية والعدالة والإنسانية؟
هذه الجماعات التي لا تنتمي إلينا، ولا تشبهنا، بل كأنها عاشت وربت أفكارها بعيدا عنا، وربما بعيدا حتى عن الحياة والبشر والعصر، ثم خرجت علينا بهيئتها ووعيها الغريب، لتتحكم فينا وتقتل، وتعيث في الأرض فسادا باسم الرب، منادية بما لا يقبله عقل ولا منطق ولا وعي.
فمن هي داعش؟ ومن صنعها؟
هل هي جماعات دست بيننا من (الآخَر) المعروف بكل أهداف وأطماعه، والذي لا يريد لنا التقدم والتغير، لأن ذلك يهدد مصالحه الاقتصادية والعسكرية، وترعرعت بيننا على مدى طويل من الزمن والفكر الممنهج لصناعة العنف والموت والتخلف؛ لدرء كل ممكنات التحضر والعصرنة والذهاب في الوعي والحرية التي تسعى إليها المجتمعات العربية بعد زمن طويل من التخلف والابتعاد عن ركب الحضارة، وبالتالي فهدف هذه الجماعات قطع الطريق أمام إنساننا المقهور للحرية والعدالة، ومنعه من الخروج من شرنقة الذل والاستعمار والركود الإنساني والعلمي والحضاري، وتأخير ذهابه نحو المستقبل وإعاقة استعداده للتقدم، بشغله بحروب جانبية، وفوضى وعبث لا سبيل له للخروج منها بسهولة ويسر.
أم أن هذه الجماعات تهدف ـ بتلك الأفكار الغريبة على الإسلام وعلينا ـ إلى إضعاف الدين في قلوب الناشئة والمجتمع، وتفتيت القيم النبيلة والعظيمة التي يدعو لها الإسلام، والتي بات الغرب يعرف جيدا أنها متى ما طبقت بوعي ومسؤولية فهي قادرة على تحرير الإنسان من رواسب الجهل، وحثه على تعمير الكون؟
وبالتالي فهدفها تحطيم وتشويه تلك الصورة النبيلة للإسلام، وتقديمه على أنه شر محض؛ ليبتعد عنه الشباب والناشئة وربما الجميع، وبالفعل فالصورة المعتمة والبشعة التي يقدّم بها الإسلام اليوم في كل مستويات الإعلام لا تدفع أحدا لاعتناقه والتمسك به، بل ربما تدفع الإنسان المتديّن لمراجعة موقفه من حقيقة هذا الدين، وذلك الإيمان!
وهذا الهدف (تشويه صورة الإسلام) وارد جدا ومنطقي، سيما إذا أخذنا في الاعتبار ظاهر معالجاتهم للمسائل الدينية، بعيدا عن أي تأويل وقراءة وعمق، والوقوف عند تفاصيل واهية، ومسائل بعيدة كل البعد عن جوهر الدين الإسلامي وحقيقته الكبرى، وأفكاره العظيمة، ورسائله الإنسانية والفكرية، كختان النساء، وجهاد النكاح، وفرض الجزية وغيرها من المسائل التي لا تتجلى إلا في الأدبيات الغربية «المشوّهة» عن الدين الإسلامي، والتي تنطلق من رؤيتهم الناقصة، وتركيزهم على المجتزأ والهامشي منه. وهذا تماما ما تفعله داعش وأخواتها الآن!
كما أن قوتها العسكرية التي تهزم جيوشا مدربة ومكتملة التجهيزات تدعو للريبة، إذا أخذنا بالاعتبار كونها مجرد جماعات غير منظمة، أو منضوية تحت أي بلد أو تنظيم استراتيجي، أو حتى خارج أي دعم مادي من حكومات أو مؤسسات مالية كبرى، وبالتالي فالذهاب وراء عقدة المؤامرة وامدادات الآخر تصبح أكثر منطقية وأشد تصديقا هنا.
أم هل هي امتداد ونتيجة لحالة التحجر الفكري الديني العربي، بمنع التأويل، وتحريم الاجتهاد، ومحاربة الفكر والمفكرين وتكفيرهم، وإبعاد الناس عن محاولات فهم الدين العميقة، وتتبع غاياته الجليلة، وإدراك مراميه العالية، وأهدافه الرفيعة، وتوطين التبعية الفكرية الدينية المطلقة لرجال الدين بلا مناقشة ولا تفكير، بسير العامة خلف رجل الدين مهما كانت قدرته على التحليل، واستنباط الأحكام، وتفهم حالة العصر والبشر، وربطها بأحكام الدين عن طريق الاجتهاد في الفتوى. الأمر الذي أنتج حالة من الفهم الخاطئ أو القاصر أو الناقص للدين عند العامة من الناس، والوقوف عند ظاهر القول من الأحكام.
وبالتالي فداعش وأخواتها هي حالة أو جماعات فكرية ودينية أفرزتها الحالة الدينية العاجزة عن التفكير والتحليل، والرافضة للتأويل، والمانعة لمحاولات الفهم العميق للدين في عالمنا العربي المريض بالكبت والمنع والقهر.
أم أن داعش وأخواتها ببساطة هي صناعة الحكومات العربية التي هيأت لها أسبابها من الجهل والفقر؟ فالإنسان العربي البسيط اللاهث وراء الرغيف ليس لديه الوقت للتفكير ومحاكمة الأفكار، فهو مشغول حتى الوجع بلقمة العيش، فإذا انبرى من يوفرها له، فسيذهب خلفه بلا تفكير ولا مساءلة، كما أن وعيه الذي لم تتحقق له مسببات النضج الذي يساعده على التمحيص للقبول أو الرفض لن يدخل أي فكرة في محاورة أو مختبر شك، فلقد تربى على التبعية الفكرية والانقياد الطوعي المباشر لكل من هو أعلى منه، ضمن أي مستوى من السلطة (الحكم أو المال أو الفكر) وبالتالي فهو لا يملك فعل المقاومة للجاهز أو الطارئ من الأفكار.
كما أن المواطن العربي البسيط لا يقرأ كي يفنّد اليقينيات، أو يزحزح الثوابت، أو يفهم الرياح القادمة من كل حدب وصوب في هذا العصر المليء بالأفكار والمتغيرات. وهو أيضا ـ للأسف الشديد ـ لا يثق بالمفكّر الذي يمكن أن يساعده على فهم ما يجري بتوضيح وتفتيت بعض الكوامن الخفية على فكره ووعيه الذي يتعامل مع المباشر والخارجي من الظواهر، أو يحذّره من عواقب الانصياع لكل جديد مجهول، أو قادم طارئ قد يجره نحو الهلاك، وهذه هي مسؤولية المفكر نحو الأمة والإنسان، وهذه وظيفته لتفكيك وتحليل الظواهر، ومحاولة إيجاد مسببات الطارئ منها، واقتراح حلول للتعامل معها، والخروج بتنظيرات فكرية تساعد المجتمعات والأفراد على تجاوز المعضلات والأزمات الاجتماعية والفكرية.
إلا أن المفكر العربي قد حيّد عن هذا الدور من زمن طويل، كما وأحدثت قطيعة جبرية بينه وبين الشارع، وشوّه كل منهما في عين الآخر، فقُدّم المفكر للمجتمع على أنه كفر محض وشر مستطير، وتربى المواطن العربي على أن يثق إلا برجل الدين والسياسة فقط، فابتعد المفكر لداخله أو لأبراجه البعيدة.
وبالتالي فظاهرة كداعش وأخواتها قدمت بتأطير ديني ـ وإن كان خارجيا وشكليا فقط ـ فهي مدعاة قبول عند المواطن العادي، الذي يحكم على البواطن من الظواهر، وعلى الداخلي من الخارجي غالبا، بلا تمحيص ولا تدقيق، فهو سهل التصديق للغايات المعلنة، والأهداف الظاهرة من الأمر، بل قد يأخذها بإيمان مطلق، ويذهب فيها كل مذهب بدافع التقرب للرب، وتحقيق رسالته، وتصديق من يتكلمون باسمه.
وبذلك فكل فرد عربي هو مشروع إنسان «داعشي» تابع، يتربى على الذهاب الأعمى وراء كل فكرة باسم الدين، ووراء كل محرك أو قائد يقود الناس نحو فكرة معينة باسم الرب، ويسند لهم أدوارا معينة لقتل الناس، وتدمير الحياة، والعودة للخلف قرونا من الزمن، ممنيا لهم بمغريات الحياة الدنيوية من السلطة والمال والنساء «السبايا»، والحياة الأخروية من الحوريات والجنة.
وهكذا تتعدد الأسئلة حول داعش وأخواتها ـ التي باتت كابوسا عربيا مرعبا للإنسان الذي كان يحلم بالذهاب وراء المستقبل في قريب الأيام، ليجد نفسه عائدا في الزمن والحضارة، بعيدا في الماضي بشكل مرعب ومخيف ـ ولا إجابات واضحة أو محددة لها تماما، إلا أن الغالب أن داعش وأخواتها نتيجة كل هذا معا، من فقر وجهل، وكبت وقهر، واحتكار الدين والفكر داخليا، تغذيها وتمدها بالقوة والسلطة أيدٍ خفية خارجية.
وبالتالي علينا جميعا أن ندرك أن داعش وأخواتها جماعات إرهابية طارئة مدسوسة بيننا، يرفضها جوهر الدين الإسلامي، وجسد المجتمع العربي الذي يحتاج تجاوز الحاضر للغد بقوة وسرعة، ولا يحتاج من الأمس إلا جمالياته وتاريخه وحضارته، كما علينا أن نربي في إنساننا البسيط جماليات الوعي، ومحاكمة السائد والجديد معا، بكل الممكنات والوسائل الإعلامية المتاحة التي تصل إليه، حتى لا ينخدع بكل دعوة تحمل اسم الرب، وإن كانت في حقيقتها عدوانا وإثما، ونزرع في جيلنا القادم روح الدين الحقيقي القائم على القيم الرفيعة؛ كالتسامح والمحبة والعدل. ليدرك أن داعش وأخواتها لا تمثل حقيقة الإسلام، وأنها ليست دولة، وليست إسلامية.
كاتبة عُمانية
فاطمة الشيدي
باقية وبتمدد وماهمنا من تردد
بالأمس يا فاطمة الشيدي نشرت د. بلقيس الكركي تحت العنوان والرابط التالي
http://oldquds.motif.net/?p=210489
“هل كلنا داعش؟ بداية جدلية من عند المعري”
هي كانت أكثر جرأة منك ليس فقط في العنوان والصورة بل بجمع كل التيارات الإسلامية ليس فقط المقاومة بل حتى التي تقدمت للمشاركة في الحكم، والكركي لقب يرجع إلى مدينة في المملكة الأردنية الهاشمية ينتشر فيها الدين المسيحي في حين أنت من سلطنة عُمان وهي موطن للزيدية والتي منهم الحوثيون في اليمن الذين يعلنون أنَّ سبب انتفاضتهم هو الإسلام السياسي.
الفرق بين ما طرحته د. بلقيس هو أنّها حوت اسئلة عقائدية طرحتها على نفسها أولا بداية من العنوان، بينما أنت تطرحين اشاعات عن الآخر مثل جهاد النكاح أي لا يشملك كما هو حال كيفية صياغة عنوان مقالك.
من وجهة نظري يجب أن يكون هناك فرق ما بين الفضفضة والتي لا تمانع من ترديد اشاعات لتضييع الوقت، وبين من يطرح رأي والذي يجب في تلك الحالة أن يكون منطقي وموضوعي وله مصداقيّة فبالتالي يكون علمي.
الفكر الذي اساسه إشاعات ليس بفكر بل هذا مثل ما يطرحه د. توفيق عكاشة وهو إلى المسخرة والتهريج والخزعبلات أقرب من الأدب الساخر.
وكما هو حال غالبية التعليقات قبلي داعش وأخواتها لم تكن في يوم من الأيام مشكلة، المشكلة في تقصير النخب الحاكمة لتوفير الحد الأدنى من الخدمات للمواطن واسرته.
المشكلة في سامري النخب الحاكمة (الجيش والأجهزة الأمنية والقضائية) فهو لكي يحصل على حصّة الأسد من الميزانية يجب أن يعمل على شيطنة من يمكن أن يقاوم الظلم والفساد والاستبداد وإلاّ لن يحصل على الميزانية المطلوبة.
وأظن بسبب أنَّ السلطان قابوس كان ذكيا وواعيا انتبه إلى مطالب المواطن في عُمان عندما بدأ انتفاضته، وعمل على إصلاح البلد بالتخلص من الفاسدين والعمل على توفير الميزانيات المطلوبة لتوفير الخدمات للمواطن، أتمنى أن تحذو حذوه بقية النخب الحاكمة وإلاّ فالشعب يُريد اسقاط النظام الذي يُنتح مثقف ونخب حاكمة بلا ذمة ولا ضمير ولا إنسانية وقبل كل ذلك أخلاق.
ما رأيكم دام فضلكم؟