دبلوماسية العلاقات العامة: الهدوء الهش بديلا عن الاستقرار المستدام

ثمة سردية دولية مفترضة يتم التعاطي معها بيقينية زائفة، وكأن الامر اشبه بأعراض زهايمر جماعي! مفادها ان ما حصل في العراق بعد نيسان 2003 كان بفعل عوامل ذاتية بحت ولم يكن نتاج فاعلين دوليين متعددين، تقف الولايات المتحدة، والامم المتحدة في مقدمتهم! هكذا يعتمد الجميع، دون استثناء يذكر، دبلوماسية متعددة المسارات ومتعددة الفاعلين للتوصل إلى تسوية/ مصالحة/ حل، ولكن لا أحد يمتلك إرادة الاعتراف بان ثمة اختلالا بنيويا في النظام السياسي الذي تمت «صناعته» و«الاعتراف به» في العراق، وأن هذه الاختلالات البنيوية كانت السبب الرئيسي في فشل هذا النظام الذي أنتجه دستور عام 2005 في تسوية الإشكالات الأساسية والجوهرية التي فجرتها لحظة احتلال العراق.
وان هذه الإشكالات قد استمرت في إعادة إنتاج نفسها من خلال تمظهرات مختلفة عبر ما يمكن تسميته بسياسة «تدوير الأزمات»، فضلا عن ان هذا الدستور كان، لعوامل ذاتية، غير قادر على تقديم أجوبة على الأسئلة أو الوقائع المستحدثة. كما ان البدائل التكتيكية التي اوجدت من أجل انتاج أنظمة هجينة بداية من العام 2006، لم تستطع أن تتجاوز الأزمة البنيوية التي يعاني منها هذا النظام. فهي لم تتعد كونها محاولات، وصفت بالتوافقية، من أجل الحفاظ على الوضع السياسي الهش، وقد اعتمدت هذه المحاولات على توازن قوى قائم، مختل في اساسه، وليس على مبادئ مرجعية حاكمة يقبلها الجميع، وعلى الرغم من ذلك لم تتحول هذه المحاولات إلى أعراف سياسية ملزمة للأطراف السياسية الممثلة لمكونات مذهبية واثنية، أو في الأقل إلى اتفاقات تحترمها الاطراف جميعا. وكان الطرف الأمريكي بشكل أساسي، والدولي بشكل أقل، العامل المساعد في الوصول إلى هذه « الصفقات»، انطلاقا من رؤية أمريكية تأسست بعد الحرب الاهلية في العراق عامي 2006-2007، ترى أن التدخل الأمريكي يجب ان يبقى في حده الأدنى، دون محاولة لفرض رؤى محددة، معتمدين على ان العملية، ومن خلال الوهم بأن الممارسة/ الصيرورة نفسها ستنتج أنموذجها الخاص، وهو ما لم يحدث، ولن يحدث.
بعد الانسحاب الأمريكي من العراق 2011، كان ثمة تواطؤ دولي وإقليمي على ضرورة الحفاظ على الهدوء الهش، وليس الاستقرار، عبر دعم الدولة/ الحكومة العراقية! لذلك حرص الأمريكيون على الإبقاء على هذا الهدوء الهش، والذي تحقق عبر استراتيجية زيادة عدد القوات الأمريكية التي أعلنها الرئيس الأمريكي الاسبق جورج بوش الأبن في كانون الثاني/ يناير 2007، وتضمنت نقل مسؤولية الأمن إلى القوات العراقية خلال عشرة أشهر من ذلك التاريخ، من جهة، وتحقق عبر مشروع الصحوات الذي اعتمده الجنرال ديفيد بترايوس الذي تولى قيادة القوات الأمريكية في العراق في الشهر نفسه، من جهة ثانية. وقد تجلى هذا الحرص بشكل واضح من خلال دعم استمرار نوري المالكي رئيسا لمجلس الوزراء لولاية ثانية في العام 2010، في توافق صريح مع الإيرانيين الداعمين لهذا الأمر!
وقد استمر هذا الدعم للسيد المالكي صريحا في السنوات اللاحقة، على الرغم من سياساته المنهجية لفرض نفسه «سلطة مطلقة» أحادية على الدولة ككل. ولم يكن هناك أي اعتراض على تحييد سلطة مجلس النواب العراقي عبر قرارات مسيسة اتخذتها المحكمة الاتحادية العراقية التي تحولت إلى أداة من ادوات المالكي لفرض سلطته! ولم يكن هناك أي اعتراض على احتكار المالكي للقرار العسكري والامني! ولم يكن ثمة اعتراض على السياسات التمييزية/ الطائفية التي اعتمدها الرجل! بل لم يلتفت أحد إلى ناقوس الخطر الذي أخذ يقرع بقوة حين تصاعدت الأزمة إلى ذروتها مع حركة الاحتجاج واسعة النطاق في الجغرافيا السنية ثم طريقة التعاطي معها، مع كل المؤشرات التي بدأت تكشف عن التداخل بين الأزمتين السورية والعراقية (ليس مصادفة أن حركة الاحتجاج انطلقت في نهاية 2012 وكان الاعلان عن الدولة الإسلامية في العراق والشام عام 2013). فقد كان الفاعلون الدوليون كانوا حريصا على تجاهلها! ولم يتحرك أحد لتفادي الكارثة.
شهدت مرحلة ما بعد سيطرة تنظيم الدولة على الموصل مشاركة العديد من الجهات الفاعلة والإقليمية والدولية، بما فيها الأمم المتحدة من خلال ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق، وكان الدور الأمريكي مركزيا في هذا المشهد. في إطار دبلوماسية متعددة المسارات، ومتعددة الفاعلين ايضا، من أجل محاولة ايجاد مقاربة سياسية يتفق عليها الفرقاء السياسيون العراقيون. ولكن تحليل هذه الدبلوماسية، الصاخبة غالبا، والهادئة في أحيان قليلة، في تعاطيها مع الأزمة العراقية، تكشف عن المنهجيات المعتمدة في هذه الدبلوماسية التي ظلت في إطار العلاقات العامة، بدلا من ان تكون دبلوماسية فعالة مع الإرادة والجدية تنتج حلولا حقيقية تتعامل مع جذور هذه الأزمة وليس مظاهرها أو نتائجها! تحديدا تلك المتعلقة بالنظام السياسي الذي أنتج ما نطلق عليه «المشكلة السنية» في العراق. فعلى الرغم من الاعتراف الجماعي الذي أظهره المجتمع الدولي في لحظة حزيران 2014، من أن السياسات التي اعتمدها الفاعل السياسي الشيعي المهيمن على الدولة، كان عاملا أساسيا في الوصول إلى خروج أكثر من ثلث مساحة العراق من سيطرة الدولة العراقية، إلا أن هذا الاعتراف سرعان ما نسيه الجميع أيضا. ليس عبر سيطرة المقاربة الأمنية على المشهد بالكامل وحسب، بل من خلال التراجع الجماعي أيضا عن التعاطي بجدية مع المقدمات الحقيقية التي أنتجت هذه « المشكلة السنية» منذ البداية، بوصفها جزءا جوهريا من أزمة النظام السياسي ككل. فالجميع ينطلق من محددات مفترضة لا أساس لها، من دون الانتباه إلى أن هذه المحددات تعني في النهاية قبولا ضمنيا برؤية أحادية فشلت أساسا في الوصول إلى تسوية يتفق عليها الفرقاء العراقيون جميعا! فلا أحد مستعدا للتعاطي مع فكرة أزمة النظام السياسي في العراق، الذي أنتج أصلا بفعل العامل الدولي! بل انهمك الجميع في حوار عبثي عن ضرورة التعاطي مع الوقائع القائمة بوصفها أمرا واقعا، مع محاولة تحسين شروطها إن أمكن ذلك عبر الممارسة السياسية!
إن دبلوماسية العلاقات العامة التي أصبحت منهج الفاعلين الأمريكيين، والأوربيين، والاقليميين، فضلا عن الفاعل الأممي، تهدف إلى الوصول إلى هدوء هش، قابل للاستمرار مؤقتا، من خلال معالجات «متفق عليها» عبر صفقات سياسية، دون الالتزام بأي قواعد او مبادئ أو حتى اتفاقيات ومواثيق دولية حاكمة، أو حتى التزام بالدستور العراقي وأحكامه! والاعتماد على إمكانية أن تؤدي هذه التفاهمات المؤقتة، ومن خلال الممارسة، إلى التوصل إلى تفاهمات نهائية على المدى البعيد. ثم ان هؤلاء الفاعلين لم يمتلكوا حتى الارادة لمناقشة مسألة اختلال علاقات القوة على الأرض بين الأطراف المختلفة، وهي في الواقع ما سيحدد مسار ونتائج هذه الصفقات من جهة، وما سيفضي في نهاية المطاف إلى فرض الطرف الأقوى لشروطه على هذه «الممارسة» من جهة ثانية. في النهاية يبدو جليا تماما ان درس تنظيم الدولة لم يتم استيعابه حتى اللحظة، وهو ما يجعله قابلا للتكرار!

٭ كاتب عراقي

دبلوماسية العلاقات العامة: الهدوء الهش بديلا عن الاستقرار المستدام

يحيى الكبيسي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية