درس بليغ من روائي ناشئ

بمنتهى الوضوح والتواضع يقول إمبرتو إيكو في كتابه «اعترافات روائي ناشئ» الذي نقله إلى العربية سعيد بنگراد، بأنه لا ينتمي إلى زمرة الكُتّاب الرديئين الذين يزعمون أنهم لا يكتبون إلا لأنفسهم، فهذا ادعاء محض لا محل له في العملية الإبداعية، ثم يكمل بعبارات تحليلية لاذعة لتجريد الكاتب من أوهام ذاتيته الفارطة، ومحاولاته الاستعراضية لتأليه نصه «فما يكتبه كاتب لنفسه هو فقط لائحة المشتريات التي يلقي بها أرضاً بعد شراء أغراضه، أما ما يبقى، بما في ذلك لائحة الملابس المعدّة للغسيل، فهي رسائل موجهة إلى شخص آخر، لا يتعلق الأمر بمونولوغات بل بحوار».
الشخص الآخر الذي يعنيه بتلك العبارات هو القارئ، حيث يبدو في مجادلته أقرب إلى الإقرار بحقوق القارئ وإجلال دوره في التعامل مع النص، ومحاولة إفهام الكاتب بجدوى ومعنى وجوده كمستقبل ومنتج للنص في آن، أو هكذا تبدو مرافعته المنتصرة للقرّاء، وعليه، يستطرد لرسم معالم العلاقة ما بين القارئ والكاتب «من حق الكُتّاب المبدعين – باعتبارهم قرّاء عقلانيين لأعمالهم – الوقوف في وجه التأويل التافه، ولكن عليهم في المجمل، احترام قرّائهم؛ ذلك أنهم ألقوا نصوصهم للتداول، تماماً كما نلقي بقنينة في البحر»، بمعنى أن أي نص أدبي إنما يُكتب من أجل قارئ صريح أو ضمني.
ومن واقع خبرة مباشرة مع القرّاء والكُتّاب يطرح إيكو هذه العلاقة على طاولة البحث، حيث يلاحظ رفض بعض الكُتّاب تأويلات القرّاء، كما يحتج بعضهم على أي التفاتة ناقدة بحجة أن القارئ لم يفهم النص أو المقصد، وهناك من يرى أن النص هو مملكته التي لا يسمح لأحد بالدخول فيها إلا معجباً ومصفقاً، إلى جانب من يعتقد بأن النص قد خرج من عنده ولم يعد ملزماً بالتعليق عليه أو الإجابة على استفهامات وملاحظات القرّاء وهكذا، وكل ذلك يعني وجود حالة من الاستعلاء لدى بعض الكُتّاب مقرونة بشيء من عدم الاحترام لوعيهم وذائقتهم، وهو المكمن الذي يحاول إيكو تفكيكه وتبديد أوهامه، لأن النص صناعة بشرية وهو قابل للمجادلة ضمن هذا التصور.
وهذا بعض ما يحاول التأكيد عليه في إطار ميثاق القراءة، أي خلع وهم القداسة عن النص ومنتجه، حيث يقول «لقد تعلمت أشياء كثيرة وأنا أكتب روايتي الأولى، منها أن الإلهام كلمة سيئة، وعادة ما يستعملها بعض الكُتّاب اعتباطاً، لكي يلبسوا لبوس الفنانين المحترمين، وكما يقول المثل القديم: إن العبقرية لا تغطي سوى 10 في المئة من الإلهام، أما 90 في المئة المتبقية فمصدرها الجهد الفردي»، وهو ما يعني أن الإشراق والإلهام اللذين يزعم بعض الأدباء وقوعهم تحت تأثيراتهما أثناء كتابة نصوصهم ليسا سوى استيهامات مدّبرة يُراد من خلالها تصعيد قدسية النص وفرادة الكاتب.
ذلك هو الدرس الإبداعي البليغ الذي يحاول إيكو تعليمنا إياه، أو بمعنى أدق تداوله معنا من خلال طاولة حوار صلبة ومفتوحة على اتساعها، لكي نتعامل مع النصوص من منطلقات تحليلية موضوعية، تقوم على احترام وعي المتلقي، الذي صار اليوم بموجب نظريات الاستقبال مكوّناً جوهرياً من مكونات عملية إنتاج النص، أما ما يقال عن (وادي عبقر) الذي هام فيه الشعراء، فهو ليس سوى تلك البئر العميقة لمساحة (اللاوعي) التي عمل جاك لاكان على سبر أغوارها، وعرضها من وجهة نظر التحليل النفسي كمنظومة فكرية شعورية مرتبة، على عكس ما كان يُشاع عن الفوضى التي تسمها.
إذا كانت الكتابة عملية واعية لإنتاج المعنى، فإن القراءة بالمقابل عملية واعية، وإذ لا توجد كتابة بريئة – بتصور رولان بارت – لا توجد كذلك قراءة بريئة، بمعنى أن القارئ بمعناه النموذجي المطروح اليوم في أفق نظريات القراءة، أقدر على التعامل مع النصوص بوعي مضاعف، لأن النصوص إنما تُنتج ضمن شروط محددة، أي عبر ذات كاتبة لا تزعم العبقرية وتلقي الإلهام الغامض من الغيبي والمتعالي والماورائي. وبالمقابل ظهر مفهوم الكاتب العامل الذي يقوم، حسب بيير ماتشيري، «بتحويل مادة خام معلومة إلى مادة قابلة للقراءة من خلال استخدامه لأساليب محددة في الإنتاج»،
كل تلك التحولات البنيوية العميقة فرضت حتمية تغيير آلية التعامل مع منطلقات ومنازع النص، أي سيرورة إنتاجه، أي طرح النص كعملية إنتاج معرفي قُبالة المعرفة النقدية، التي لا يمثلها الناقد فقط، بل القارئ النوعي، ليس بالمعنى العلمي الذي يمدد النص في مختبرات تحليلية تحت وطأة المشارط، بل تحويل القراءة إلى علم يوازي الفعل الناقد المنذور لإنتاج المعنى، أي تجاوز ما يعنيه النص ظاهرياً والاهتداء إلى نقاط الإبداع فيه، وهو الأمر الذي هيأه إيكو لقرائه في مجمل أعماله الروائية، خصوصاً في روايته «اسم الوردة» التي كتبها على قاعدة التسنين المزدوج، حيث أشار إلى وعيه بهذه التقنية في «حاشية على اسم الوردة»، من خلال تعمده لاستعمال تقنيتين من تقنيات ما بعد الحداثة (الأولى هي السخرية التناصية: إحالات مباشرة على نصوص معروفة جداً، أما الثانية فهي المحكي الواصف: النص يسائل طبيعته حيث يتوجه المؤلف مباشرة إلى القارئ).
ما أن ينتهي الكاتب من كتابة نصه حتى يتحول النص إلى مادة أو مساحة خامدة، لا حياة فيها إلا لكاتبها، وهنا يأتي دور القارئ الذي يوقظ النص من هجعته، القارئ النموذجي المؤول، المخمّن، المحتدم مع النص، القارئ الذي يعي من منظور إيكو أن «النص آلة كسولة» وأن عليه تحريكها بالقراءة والتأويل، وهذا هو السبب الذي جعله يستشهد في هذا الكتاب بعشرات الأمثلة من مساجلاته مع القراء، وانتباهاته على ملاحظات لم تخطر بباله أثناء وبعد الانتهاء من كتابة رواياته، وكأن هذا الفاصل من المحاورات دعوة مفتوحة لاحترام القارئ، وتعظيم شأنه في محايثة النص الإبداعي، بما تحمله عبارة «اعترافات روائي ناشئ» من دلالات التواضع والانفتاح على سيل هائل من القراءات التأويلية، والرغبة الأكيدة في التعامل بحُبّ مع ملاحظات القراء.
كاتب سعودي

درس بليغ من روائي ناشئ

محمد العباس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية