دروس كورية شمالية: دليل الدول الصغيرة لعقد الصفقات الكبيرة

لن نتخلى عن الأسلحة النووية، ونموذج القذافي ليس النموذج الذي يمكن أن تفرضوه علينا، هكذا تحدثت كوريا الشمالية بنبرة عالية، أمام مطالبات أمريكية بطرح إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية، وأمام اللهجة الكورية اتخذت الإدارة الأمريكية موقفاً يسعى للتهدئة، والمحافظة على الخطوة المتقدمة التي ينتظر منها الرئيس ترامب كثيراً من المكافآت في مجال السياسة الخارجية، خاصة بعد التخبط الذي يعتري السياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
بالفعل، من يمكنه أن يمنح الأمريكيين الثقة بعد نموذج القذافي الذي دفعته أحوال العراق إلى ممارسة «الستربتيز» لإرضاء الأمريكيين والأوروبيين، وأطلق خطوة مجانية للتخلي عن أسلحته غير التقليدية، وبعد ذلك وجد نفسه في مصير أسوأ مما لقيه صدام حسين. ومع اختلاف الظروف كانت واشنطن ترسم مصيراً مشابهاً لحسني مبارك، الذي تمسك بالمحافظة على تفوق كمي ونوعي لإسرائيل على خطوط المواجهة، وأودع في دهاليز البيروقراطية مشروع مفاعل نووي مصري، وقام بتفكيك جهود جيل كامل من الفنيين والمختصين الذين تلقوا الضربة الثانية، بعد الضربة الكبيرة التي وجهها السادات باتفاقية السلام، ليحتضنهم العراق ويختزل خطوات واسعة استطاعت أن توصله للمفاعل النووي الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية.
لا يولي المجتمع الدولي الثقة بالأمريكيين، والتحولات الأخيرة التي حدثت على مستوى الساحة الأمريكية، والنوبات التي تترافق مع تبادل الإدارات، تجعل الرهان على السياسة الأمريكية من الأمور التي يجب وضعها في أي استراتيجية سياسية لأي بلد تتقاطع مصالحه أو مشكلاته مع الأمريكيين، والانقلاب الذي أحدثه ترامب مع إيران بإلغاء الاتفاق النووي، في حالة لم يتمكن من تحقيق أهدافه، إذا كانت له أهداف بعيدة المدى، عرضة لأن يتحول لانفتاح كامل مع الايرانيين، إذا جاءت إدارة ديمقراطية إلى البيت الأبيض، وهو أمر غير مستبعد.
توجد دول تمتلك رؤية في السياسة الخارجية تجعلها تدرك هذه الحقائق وتتحوط لنتائجها، والايرانيون الذين تعاملوا مع إدارات أمريكية متتابعة، ووصلت علاقتهم مع الأمريكيين إلى ذروة التأزم في مأزق رهائن السفارة الأمريكية في طهران، يجيدون هذه اللعبة ويعرفون كيفية حدودها جيداً، وإن كانت اعترتها بعض مساحات الغموض في إدارة ترامب غير المنضبطة وغير الخاضعة لمقاييس الرؤية التقليدية للمؤسسات الأمريكية.
وكوريا الشمالية أيضاً جرّبت إدارات أمريكية متتابعة وتعرف موسمية التقلبات الأمريكية، ولذلك فهي تقدم تحذيراً مبطناً لواشنطن بألا تفكر بالعقلية نفسها التي مارستها مع دول الشرق الأوسط والدول العربية خاصة.
لا يمكن اكتساب الخبرة في مواجهة الأمريكيين في حالة التواجد في مدارهم، وفي نطاق نفوذهم، والتحول إلى أداة طيعة وتابعة، الطريقة الوحيدة لتحقيق صدمة النضج في مجال العلاقات مع الولايات المتحدة، وامتلاك العزيمة السياسية للتزلج على الأمواج العالية للأمريكيين.
توجد قواعد اشتباك كثيرة غائبة في التعامل مع الأمريكيين، وهي أن حرب التصريحات تبقى أكثر جدوى من منحهم فرصة ممارسة الوعظ الأخلاقي، الذي يجد الجنود الأمريكيون فرصة لكتابة اقتباسات منه على صواريخهم الموجهة من حاملات الطائرات، متناسين أن أحداً لن يهتم بقراءة ما يتبقى على صواريخهم في حال بقي ظاهراً على بقايا الصاروخ، ولو حدث وقرأه بعض الأطفال أو الشباب فإنهم سيقتنعون بعكس ما يتركه الصواريخ من مواعظ على أشلاء ذويهم وأقاربهم.
تناسى صدام حسين هذه القاعدة عندما أقدم على غزو الكويت، فغاية الرقص مع الأمريكيين هي الإبقاء على الخيط الرفيع مشدوداً ومتوتراً من دون قطعه، وكان الأمر نفسه مع عبد الناصر، الذي اتخذ قراراً غير مدروس ويقوم على معلومات مغلوطة عند اغلاق مضائق تيران، ولو استمر النظامان في المناورة بالتصريحات والتهديدات المبطنة، لتمكنا من الحصول على حظوة إقليمية مجانية تقريباً، كما يحدث حالياً مع تركيا مثلاً، أو إيران نفسها لوجود مرونة في تصدير واختبار وتجريب وتفكيك النوايا على مسرح العلاقات الدولية.
بيونغ يانغ التي بقيت تتقاسم كعكة الرعب التي تخبز في فقرها وسوء أحوال مواطنيها مع جارتها الجنوبية، أدركت أنها لن تسمح بالوقوع في الفخ نفسه، فالخوف من التهديد يبقى أكثر نجاعة من تنفيذه، فمن ناحية ستنكشف حدوده ويمكن أن يكون مخيباً، ودون المتوقع، كما أنه سيتطلب الرد الذي سيختبر القدرة الحقيقية والتماسك الفعلي لا الظاهري ولا المعد للتصدير على مستوى لعبة الشد العصبي والسياسي العالمية، وفوق ذلك، كانت كوريا الشمالية بين كل مرحلة وأخرى من التوتر، تقدم لمسة من التهدئة مع سيؤول تكفي لإعادة ترتيب الأوراق، ومباشرة فصل جديد من لعبة التهديد منفصل عن الفصول السابقة، ويستدعي ضرورة قراءة جديدة واستنزاف الطاقات على الطرف الآخر، من دون أن يتكلف الأمر أكثر من وقود الآلات الحربية التي تجري مناقلتها بين حين وآخر.
الرئيس الحفيد كيم جونغ أون قرر أن يذهب للأمريكيين بكامل هندامه وبندية، ويرفض اغراءهم بالتعري، لأن ذلك لن يصنع له مشهداً حميمياً، ولن يحول كوريا الشمالية إلى نسخة عن الجنوب الكوري المزدهر خلال فترة قياسية، فكل ما سيحصل عليه إذا تعرى من ردائه النووي، هو الانكشاف بمواطن ضعفه أمام الأمريكيين، لانتقاء المنطقة الأكثر هشاشة للتخلص منه بثورة برتقالية أو حمراء.
التصريحات السياسية مدرسة متغيبة عن المنطقة العربية، فخبرات الإعلام العربي موجهة لمخاطبة الداخل والحديث مع الذات الذي يصل إلى حدود الهلوسة والهستيريا، أما مخاطبة الغرب وخاصة الأمريكيين فمسألة مختلفة تماماً، ولا يوجد سوى بعض المدارس العربية القليلة التي يمكنها مواجهة الأمريكيين في حروبهم الكلامية التي يفضلونها، لأنها تستطيع صناعة الرأي العام داخل الولايات المتحدة عند الحد الأدنى من التكلفة، ويشكل الأمر نفسه جزءاً مهماً من لعبة السياسة العالمية، ولنتذكر أن الألمان حصلوا على مكتسبات هائلة قبل أن يطلقوا رصاصة واحدة في الحرب العالمية الثانية، وكانت الخارجية البريطانية تمعن في تقديم التنازلات لتجنب الحرب التي كان هتلر يلوح بها، حتى أن لوماً كبيراً وجهه الباحثون البريطانيون لرئيس وزرائهم في تلك المرحلة نيفيل تشامبرلين، لفشله في إدارة الصراع ضمن نطاق لعبة عض الأصابع مع الألمان، التي انطلقت في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي.
تتغيب مدرسة سياسية عربية لتدير الصراع مع الأمريكيين بصورة لائقة، وحين تحاول دولة عربية ما أن تجرب التصادم مع الأمريكيين، والتصعيد بمجرد الكلام، تجد أن دولاً أخرى لا تسترضي الأمريكيين فقط، ولكن تحاول أيضاً أن تشكل ضغطاً على الدولة التي تجرب لعبة التصعيد، مع أن الدلائل على جدواها قائمة ومتكررة وآخرها تصريح سارة ساندرز، المتحدثة باسم البيت الأبيض، أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تأمل في عقد قمة مع الزعيم الكوري الشمالي، في رد يعطي دفعة معنوية للكوريين وقلقاً للأمريكيين حتى قبل التوجه لطاولة القمة المرتقبة.
كاتب أردني

 

دروس كورية شمالية: دليل الدول الصغيرة لعقد الصفقات الكبيرة

سامح المحاريق

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    قالها سياسي عربي بارز قبل نحو عشر سنوات في معرض الحديث عن ضرورة الموقف العربي الموحد، ان سبب عدم التنسيق العربي هو غياب الدولة الرائدة وهي مصر بديهيا. و قال ان مصر لا تستطيع ان تكون في مركز القيادة ما دامت تعتمد على المعونة الامريكية السنوية. و قال لماذا انسق مع مصر اذا كنت استطيع ان انسق مع امريكا مباشرة التي تنسق معها مصر.. و اقترح هذا السياسي ان تقوم الدول العربية بتقديم ما يعادل المساعدة الامريكية لمصر لتحريرها ومن ثم التنسيق معا بقيادتها!!!.
    المشكلة الكبرى للدول العربية هو ان امريكا (ومعها اليوم اسرائيل بشكل مكشوف) تتعامل مع الدول العربية كل على حدة. و لا تستطيع هذه الدول اتخاذ مواقف موحدة منذ فقدت مصر دورها الريادي. فهل كانت كل النكبات التي وقعت في العالم العربي و في مصر بعد كامب ديفيد لتقع لو كان هناك تنسيق عربي لمواقف محددة بريادة مصرية؟؟

  2. يقول سامح //الأردن:

    *(كوريا الشمالية ) تدعمها الصين
    وروسيا ولهذا تتشدد مع الأمريكان.
    *(العرب) للأسف فقدوا البوصلة
    وكل (يغني على ليلاه)..
    سلام

إشترك في قائمتنا البريدية