لا بد من الاعتراف بأنني في هذه الأيام إذ أتابع الأحداث بت أتوقف كثيراً وأُدهش طويلاً وأعمل عقلي في محاولاتٍ يائسة للفهم والبحث عن معنى أو أي تفسير، وفي النهاية لا أجد ما أقوله.. «عقدت الدهشة لسانه»، لكل من لم يجرب هذا الشعور أود أن أؤكد كم هو دقيقٌ للغاية ذلك التعبير.. فكأن اللسان مكبلٌ ثقيل.
ما من أسبوعٍ يمر إلا ويقضى قتلاً مواطنون مصريون بسطاء للغاية، يسقطون ضحايا الإرهاب الخارجي أو إرهاب أجهزة الدولة.. شيماء.. سعيد والجنود وأخيراً (وللأسف لا يبدو أنه سيكون آخراً..) مشجعو نادي الزمالك.. ملح الأرض.. القطط السمان لا يلحقها الأذى، فهي بعيدة تراقب، إما راضية أو غير مكترثة أو مبررة. حين علمت بالكارثة البشعة وشاهدت شريط الفيديو الذي تناقلته الفضائيات شعرت بالفزع والغضب والحزن، أي بشاعةٍ تلك أن يموت شبانٌ ذهبوا لمشاهدة مباراة كرة قدمٍ دهساً واختناقاً في قفصٍ كالحيوانات الضارية المسعورة؟ تذكرت من ماتوا اختناقاً، بالغاز أيضاً، محشورين محبوسين كالسردين في سيارة الترحيلات وتساءلت، هل أضحت تلك وسيلة الموت المفضلة لدى النظام؟ ماذا حدث للأزمنة الخوالي و»الأيام الحلوة» حين كانوا يحبسون المعارضين والمحتجين أو يطلقون عليهم الرصاص كأيام الثورة ؟! ثم وهو الأهم، أي جنونٍ هذا وما الغرض؟ بأي نفعٍ يعود ذلك على النظام وأجهزة بطشه، وبفرض أنها رسالة، فما هي بالضبط ومن المقصود بها، أهي جماهير الكرة؟ هل يحطم ذلك النظام نفسه إذ يحاول ترميمها؟
الحقيقة أن ما حدث، على حماقته في التحليل النهائي، ليس اعتباطاً ( وإن بدا ذلك) وليس حدثاً عابراً خالياً من المغزى والمضمون نتج من ملابسات سيئة وتوتر الأعصاب وتدافع المجاميع والأحداث، وإن أراد البعض تصويره على ذلك لأغراض ٍخبيثة تهدف مستميتةً لتبرئة ساحة الدولة، كما أنه لا يشبه كوارث أخرى في كرة القدم، لأنه حدث في بلدٍ مضطرب يشهد حراكاً ثورياً مغدوراً ويعيش في نتائج سرقته. على غبائه، فالعنف الذي نراه يعبر عن طبيعة الدولة في أكثر من منحى؛ فهو أولاً يثبت أن أركان ذلك النظام، خاصة أذرعه الأمنية، لم يفهموا مطلقاً ما حدث في 25 يناير، لا الدوافع ولا المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت الناس للشارع، ولا تتسرب إليّ ذرة شك في أنهم وصلوا إلى قناعة بأن التهاون فيما سبق هو ما أدى إلى «التسيب»، ومن ثم خروج «الغوغاء والدهماء على أسيادهم»، ففي منظورهم الدولة تعني الهيبة، والهيبة لا تعني شيئاً سوى الخوف.. أجل الخوف بأحط صوره وأكثرها بدائية، الخوف من الأذى البدني والألم، باختصار، هم يؤمنون بأنه إذا كان العنف لم ينفع في ما مضى فالحل في المزيد منه، وهم الآن يسعون إلى ترميم هيبة الدولة والأهم من ذلك الانتقام مما لحق بضباطهم من الإهانة إبان أيام الثورة الأولى.
بيد أن انعدام فهمهم الأساسي والعميق مع توافر أبواق إعلامية بلا ضمير مستعدة لردم الناس بنفايات الدفاع المستميت عن النظام، مزيفةً الحقائق ومدلسةً، كل ذلك أفقدهم أي مقدرة على لجم شهوة الانتقام التي استبدت بهم، فإذا أضفنا إلى ذلك انعدام الكفاءة الأصيل والضارب في عمق الدولة، نجد أنفسنا أمام دائرة من العنف ما تني تتسع وتعيد إنتاج نفسهم بين الفعل ورده.
لا شك أنهم يخسرون، فما الذي ممكن أن يفهمه الناس من تلك الرسائل؟ لا تشاهدوا كرة القدم؟ هم الناس البسطاء وتسليتهم، ربما الوحيدة التي سرقها وسيطر عليها رأس المال الكبير؟ ألم تكن تلك إحدى الوسائل المعتمدة لدى النظام طيلة العقود السابقة للسيطرة على الجماهير وصرفها عن الاهتمام بالسياسة؟ لعله الآن يريدهم أن يتحدثوا في السياسية ويركزوا معه.
لقد بدا واضحاً الآن، لكل من يريد أن يرى بالطبع، بأن هناك إرادة سياسية تهدف إلى رفع سقف العنف، بصفةٍ عامة، مع الإصرار على الصمت والتجاهل أو الإنكار الرسمي؛ نوعٌ من المحاولة المريضة والكئيبة لابتذال القتل وجعله حدثاً يومياً، عادياً، لا يقف عنده أحد ولا يلتفت له، وبالتالي ليس مجرد إعادة بناء حاجز الخوف، بل الرعب لدى مواطنين باتوا يرون أنهم قد يخسرون حياتهم لدى أدنى تعدٍ، بل ربما نزوة من شرطي أو فرد أمن، واستعادة حالة البلادة التي كانت ترين على المجتمع. كما أنه من الملاحظ أيضاً أن ذلك العنف ليس موجهاً لأفرادٍ بعينهم فقط، وإنما إلى قوى ومجاميع بشرية تصور أفراد هذه المنظومة أنهم أهانوها في لحظةٍ ما، وبذا تغدو المسخرة الحقيقية بعد كل ذلك (على الأقل في نظري) أن نتوقع أن انتخابات مجلس الشعب، أو أي انتخابات، ستكون نزيهة وستأتي بأشخاصٍ سيغيرون أي شيء في هذا البلد إلى الأفضل، وسيستعيد الناس احترامهم وحقوقهم، وأن الأوضاع ستتحسن وأن المستقبل سيكون مشرقاً وربيعاً الخ..
إلا أن الأمانة والإنصاف يقتضيان الاعتراف بأن بلادة النظام وأجهزته الأمنية لا يضاهيها، بل يتفوق عليها، إلا بلادة كل من بدأ يتقبل فكرة القتل المجاني، بل بدأ يقوم بدور التيس المستعار فيجهد نفسه في إيجاد المبررات للدفاع عن النظام، خاصةً حين يصل بعضها إلى درجة البذاءة، كإلقاء اللائمة على «إخوان مندسين» أو إلقاء تحفظات من عينة أن الضحايا لم يحملوا تذاكر دخول، وكـأن عقوبة ذلك، القتل! ليس هنالك ما هو أكثر بلادةً ويأساً من الهروب من الحقيقة لقبحها (الذي يدركه الهارب في قرارة نفسه) والركض وراء سراب الخلاص باللجوء لتبريرات صفيقة ومهينة فوق كونها بمثابةٍ تواطؤٍ في الجريمة، والغفلة عن كون المدافع قد يكون الضحية المقبلة لدائرة العنف.
لا ريب في كون الصورة الأوسع بعد أربع سنوات، هي عمر الحراك الثوري المصري، مفزعة بقدر ما هي حزينة.. ابنا مبارك وكل رجاله تقريباً طلقاء، ويوشك هو أن يلحق بهم، وشباب الثورة وراء القضبان بقوانين لا مثيل لها يخجل منها قراقوش، وللإجابة على سؤال أو اعتراض «هل الدم المصري رخيص إلى هذا الحد» فإنني أرى في ضوء التجاهل الرسمي البليد، وأن مسؤولاً واحداً لم يستقل، والداخلية فعلياً مطلقة اليد للقتل، بأن الدم المصري ليس رخيصاً وإنما لا ثمن له في أيامنا هذه، وفي لحظة السعار المجنون التي تعيشها الخلايا الحاكمة للنظام.
أستطيع أن أقرر بمنتهى الثقة أن النظام يحرق الأرض تحت قدميه وتنحسر دائرة التوافق الشعبي حوله، وأن شعبية السيسي تتراجع بدون مراء، إلا أنني في ظل وضعنا المركب للغاية، من وقف حال وغياب مكاسب وتفكك مدمر للمحيط الإقليمي، وخوف من المزيد من الخسارة لا أستطيع الرهان على ثورةٍ وشيكة.. قد تحدث، ولكن إن تأخرت لن أفاجأ، والمؤسف في ذلك ليس فقط إجهاض الأحلام وتفاقم المشاكل، وإنما لأن الأسلوب لتفادي أو الهروب من ثورة سيكون في البحث عن بدائل مثل، العنف الذي يمزق المجتمع، والذي لا يكون بالضرورة بين شرائح مختلفة وإنما بين أفراد من الطبقة نفسها كالأخ يقتل أخاه.
25 يناير كان لحظةً بديعةً وفارقة في تاريخ مصر.. فرصة فريدة للخروج من مستنقع البلادة والفشل، إلا أنه باستثناء المكاسب المعنوية لم يتمخض عن مكاسب اجتماعية أو اقتصادية حتى الآن، لكن لأن العجلة دارت ولأن النظام يعاند في التنازل فإنني لا أرى وتيرة العنف سوى في ازدياد، وأرجو ألا تكون الأيام والشهور المقبلة أكثر كلفةً وفشلاً مما نحتمل.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
أنا حزين لما آلت اليه الأحوال بمصر العروبة والاسلام
والله اني متألم يا دكتور يحي للدماء التي أريقت بمصر من أجل السلطة
اللهم انتقم ممن كان السبب بما وصل له الحال التعيس بمصر الحبيبة
ولا حول ولا قوة الا بالله
صدقت يا،د،يحيى كامل،ان الحزن والاسى يسري في نفسي عَل شباب ضاع دمها هدرا من قبل الأمن الداعشي المصري،اللهم ارحمهم والصبر لأهلهم والاحرار مصر
بعد كل هذا الظلم والاستبداد والقهر والاعتقال التعسفى والاغتصاب والقتل والحرق، بعد اغتيال الحلم ….
بعد كل دة لا تستطيع الرهان على ثورة وشيكة!!