إن نظر إليه في ضوء الانقلابات العسكرية السابقة، يبدو الانقلاب الفاشل، الذي تحيي تركيا ذكراه الأولى، حدثاً فريداً وغريباً في الآن نفسه. د. طه أوزهان، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان التركي، أشار في مقالة له إلى أن كل الانقلابات التي عانت منها البلاد في السابق كانت تستهدف النظام، وتغيير طبقة حاكمة بأخرى؛ بمعنى أنها كانت شأناً نخبوياً إلى حد كبير. ولكن انقلابيي 15 تموز/يوليو 2016 استهدفوا الشعب التركي برمته، الدولة التركية ككل، ولم يظهروا أي اكتراث يذكر بحجم ضحاياهم. قصف الانقلابيون البرلمان التركي، الذي لم تتجرأ حتى قوات الاحتلال البريطاني على قصفه في نهاية الحرب الأولى؛ قصفوا مجمع الاستخبارات؛ قصفوا مقر قيادة القوات الخاصة؛ قصفوا مركز الاتصالات الفضائية؛ قصفوا جموع الشعب في محيط القصر الرئاسي؛ أطلقوا النار على المدنيين فوق جسر البوسفور؛ وسعوا إلى اغتيال رئيس الجمهورية والقبض على عدد كبير من قادة البلاد ونواب الشعب.
بيد أن ثمة وجهاً آخر لهذه المحاولة الانقلابية: أنها ولدت من مخطط طويل المدى، من عمل دؤوب لاختراق أجهزة الدولة، وبناء دولة موازية؛ وأن الاستيلاء على مؤسسات الدولة الدستورية لم يكن سوى الخطوة الأخيرة في مشروع استمر لعقود. وهذا ما يكشف عن الخطر الكبير الذي تهدد تركيا ليلة 15 تموز/يوليو الحاسمة.
لم يعد ثمة شك أن جماعة فتح الله غولن هي من خطط ونفذ المحاولة الانقلابية. تساؤلات بعض الدوائر الغربية حول مسؤولية جماعة غولن عن الانقلاب الفاشل، لا يجب أن يعطى لها أي اعتبار. إفادة رئيس الإركان التركي، الذي لا ينتمي لأي جهة سياسية، حول مفاوضات الانقلابيين معه وعرضهم الحديث مع فتح الله غولن؛ اعترافات عدد من كبار الضباط وضباط الصف الانقلابيين؛ مذكرات الادعاء التفصيلية، وحجم الأدلة التي تحتويها هذه المذكرات، تشير جميعاً إلى مسؤولية الغولانيين. ما لا يزال يستدعي مزيداً من البحث والتمحيص، هو الدور الذي لعبته هذه الدولة أو تلك، وهذا الجهاز الاستخباراتي أو ذاك، في دعم المخطط الانقلابي. ولكن هذه مسألة أخرى، على أية حال.
ولدت جماعة غولن بمدينة إزمير في مطلع السبعينيات من مجموعة معجبين بفتح الله غولن، الذي كان عين إماماً لأحد مساجد المدينة، بعد أن أنهى دراسته في أرضروم، مسقط رأسه، والتحق بدائرة الشؤون الدينية. في البداية، قدم غولن نفسه باعتباره من النورسيين، أتباع الداعية والعالم التركي الكبير، بديع الزمان سعيد النورسي (ت 1960)، الذي عارض التوجهات العلمانية الراديكالية للنظام الجمهوري وقضى حياته مدافعاً عن مواريث تركيا الإسلامية. ولكن، شيئاً فشيئاً، ومع اتساع شهرته، تخلى غولن كلية عن صلاته النورسية، وأخذ في رسم صورة مستقلة لجماعته. وتتوفر تسجيلات، تكشف عن وضوح هدف غولن، منذ السبعينيات، للسيطرة على مؤسسة الدولة التركية، بدون أن يحدد ما إن كان يقصد التسلل التدريجي للتحكم في أجهزة الدولة، أو الإطاحة بنظام الحكم في عملية انقلابية سافرة. ما حدث في الواقع أن الجماعة تعهدت كلا النهجين: أخذت منذ السبعينيات في اختراق الدولة التركية، بما في ذلك مؤسسات القضاء والتعليم والمالية والشرطة والادعاء، وحتى الاستخبارات، ودفع العشرات من أبنائها إلى كافة أذرع القوات المسلحة التركية.
كانت خطابات غولن، وتوظيفه السحري للغة التصوف والفقه والغنوصية الإسلامية معاً، سلاحه الأكثر تأثيراً، وحتى مغادرته تركيا إلى الولايات المتحدة في 1999، بعد أن شعر بتزايد الضغوط القانونية واقترابها منه. ولكن أداته الأكثر فعالية كان التنظيم السري، الذي وصل معظم أنحاء البلاد، سيما الأغلبية التركية الإثنية، والذي ارتكز إلى قاعدة تعليمية هائلة ومتسعة، وفرت للتنظيم فرصة التقاط الشبان المتفوقين حتى قبل انتهاء دراستهم الثانوية. ولأن الجماعة خططت لأهداف بعيدة المدى، فقد عملت على تجنب الصدام السياسي طوال عقود، وحرصت على بناء علاقات جيدة مع كافة الحكومات، بما في ذلك النظام الانقلابي في 1980، الذي أعلن فتح الله غولن تأييده له. ولذا، لم تكن العلاقات التي ربطت بين الجماعة وحكومات حزب العدالة والتنمية، منذ تسلم الحزب الحكم في 2002، استثنائية بأي حال من الأحوال. فقد حافظت الجماعة، منذ الثمانينيات، على علاقات وثيقة بأغلب قيادات البلاد، بمن في ذلك المحافظون، مثل أوزال وديميريل، والأكثر علمانية، مثل بولنت إيجيفيت. ما أفادته الجماعة من حكومات العدالة والتنمية بدرجة أكبر من السابق، كان قرار العدالة والتنمية إيقاف حملات مطاردة المتدينين في أجهزة الدولة، سيما القوات المسلحة، التي كانت سياسة تركية تقليدية منذ انقلاب أيار/مايو 1960.
وربما هذا ما دفع حكومات العدالة والتنمية إلى تجاهل توصية مجلس الأمن القومي في 2004 باعتبار جماعة غولن تهديداً لأمن البلاد القومي. ولكن المؤشرات على ارتفاع ثقة الجماعة بالنفس، وسعيها إلى تعزيز نفوذها في دوائر الدولة أخذت في الازدياد.
وبالرغم من أن عدداً من الأصوات الهامة في العدالة والتنمية بدأت في التحذير من تسلل الجماعة المتسع إلى أجهزة الدولة، كان تحرك الحكومة بطيئاً ولم يرتفع إلى مستوى الخطر. في ربيع 2010، فرغ موقع مدير الاستخبارات التركية، الذي يحتله في تقاليد الدولة شخص غير سياسي وغير حزبي. ولكن جرأة الجماعة وصل إلى حد التعبير عن رغبتها في تعيين أحد أنصارها في المنصب.
رفض رئيس الحكومة إردوغان الاستجابة للجماعة، مستهجناً طلبها، وأصدر قراراً بتعيين د. حقان فيدان، الذي كان يعمل آنذاك في سكرتارية الحكومة، في المنصب. ونظراً لأن فيدان عرف بشكوكه في نشاطات الجماعة، جعل الغولانيين منه خصماً رئيسياً لهم. في 7 فبراير/ شباط، فتح وكيل للنيابة في اسطنبول، من أعضاء الجماعة، تحقيقاً حول اتصالات فيدان بحزب العمال الكردستاني (التي تمت بأمر من رئيس الحكومة)، واستدعاه للتحقيق، مستهدفاً اعتقاله، في وقت كان رئيس الحكومة في غرفة العمليات للعلاج من عارض صحي. طلب فيدان تأجيل ظهوره أمام وكيل النيابة لعدة أيام؛ ولم تحل الأزمة إلا بعد مغادرة إردوغان المستشفى، ومن ثم تغيير القانون الخاص بالتحقيق مع كبار رجال جهاز الاستخبارات.
بيد أن الجماعة كانت بصدد تنفيذ واحد من أكبر مشروعاتها؛ عندما استخدمت نفوذها في الشرطة والنيابة والقضاء لإعداد ملفات قضائية حول وجود تنظيم سري لإدارة الدولة باسم أرغينكون، ومؤامرة لتنفيذ انقلاب عسكري ضد حكومة العدالة والتنمية، عرفت بعملية المطرقة. أدت تلك القضايا، التي استمرت من 2007 إلى 2012، إلى إطاحة عدد ملموس من كبار العسكريين الأتراك، وتمهيد الطريق لصعود الضباط من أنصار الجماعة إلى مواقع متقدمة في أفرع القوات المسلحة المختلفة، سيما القوات الجوية. في ديسمبر/ كانون أول 2013، حاول الغولانيون إطاحة حكومة العدالة والتنمية، عندما فتح وكلاء نيابة موالون للجماعة قضايا فساد ضد عدد من الوزراء، وأطلقوا حملة شعواء ضد الحزب الحاكم ورئيس الحكومة وعائلته. كانت محاولة إسقاط فيدان في 2012، استعراضاً حقيقياً للقوة، أما عملية 2013، التي جاءت على خلفية من إعلان الحكومة نيتها وضع حد لقطاع مدارس نهاية الأسبوع الخاصة، الذي هيمنت عليه الجماعة، فكان هدفها التحكم الكلي بمقاليد الدولة.
المشكلة، بالرغم من أن الحكومة بادرت، منذ نهاية 2013، إلى حملة تطهير واسعة النطاق لأجهزة الدولة، أن عملية التطهير لم تصل إلى القوات المسلحة. وظل الضباط الغولانيون، بفعل سيطرة الجماعة على دائرتي الاستخبارات العسكرية وشؤون الأفراد، يحصلون على ترقياتهم طوال العامين التاليين. وهذا ما أهل الجماعة للقيام بمحاولة 15 يوليو/ تموز الانقلابية، عندما شعرت أن عدداً من كبار أعضائها في القوات المسلحة قد كشف، وأن المجلس العسكري الأعلى بصدد التخلص منهم في اجتماعه المقرر في آب/أغسطس 2016.
هزم الانقلاب، في النهاية، بالرغم من التخطيط الطويل وحجم القوة التي نفذته، لأن الشعب قرر مواجهته ومنعه. ولكن المسألة التي لا يجب أن تغيب عن الأتراك، وعن كل الذين قد يجدون أنفسهم في وضع مشابه، أن جهة مهما أظهرت من تقوى وإنكار للذات لا يجب أن يسمح لها، تحت أي ظرف من الظروف، بإقامة كيان مواز داخل الدولة. تتمتع مؤسسة الدولة الحديثة بقدرات هائلة على السيطرة والتحكم، ولم تعرف البشرية بعد نظاماً سياسياً لعقلنة الدولة وإخضاعها، على نحو ما، لإرادة الشعب، سوى النظام الديمقراطي. عندما تتمكن جماعة سرية من اختراق مؤسسة الدولة، وتنجح في فرض إرادتها على أجهزة الدولة، بمعزل عن رقابة الشعب وإدارته، فعلى الجميع انتظار الكارثة.
٭ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث
د. بشير موسى نافع