لمن كان يتساءل عن مدى فطنة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أو يظنّ أنه رئيس عبقريّ، كما يحلو لترامب أن يدّعي عن نفسه، أوضح المؤتمر الصحافي الذي عقده هذا الأخير في هلسنكي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين قبل يومين، أنه ليس غبيّاً فحسب بل ينتمي إلى أسوأ أصناف الأغبياء، صنف الذين يعتقدون أنهم عباقرة. وقد عرفت الرئاسة الأمريكية في العقود الأخيرة رجلين تميّزا بقلة الدهاء والثقافة، هما رونالد ريغان وجورج دبليو بوش، إلّا أنهما كانا يدركان حدود فطنتهما وقد اتّكلا بالتالي على المعاونين والمستشارين الذين أحاطوا بهما. أما ترامب فإن قناعته بأنه أعظم عباقرة العصر دفعت به إلى تقرير الأمور بمفرده، حتى الإصرار على لقاء الرئيس الروسي بدون حضور أي من معاونيه بما فسح المجال أمام تلاعب بوتين به، وهذا الأخير أدهى منه بأشواط. وقد وصل الأمر إلى حدّ تساؤل الإعلام الأمريكي مجدّداً عن صحّة المعلومات التي أتى بها رجل مخابرات بريطاني سابق في عام 2016، خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والمتعلّقة بحيازة الكرملين على وثائق خطيرة تتعلّق بترامب وتسمح بابتزازه.
ومهما يكن الأمر يبقى أن المعلّقين عبر العالم كادوا يجمعون على أن ترامب قدّم لبوتين انتصاراً دبلوماسياً وسياسياً على طبق من فضّة مثلما سبق له أن فعل مع زعيم كوريا الشمالية، مع فرق كبير هو أن الأمر أخطر بكثير حيال روسيا لكونها إمبراطورية عالمية منافسة للإمبراطورية الأمريكية وليست مصارعاً ثانوياً في الحلبة الدولية. وثمة الكثير الذي يمكن قوله في تقييم سطوة بوتين على ترامب، ولاسيما ما يتعلّق بتتويج عملية الطعن بالأركان التي استندت عليها الهيمنة الأمريكية منذ غداة الحرب العالمية الثانية، وفي مقدّمتها التحالف مع أوروبا الغربية في مواجهة الإمبراطورية الروسية المنافسة.
غير أننا سنكتفي هنا بمسألة واحدة تهمّنا مباشرة من بين المسائل التي تمّت إثارتها في مؤتمر هلسنكي الصحافي، ألا وهي المسألة السورية ـ الإيرانية. وقد يتذكّر من يتابع هذا العمود الأسبوعي أننا قدّرنا منذ شهور عديدة أن ترامب راغبٌ بعقد صفقة مع موسكو يتخلّى بها عن العقوبات المباشرة المفروضة عليها بسبب الأزمة الأوكرانية وضمّ القرم قسراً إلى روسيا (ناهيكم بالعقوبة غير المباشرة المتمثّلة بتولّي المملكة السعودية تخفيض أسعار النفط)، لقاء معاونة روسيا للولايات المتحدة وربيبتها إسرائيل في مواجهة إيران، بما في ذلك التعاون على إخراج إيران من سوريا.
وقد جاءت بضعة مقالات في الأيام السابقة لقمّة هلسنكي تشير إلى نيّة ترامب عقد صفقة كالتي وصفنا، بل كشف تقرير في مجلة «ذي نيويوركر» عن تضافر جهود المملكة السعودية والإمارات وإسرائيل في الضغط على ترامب لهذا الغرض. ومما أكّد التكهّنات زيارة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو لموسكو قُبيل قمّة هلسنكي، وقد كان موضوع إيران في سوريا أهم ّ ما دار حوله الحديث بينه وبوتين. بيد أن حصيلة قمّة هلسنكي جاءت مخيّبة لآمال نتنياهو وصديقه ترامب، وذلك لسبب بسيط هو عجز الرئيس الأمريكي عن تقديم الثمن الذي يتوخّاه بوتين لقاء ارتداده على «جمهورية» الفقيه الوالي. وكان محطّة حاسمة في هذا المجال قمّة الحلف الأطلسي في بروكسل التي سبقت قمّة هلسنكي والتي اضطرّ فيها ترامب، تحت ضغط المؤسسة العسكرية الأمريكية بلا شكّ، إلى التوقيع على إعلان احتلّت فيه مسألتا أوكرانيا والقرم مركز الصدارة في تثبيت لموقف الدول الغربية المعروف.
لذا لم يكن ممكناً أن ينتج عن قمّة هلسنكي جديدٌ ما فيما يتعلّق بسوريا وإيران، بل لم تفض القمّة سوى إلى إعادة تأكيد على ما هو قائم أصلاً. وهذا يتضمّن بالطبع إفصاح ترامب عن اتفاقه وبوتين على «مساعدة إسرائيل»، وهي مساعدة تتجلّى في الاتفاق بين روسيا وإسرائيل الذي سبق التدخّل الروسي المباشر في الحرب السورية ومهّد له، والذي قضى بفسح روسيا المجال أمام إسرائيل كي تضرب على الأراضي السورية مواقع إيران وأعوانها التي ترى فيها الدولة الصهيونية تهديداً لأمنها. وقد أدرك بوتين أن ترامب قدِم إلى هلسنكي من موقع ضعف بعد عاصفة الانتقادات التي أثارها في بلاده سلوكه إزاء حلفاء أمريكا الأوروبيين في الأسابيع والأيام الأخيرة، لاسيما بعد قيام وزارة العدل الأمريكية، أي أحد أركان الحكومة التي يرأسها ترامب نفسه، بتوجيه تهم رسمية إلى اثني عشر عضواً من أعضاء مديرية المخابرات الرئيسية الروسية، بما أشار إلى أن ترامب لا حول له ولا حيلة إزاء الدولة الأمريكية فيما يمسّ مصالحها الجوهرية. وقد تجلّى ذلك من خلال طعنه العجيب بجهاز بلاده الأمني بحضور زميله الروسي.
والحقيقة أن ترامب جاء إلى هلسنكي لابساً «ملابس جديدة» كالتي حاكها النصّابون للإمبراطور في الحكاية الشهيرة التي استوحاها الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن من أصل عربي مغربي. وقد بدا ترامب للجميع في المؤتمر الصحافي على حقيقة عرائه. وكما في الحكاية، فلتت الألسن في الإمبراطورية وأخذ الجميع يصيحون بالحقيقة.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
جلبير الأشقر
الكاتب الدانماركي هانس كريستيان أندرسن من أصل عربي مغربي:أود توضيح هذا الخبر بذكر مصدره. فلقد بحثت من جانبي و لم أجد له أثر. شكرا مسبقا.
الكاتب يقصد أن الكاتب الدنماركي ،استوحى القصه من اصل عربي ، ولم يقل أن الكاتب الدنماركي من اصل عربي، وتفضلوا بقبول أفضل التحيات.