صهيب أيوب : هناك كائن لم أقل له إني أحبه أكثر من الله. اسمه ديبة. أمي التي شاء شيخ محلي في قلعة الحصن السورية أن يطلق عليها هذا الاسم، لأنها أصيبت بريبة في طفولتها. استبدل اسمها حنان بديبة. كي تخاف منها الشياطين وليكون اسمها ثقيلاً، لا يمكن انتهاكه.
اصيبت ديبة بأول انتكاسة حين مات ابنها البكر علي. مات لأنها نسيته وحيداً على الشرفة. سقط ومات على الفور. ديبة التي هي أجمل من أي شيء رأيته واحببته، حملت الذنب طوال عمرها. لكنها لم تحك. لأنها اختارت أن تحبنا جميعاً. لأنها تحملت ان تكون وحيدة مع حزنها. وحيدة مع هذا الألم الثقيل. بقيت تنام معه. وتضعه في قفصها الصدري. وحين أجريت لها أول عملية قلب مفتوح، تقيأت جزءاً منه، لكنها بقيت أسيرته.
أمي التي تخاف النظر إلى صورة علي، الموضوعة فوق أحد رفوف «الفاترينة»، تقول لي إنها أحبتني. لكنني لم أقل لها ما أشعر به. لم أنقل لها ما أحمله حقيقة لها. لم أعترف بهذا الحب الأبدي.
حين كنت أذهب إلى نايلة، معالجتي النفسية، كنت أبكي كلما ذكرت اسم أمي. أبكي لأنني لا أملك شيئا كي أقوله لها. أمي التي كانت تدلعني في حمامي اليومي، وتقبلني لأني صغيرها الذي حبلت به «بالغلط»، وولدته في الشهر السابع، وأحبته قبل الولادة. أمي التي رفضت قتل صورتها في قلبي، ورفضت أن أحمل سواها في كل غربتي. أمي التي دفعت اختي ندى إلى تربيتي، وعلمتني النظافة باكراً، وجعلتني انتفض على أخوتي وأرفض تسميتهم لي بفريد الاطرش. امي التي لم تنتبه لغفلة اني انتهكت مرة. لكنها عوضت لي في الدفاع عني دوماً. في كل شيء في السباحة في برك الماء المتفرقة في القرية. في استئجار دراجات هوائية. في معرفتها أني مختلف عنهم جميعاً. في قبولها لي أني أكره الدرس وأحب الكتابة. في اهتمامها بي وبطعامي وغسل ثيابي، بطريقة متمايزة.
أمي التي لا يمكن أن أجد مثلها، كنت أتلصص دوما على غرفتها واستمع إلى تنفسها وتقطعاته وأبكي. لأنني كنت أظن أنها ستموت في أي لحظة. كانت تجلسني في الحمام لدقائق وحيداً. ينوس ضوء الشمعة في الزاوية. تعود مسرعة، بخطوات ثقيلة، لاهثة. تعرف كم أخاف العتمة. تضعني داخل «بانيو» بلاستيكي متوسط الحجم قبل أن تبدأ غسل جسمي بصابونة «لايف بوي» الحمراء، التي أتذكر رائحتها كلما اغمضت عينّي. أتذكر رغوتها التي تدخل مسامي وتعشش في وسادتي بعد كل استحمام. أهرب منها تاركاً أنفي بين ورقات كتاب «المغامرون الخمسة» أو على صورة «تختخ». وصرت أكرهها لاحقاً. خاصة بعد أن صرت ألاحظ وجودها في رفوف دكاكين صغيرة. أسحب ناظري كمن يهرب من شيء يقلقه.
كنت أجلس متأففاً من برودة غرفة الحمام، على الرغم من أن «الأظان» المملوء بنشارة الخشب وهو يحترق، يبث سخونة هادئة في مساحة واسعة، أتذكرها فارغة إلا من غسالة بجرن واحد ومغسلة صدئة. وشباك صغير وعلاقات ثياب تنتظر غسليها، مع «سقيفة»، كنت أحب دوماً النظر إليها، أثناء جلوسي في البانيو، مكتشفاً صوت موتير الماء في خزان إسمنتي، أو أتلصص على أغراض لا أراها بوضوح لعتمة تغرق كل شيء فيها.
كانت تدلق الماء بخفة وأضحك. كنت أقول لها ألا تليف لي خاصرتي: «بتغرغر من هون». تبتسم لي وتداعبني. تترك يديها على رأسي وهي تفركه. ثم تدلق الماء مجدداً. كنت أكره الماء الساخن كثيراً، واستمتع به في وقت واحد. تدلق ولسحر ما أعيشه كان كل شيء ينتهي في دقائق معدودات. وأظن أن متعتي زالت. أبقى وحدي في البانيو. ثم تعود لتلفني بمنشفة زرقاء، لا أزال اتذكر نقشتها: زهور مخرمشة. تلفها على جسمي الصغير. وتنقلني إلى الغرفة لأرتدي ثياب النوم. لم تكن لدي «بيجاما» كاملة. بنطلون من بيجاما بنية وكنزة ما. لكنها لوفرة ما تحبني، كانت تقول لي إني أشبه أميراً جميلاً، رغم أن أخوتي كانوا يكرهون جسمي النحيل وعظامي البارزة ووجهي الذي يكاد تختفي ملامحه لضعفه. كانت تدافع عني دوماً. وتبقيني قربها حين تطبخ، وتعلمني لف الورق عنب وتقوير الكوسى وطبخ الكشك، وإعداد القهوة المرة. وكل مرة تضع لقيمات الدجاج الذي «تفصفصه» لطبخات الملوخية والكبسة بالأرز، في فمي الشره.
بقيت أنام مع أمي إلى عمر الـ12. انتقلت على مضض إلى سرير كان ينام فيه شقيقي، وكانت تهتم بي ويشاركنني فيه أحياناً زوجتي أخي، حين يكون في خدمته العسكرية. كنت أشتاق إلى أمي، فأتسلل إلى حضنها. أوسع الفراغ بينها وبين أبي. فتغمرني وهي تهمس لي: صهيبو حبيبي.
ديبة، أعترف لك بأنني لم أحب اي كائن كما أنت.
صحافي من أسرة «القدس العربي»
What a beautiful and nostalgic piece of writing.
ماااا أجمل هذا البوح،،،
ماأصدقه،،،،
أتمنى أن تكمل في عدد قادم ، قصّتك الجميلة وتقصّ علينا ماتبقى منها،،،،
السرد رائع يا صديقي