نتحدث غالباً عن الديكتاتورية السياسية والدينية، علماً بأن هناك ديكتاتورية لا تقل بشاعة وإرهاباً وفتكاً، ألا وهي الديكتاتورية الإعلامية، فوسائل الإعلام، في الشرق والغرب، على حد سواء، تمارس استبداداً خطيراً، حتى لو بدا أقل فجاجة من السياسي والديني. ماذا يمكن أن نقول عن التحكم الإعلامي بأذواق الجماهير وبرمجتها وتوجيهها وتعويدها على أنماط ونماذج معينة، ثقافياً وفنياً واجتماعياً، رغماً عنها؟
ألا يمارس الإعلام نفس الدور الذي يمارسه الطغاة في فرض توجهاتهم ورؤاهم ومعاييرهم ووجهات نظرهم على الناس، دون أن يكونوا راضين أو متقبلين لتلك التوجهات؟ ولا أبالغ إذا قلت إن الطغيان الإعلامي يكاد يكون أكثر خطورة على المجتمعات من الطغيان السياسي، لأن الأخير أشبه بالدمل الخارجي، فهو، على حد تعبير الطبيب المفكر خالص جلبي، على الأقل، واضح ومؤلم ومقاومته سهلة. أما الطغيان الإعلامي فهو غير مؤلم ومقاومته معقدة، وهو في هذا يشبه السرطان. فإذا كانت الديكتاتورية السياسية أشبه بالخرّاج، فإن الهيمنة الإعلامية ورم خبيث. الأول سطحي، والثاني خفي. ما أسهل أن تقاوم الديكتاتور السياسي، لكن ما أصعب أن تقاوم الديكتاتور الإعلامي، فهو أكثر قدرة على خداعك والتقرب منك وتخديرك بوسائله الماكرة والإغرائية.
وبما أن المجتمعات العربية تقبع تحت استبداد مقيت يفرض نوعاً واحداً من كل شيء، فإن قدرتها على مقاومة الطغيان الإعلامي ظلت محدودة، إن لم نقل معدومة، حتى انبثق عصر السماوات المفتوحة الذي بدأ يحطم القبضة الحديدة للأنظمة الطغيانية، ويحرر المجتمعات من هيمنتها بأشكالها كافة. لكن الكثير من وسائل الإعلام التي انطلقت مع الثورة الإعلامية الحديثة راحت، من سخرية القدر، بدورها تمارس الاستبداد الإعلامي بحجة التعددية الإعلامية بدهاء أكبر وتأثير أخطر، وكأنك «يا بو زيد ما غزيت»!
صحيح أن من حق الجميع أن يطلقوا وسائل إعلام تعبر عن توجهاتهم وميولهم ومصالحهم المختلفة في عصر الانفتاح الإعلامي، وصحيح أيضاً أن هذا التعدد الموجود في الفضاء دليل ديمقراطية إعلامية لم يشهد لها التاريخ مثيلاً بفضل التطور الخطير الذي وصلت إليه تكنولوجيا المعلومات، إلا أن الديكتاتورية، على ما يبدو، متجذرة في النفس الإنسانية حتى لو اتيحت لها ممارسة أقصى حالات الديمقراطية.
لم يستفد الإعلام العربي مثلاً من نعمة التعددية الإعلامية التي وفرتها ثورة الاتصالات الحديثة، إلا ما ندر. صحيح أننا أطلقنا مئات القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية، إلا أننا بقينا ندور في فلك الاستبداد. ماذا يمكن أن نسمي هذه الموجة الجارفة من الفضائيات الغنائية والفنية والترفيهية التي تجتاح الفضاءات العربية من المحيط إلى الخليج؟ أليست ديكتاتورية من نوع ما؟ لماذا ظل التعدد الإعلامي خجولاً في مجتمعاتنا العربية؟ فإذا قارنا عدد الفضائيات التنويرية بالشعبوية نجد أن الأخيرة تفوقها بأضعاف مضاعفة.
قد يقول البعض إن الأمر ذاته ينطبق على البلدان الغربية الديموقراطية، حيث يزيد عدد وسائل الإعلام الشعبية الصفراء على وسائل الإعلام التنويرية بنفس القدر أو أكثر. وهذا صحيح. لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم قطعوا أشواطاً هائلة على طريق التقدم التكنولوجي والصناعي والعلمي والثقافي، وقد يكون من حقهم أن يأخذوا استراحة محارب حتى لو كانت استراحة ماجنة، بينما ما زلنا نحن العرب نعيش في مرحلة ما قبل عصر التصنيع تكنولوجياً، وفي العصر القبلي سياسياً وثقافياً واجتماعياً. بكلمات أخرى، فإن ما ينطبق على المجتمعات الغربية لا ينطبق على المجتمعات العربية، لا من حيث العقلية والثقافة، ولا من حيث مدى التقدم. بعبارة أخرى، فقد قفزنا إلى المرحلة الغربية دون أن نمر في مخاضها، أي أننا أخذنا قشورها من دون أن نعيش جوهرها. ناهيك عن أن تلك القشور الإعلامية التي أخذناها من الغرب ضارة جداً حتى بالنسبة للمجتمعات الغربية ذاتها، فهي أسوأ ما أنتجته تلك المجتمعات؟ هل يمكن أن نسمي التعهير والانحلال الإعلامي الغربي تقدماً مثلاً، أم هبوطاً؟ مع ذلك، فقد ضربت وسائل الإعلام العربية عرض الحائط بكل تلك الحقائق البشعة عن الإعلام الغربي الأصفر، وراحت تقلده على طريقة القرود.
ولعل السمة المشتركة الأبرز بين وسائل الإعلام العالمية، ومنها العربية، أنها قهرية وقسرية إلى حد كبير. ولو أخذنا الإعلام العربي الشعبي الذي يزعم التحرر والديمقراطية ومسايرة الشعوب تحديداً، لوجدنا أنه ديكتاتوري إلى أبعد الحدود، بحيث لا يختلف عن الإعلام السياسي التابع للأنظمة الشمولية، فالاثنان ينصّبان نفسيهما موجهين للجماهير وقيمين على أذواقها، الأول ثقافياً وفنياً واجتماعياً، والثاني سياسياً.
وحتى لو تعود الجمهور على بعض الأنماط السخيفة والماجنة التي يصنعها الإعلام فليس لأنه اقتنع بها، بل لأنه لا يرى غيرها أمامه. إن الإنسان أشبه بالكومبيوتر، فنظرية الحاسب الآلي تقوم على مبدأ: rubbish in, rubbish out، أي ضع في الكومبيوتر معطيات جيدة يُخرج لك معطيات جيدة، وأعطه معطيات سيئة يُخرج معطيات سيئة. وكذلك الأمر بالنسبة للمستهلك الإعلامي، قدم له مادة صالحة، تصنع منه مستهلكاً صالحاً. ما أصعب أن ترتقي بالجماهير، وما أسهل أن تهبط بها إلى أسفل السافلين!
وكما عانينا ومازلنا نعاني سياسياً من ظاهرة الزعيم الأوحد، فقد بدأنا نعاني الآن من ظاهرة النموذج الاجتماعي والغنائي والفني الأوحد الذي يمثله بعض الفنانين والفنانات، والذي تروجه فضائيات «الهشك بيشك»، على الرغم من محدودية أتباعه. لا شك أننا بحاجة إلى عشرات القنوات لمواجهة استبداد الإعلام الجديد الذي يحاول أن يفرض على مجتمعاتنا أشكالاً وأنماطاً معينة، فالسلعة الرديئة في بلادنا العربية يبدو أنها تطرد السلعة الجيدة، وليس العكس، خاصة أن المتمولين وأصحاب الملايين القائمين على بعض الامبراطوريات الإعلامية العربية لا يحبون المتاجرة إلا بالسلع الرديئة.
٭ كاتب وإعلامي سوري
[email protected]
د. فيصل القاسم
موضوع خطير فعلا و نشكر الدكتور فيصل لتسليط الضوء عليه و ذكره بجدية و أهمية..
تحياتي لك دكتور فيصل
* لا شك كلام الأخ فيصل صحيح ( بالمجمل ) .
* لكن ما هو الحل ؟؟؟
* من وجهة نظري المتواضعة ( خير الأمور أوسطها ) .
* لا نفتح ( الإعلام ) بشكل ( مطلق ) ولا ( نغلقه ) بشكل مطلق .
شكرا .
إعلام أحيانا نافع صيب وأحياناً ضال وضار وضحل يجب أن يكون هناك استقلالية تامة في الإعلام تتبع االمصداقية والشفافية في إعلامنا العربي ولكن للأسف هذا غير حاصل؟
حكمة كل يوم
لا تصدق ما تسمعه
وكذب نصف ما تراه ..
طرح جميل للموضوع دكتور فيصل القاسم دايما متميز تحياتي
الحملات الإعلامية المسعورة كانت منذ بداية البشرية و لقد رأيناها بداية في إبليس ,, ثم في قوم نوح عليه السلام و في قوم إبراهيم عليه السلام و في قوم موسى عليه السلام ووو إلى أن رأيناها على أوجها في الذين كفروا من أهل مكة في حملاتهم الإعلامية المسعورة ضد النبي صلى الله عليه و سلم .
الحل لهؤلاء الإعلاميين المصابين بالسعر في هذه الأيام و غيرها تجده في العقيدة فقط.
فالذي ينظر بوعي فيما جاء في كتاب الله سيجد فيه الحل الكافي و الجواب الشافي , و عدا ذلك سيصب في ذات الحملات الإعلامية المسعورة التي ليس وراءها إلا أهل الباطل الذين تنتظرهم جهنم بسعيرها .
خذ مثلا قوله تعالى:
لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم إعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين *
إلى أن قال: ,,, و أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين *
و لينظر ماذا قال أهل الإعلام لنبي الله هودا عليه السلام:
قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة و إنا لنظنك من الكاذبين *
و أيضا شوفوا ماذا قال أهل الإعلام الكفرة من أهل مكة عن الرسول صلى الله عليه و سلم:
و عجبوا أن جآءهم منذر منهم و قال الكافرون هذا ساحر كذاب * أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب * و إنطلق الملأ منهم أن إمشوا و إصبروا على ألهتكم إن هذا لشيء يراد * ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذآ إلا إختلاق * أءنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب *
الاعلام احد الوسائل الثقافية و اشدها تاثيرا على الشعوب و قد ادرك الصهاينة اهمية الاعلام فحاولوا امتلاكه بشكل كامل من الصحف التلفزة و غيرها, و طبعا يحذوا حذوهم الانظمة العربية على المستوى القطري فوسائل اعلامها تجدها تسبح و تحمد و تمجد الزعيم و جعل الهزيمة نصرا و السقوط علو و التفاهة ثقافة,
و ما زلنا نتذكر من اقوال الرفيق القائد: السواقة فن و ذوق و اخلاق :)
كما ذكرت الاعلام اخطر من السياسة
و لكن معظم تلك الامبراطوريات الاعلامية تدار من السياسيين
و بالتالي ينعكس فشل سياستنا على اعلامنا
بالتاكيد لاحظ الجميع تغير قناة العربية بالملفين السوري و المصري منذ تولي الملك الجديد الحكم
و هو ما نامل انه خير للامة العربية و الاسلامية
لقد فات الكاتب ان يذكر ان هناك ايضا موجه (وان تكن غير جارفه) من القنوات الاخباريه التي انشئت باموال ذات لون خاص لخدمه انظمه ذات طبع خاص و لتبث رسائل لها هدف خاص. هذه القنوات هي الاكثر خطوره.
بالمناسبه، التعبير لاستخدام الحاسوب هو (GiGo: Garbage in Garbage out) وهو تماما ما يعبر عن الداخل و الخارج الي ومن القنوات الموجهه.