ديكتاتورية الصورة

حجم الخط
1

تشكّل «مسيرة العودة» يوم الجمعة الماضي، الطلقة الاولى في ما يمكن لها ان تتحول إلى انتفاضة فلسطينية واعدة جدا.
هذه «المسيرة» التي انطلقت بمبادرة شعبية، وفّرت الفرصة لـ «حماس» لإثبات قدراتها السياسية، حيث باركتها بداية، ثم بادرت إلى تبنيها، ومن ثم توجيهها، والتأهّل لحصد ما قد تثمره من نتائج. وذلك ما يشبه، إلى حد التطابق، ما حصل تماما مع انطلاق الانتفاضة المباركة الاولى، عندما بادرت فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى تبنيها وتوجيهها وحصد ثمارها.
هذا التطور الذي انطلق في الذكرى الثانية والاربعين لـ«يوم الارض»، يستدعي من الفلسطينيين إعمال الفكر بتروٍّ وبعمق، لرعاية فعل وطني فلسطيني جديد، مبشّر وواعد، بهدف حمايته من الانزلاق إلى طريق العنف الذي تتمناه اسرائيل وقيادتها بالغة اليمينية والعنصرية، وبهدف توفير كل ما من شأنه تعظيمه وزيادة زخمه، واستمراريته، حتى إلى ما بعد ما حدد له من تاريخ انتهاء مع الذكرى السبعين لـ«النكبة»، وذكرى «نكسة» حرب حزيران/يونيو 1967 المشينة.
لا بد هنا من بعض تاريخ قريب واكبناه وعشناه:
كان الوضع الفلسطيني مع انطلاق الانتفاضة الاولى في «خريف» العام 1987، في غاية الصعوبة والضعف، وجاءت الشرارة الاولى لتلك الانتفاضة من قطاع غزة، فاشعلت في عقل القيادة الوطنية الفلسطينية (وفي ذهن ابو عمار المتوقد، اساساً)، ضوءاً وبريق امل، واستدعت استنفارا كاملا من قبل ابو عمار وابو جهاد وبقية القيادات والكوادر الفلسطينية، وأوكلت عملية توجيه نشطاء الانتفاضة باتجاه تنظيم صفوف الفلسطينيين في اتحادات وخلايا على صعيد المهنة والجيل والحي، وربطها لتشكل سلسلة متواصلة إلى زهير المناصرة، الذي نجح في تلك المهمة بشكل لافت للنظر.
امضت القيادة الوطنية اياما وهي تعمل وتتمنى ان تستمر تلك الانتفاضة اسبوعا. ثم امضت اسابيع وهي تعمل وتتمنى ان تستمر الانتفاضة شهرا. وطبيعي بعد ذلك القول، ان تلك القيادة امضت شهرا وهي تعمل وتتمنى استمرار الانتفاضة لأشهُر وربما سنة كاملة. وكان ان استمرت حتى العام 1994. واثمرت.
لم تتنبه اسرائيل عند انطلاق الانتفاضة إلى المدى البعيد الذي يمكن للانتفاضة ان تصل اليه. حتى وزير دفاعها في حينه، اسحق رابين، لم يقطع زيارة خارجية كان يقوم بها، ولم يختصر منها لا يوما ولا حتى ساعة واحدة. وبعد اسابيع من عودته، اطلق امره البائس والحقير لجنود وضباط جيشه: «كسّروا ايديهم وارجلهم»، حيث كان المستهدفون هم فتية وشباب «انتفاضة الحجارة»، وذلك لاعتبار رابين وحكومته، ان قتل المدنيين من نشطاء الانتفاضة، يثير الرأي العام العالمي، وربما الاسرائيلي ايضا، اكثر بكثير من الحاق الأذى والتسبّب بالاصابات والإعاقات للمدنيين الفلسطينيين.
في الانتفاضة الأولى تنبهنا نحن والعالم إلى وجود فلسطينيين من الجيل الرابع والخامس، وهم يعلنون باعتزاز، انتماءهم إلى الشعب الفلسطيني، (اكثر من 350 الف في تشيلي وحدها مثلا).
ثم، تعالوا نقارن ذلك بما آل اليه الحال في، وبسبب، الانتفاضة الثانية:
انطلقت تلك الانتفاضة المسلحة في وقت كان فيه الوضع الفلسطيني عند قمّة عالية على الصعيد الدولي، وعلى الصعيد الوطني، وكان الرئيس الفلسطيني ضيفا مرحبا به في كل عاصمة. لكن هذه القيادة الوطنية الفلسطينية اندثر دورها بعد اسابيع من انطلاق تلك الانتفاضة، ثم اندثرت هي نفسها، وأخلت مكانها لـ«مخلوق» هيولي فضفاض غير منتخب، اسمه: «القيادة الوطنية والاسلامية»، مسايرة لحماس، واعترافا ضمنيا بان المنظمة لم تعد «الممثل الشرعي والوحيد». وبدأ مسلسل الانحدار، كما بدأ سيل التمنيات ان ينتهي ذلك الكابوس الذي لم ينته، لسوء حظ الفلسطينيين، الا بعد نجاح اسرائيل باغتيال رمز الوطنية الفلسطينية، الشهيد ابو عمار، حسب ما تشير الدلائل، والكثير من المصادر العربية والدولية.
كذلك، إذا كانت اسرائيل لم تتنبه إلى المخاطر التي تشكلها الانتفاضة الاولى المباركة، فإنها قد تنبهت، هذه المرة، إلى المنافع التي تعود اليها بفعل الانتفاضة المسلحة، التي لم تبدأ مسلحة، ولكن اسرائيل نجحت في استدراجها إلى ذلك المربع الموحل، بكل خبث واقتدار.
ايضا: لم يقل عدد المتحدرين من جذور فلسطينية في التشيلي، ولكن عشرات الآلاف منهم، ومن الجيل الاول من المهاجرين كذلك، بدأوا يتنصلون من جذورهم الفلسطينية، وهم يرون الادانات، لأن انفارا من شعبهم راحوا يفجرون وينفجرون في مطاعم ومقاهي وحافلات واندية مليئة بالمدنيين. ويجب علينا الاعتراف بصراحة ووضوح: انهم مدنيون بكل معنى الكلمة، حتى ولو كانوا آباء او امهات او ابناء لضباط وجنود جيش الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي العنصري.
لحق بذلك، وتحت غطاء الانتفاضة المسلحة، ان ما كان في ايدينا من جغرافيا على ارض فلسطين، بفضل كل النضال الفلسطيني، وآخره الانتفاضة المباركة الاولى، والآخذة بالتمدد والإتساع، وماكان بدءاً للعودة، ولو إلى جزء من ارض الوطن، بددته الانتفاضة المسلحة، فانكمشت الجغرافيا، وتوقف سيل العودة، وإن كان بـ«القطارة، وبالتنقيط، لتحتل مكانه عمليات ابعاد.
ننقل النظر والتركيز من الماضي والتاريخ القريب إلى المستقبل والآتي من الأيام:
نعيش في عالم بالغ التعقيد والتداخلات بين ما يجري فيه من تطورات واحداث، دوليا واقليميا. وتحتل قضية شعبنا، القضية الفلسطينية، الموقع الاول في سُلّم القضايا الاكثر تعقيدا على الصعيد الدولي. هذه الحقيقة المؤلمة، حيث نحن ضحاياها، تستدعي من الفلسطيني ان يعرف قوانين العصر وان يتقن لغته.
اهم لغات عصرنا على الإطلاق، هي «لغة الصورة». فالصورة «حقيقة» ملموسة، يلمسها النظر، وهو الاهم بين حواس الانسان الخمس. ثم عندما تلتصق وتتوحد الصورة مع حاسة السمع، الثانية في الاهمية بين الحواس الخمس، تصبح ذات مفعول سحري. اسمها في لغة العصر: التلفزيون. من يكسب «الصورة» يكسب المعركة. الصورة لا تكذِب، ولا تُكذَّب، ولا يفنِّدها بيان، ولا يلغي مفعولها، على الصعيد الدولي، تجاهل وسيلة اعلام اسرائيلية او امريكية. وقضيتنا قضية دولية بامتياز: نشأتها في وعد بلفور والانتداب/الاستعمار البريطاني، ومرورا بكل اللجان الدولية وبياناتها وقراراتها، ووصولا إلى قرار التقسيم، وكل تطوراتها نتيجة الحرب العالمية الثانية، وما تخللها من مجازر ومذابح، طالت اليهود وغيرهم في اوروبا وغيرها، وما خلقته هذه الاحداث من تعاطف مع اليهود والحركة الصهيونية العنصرية، في غرب اوروبا وشرقها، وأدّى إلى تمكين اليهود من إقامة «دولة اسرائيل»، ثم انتهاء، في ايامنا هذه، مع الدعم الامريكي الذي مكن اليهود من إقامة «امبراطورية اسرائيل»، التي تحتل وتستعمر وطننا وشعبنا، كلها مسائل دولية. ما يغير كل ذلك، ولو بالتقسيط البطيء، هو ذكاء فلسطيني يتقن لغة العصر، «لغة الصورة».
يصادف هذا الاسبوع الذكرى الخمسين لاغتيال الزعيم الامريكي الاسود الكبير، مارتن لوثر كينغ، بطل محاربة التمييز العنصري في اميركا ضد الأفرواميركيين السود، باعتماد مقاومة العنصرية ضد السود الامريكيين بكل الوسائل غير العنيفة. بهذه المناسبة نشرت الصحافية والناقدة الامريكية، سلميشة طيلِت، تقريرا وعرضا لثلاثة افلام وثائقية اميركية عن مارتن لوثر كينغ، في جريدة نيويورك تايمز، يوم الثلاثاء الماضي، اختارت لتقريرها، بهدف تعظيم وتفسير سر نجاح الثورة التي قادها كينغ عنوانا تقول كلماته: «الرجل الذي فهم لغة التلفزيون».
لعل من غرائب الصدف، ان الفيلم الوثائقي الثاني عن كينغ، وتم بثه يوم الاثنين الماضي كان بعنوان «كينغ..ملك في الصحراء»، الذي يستند على كتاب عن كينغ، عنوانه: «على حدود ارض كنعان»!. هذه دروس يجدر بالشعب الفلسطيني تعلمها.
تطور ايجابي هو وصول حماس إلى حيث وصلت القيادة الوطنية الفلسطينية قبل عقود، في تبني ودعم انتفاضة مدنية غير عنيفة. لكن ما يجدر بحركة فتح وبمنظمة التحرير، هو ان تبادرا، وبكل ما تبقي لديهما من خبرات وقدرات، إلى الانخراط في هذه الانتفاضة، دون مغمغة وادعاءات، وتقدُّم صفوفها، والعمل بجدية لقيادتها. هذا الانفجار لطاقات فلسطينية مدنية، فتَح بابا لمنازلات غير عنيفة، بين شعب اعزل، وعدو يحتل ويستعمر ارض وشعب فلسطين، مستندا إلى ترسانة عسكرية، لا يدعمها أي حق او شرعية.

٭ كاتب فلسطيني

ديكتاتورية الصورة

عماد شقور

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول خليل ابورزق:

    يقول الكاتب النبيه: “ويجب علينا الاعتراف بصراحة ووضوح: انهم مدنيون بكل معنى الكلمة، حتى ولو كانوا آباء او امهات او ابناء لضباط وجنود جيش الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي العنصري” و يتمثل بجركة مارتن لوثر كنج و قد يستحضر غاندي ومانديلا ايضا. و لكن..
    عدونا يا سيدي ليس شريكا و لا جارا اصيلا و لا مدنيين و عساكر و لا حتى محتلا كولونوليا و ليس الخلاف معة على الحدود او الحقوق. عدونا هو احلاليا هدفه طردنا من وطننا و احلال شعب آخر فيه. و من لا يطرد يحكم بشكل عنصري..
    كل يهودي جاء الى فلسطين منذ الانتداب البريطاني 1917 حتى الان يعلم انه محتل معتد مغتصب لحق شعب آخر.. وكلهم يخدمون في الجيش و الامن و حتى من لا يقتل فهو يعلم ان يتنفس هواء و يشرب ماء و يطأ ارضا تعود الى شعب مطرود منها و هو شعب حي له جذوره و تاريخه.
    وماذا عن المدنيين الفلسطينيين الذين يقتلهم الجيش الاسرائيلي بالالاف و هم فعلا مدنيون في ارضهم؟ انهم يبررون ذلك بالردع فهل يحق لهم الردع و لا يحق لنا؟؟
    طبعا انا لا ادعو الى المقاومة العنيفة الخاسرة و لكن يجب ان لا ننخدع بالاكاذيب الانسانية التي يروجونها و لا ننسى طبيعة العدوان .
    كل انواع المقاومة شرعية و لكننا بحاجة الى التركيز على المقاومة الذكية

إشترك في قائمتنا البريدية