في عراقنا الديمقراطي الذي عشنا تجلياته وتقلباته منذ أن أطاح التحالف الامريكي بنظام صدام، ولدت ديمقراطيتنا وشبت وصار عمرها اليوم 14 عاماً وهي عرجاء، وربما ستصاب بشلل يقعدها عن اداء أي فعل حتى اصبح بعضنا يتمنى لها موتاً سريعاً رأفة بها وبنا. وكما هو معروف في كل بلاد الله ان ساقي الديمقراطية هما الحكومة والمعارضة، وديمقراطيتنا ولدت بساق واحدة، هي الحكومة التي يتكالب عليها الجميع، ولايقتنع احد بالجلوس في مقاعد المعارضة ليمارس دوره الحقيقي في البرلمان عبر مراقبة الاداء الحكومي.
عندما شرعت الولايات المتحدة في رسم مستقبل عراق ما بعد صدام، كان التخبط واضحاً في خططها، وهذا ما لمسناه في تعيين ضابط متقاعد كحاكم مدني للعراق هو (جي غارنر)، الذي لم يستمر في مهمته سوى اسابيع ليزاح من موقعه ويتم تعيين السفير المتقاعد (بول بريمر) في هذه المهمة، وقد قرأ المراقبون هذه الحركة حينها بأنها انتصار لجناح وزارة الخارجية و الـ(سي آي إيه) على جناح البنتاغون في فرض رؤية جناح على آخر ضمن الصراعات الداخلية في ادارة الرئيس بوش في موضوع ادارة العراق، وكان لهذا الصراع ونتائجه انعكاسه على القوى العراقية على الارض، حيث كانت النتيجة ازدياد اسهم اياد علاوي المقرب من جناح الخارجية المنتصر وتراجع دور أحمد الجلبي القريب من جناح البنتاغون، وهذا بدوره ادى الى تشكيل الحكومة المؤقتة بقيادة إياد علاوي التي كانت مهمتها التهيئة لكتابة الدستور واجراء الانتخابات البرلمانية التي ستفرز الحكومة المقبلة، وكان علاوي مطمئناً لقوته في الشارع العراقي كشيعي ليبرالي مقبول من الشركاء السنة والاكراد، وان احتمالية فوزه برئاسة الحكومة عالية جداً، لكن ما حدث سحب البساط من تحت قدمه.
منذ الانتخابات الاولى التي فاز بها الائتلاف الشيعي المكون بشكل رئيس من المجلس الاعلى وحزب الدعوة وبعض التيارات الصغيرة المكونة من الاسلاميين الشيعة، وتم تكليف الجعفري بتشكيل الحكومة ومعها ولدت فكرة الحكومة الائتلافية التي يجب ان يمثل فيها كل الفرقاء السياسيين، وبالتالي باتت الكتل تتحكم بالوزارات التابعة لها وولدت فكرة تقاسم احزاب العملية السياسية كعكة المناصب، على ان يكون رئيس الحكومة شيعياً ورئيس البرلمان سنياً ورئيس الجمهورية كردياً، ومع كل منصب من المناصب الثلاثة يوجد نائبان من المكونات الاخرى لإكمال الشكل او الديكور السياسي، لتولد تجربة فريدة من نوعها في العالم تشارك فيها كل الاحزاب في الحكم، كما تراقب كل الاحزاب اداء الحكومة عبر كتلها في البرلمان، لتكون النتيجة الطبيعية تخادم كل هذه الاطراف الأمر الذي أوصل البلد الى حالة من الفساد غير مسبوقة عالمياً، وقد يذكر البعض ان هنالك بلداناً فيها حكومات ائتلافية نتيجة عدم قدرة الاحزاب السياسية على الحصول على الاغلبية لوحدها، ومثال ذلك الاوضح هو إسرائيل التي لم تحكمها حكومة من حزب واحد على مدى معظم تاريخها، لكن هنا يجب ان نتوقف وننظر بعين فاحصة الى ما يجري.
في الحكومات الائتلافية يتم تكوين ائتلاف حاكم من مجموعة من الاحزاب تتقارب وجهات نظرها او تقدم برنامجاً سياسياً للناخب تعده بتحقيقه، وفي الوقت نفسه يقوم حزب او كتلة سياسية اوائتلاف برلماني بتشكيل المعارضة البرلمانية او ما يعرف في بعض البلدان بحكومة الظل التي تمارس سلطاتها الدستورية عبر البرلمان وتراقب اداء السلطة التنفيذية، ليس من اجل البحث عن مزالق او هفوات لاسقاط الحكومة عبر طريقة التسقيط السياسي وانما ما يحكم عمل الحكومة والمعارضة هو معيار وحيد يتمثل في (المصلحة العامة) وخدمة الشعب، فلماذا لم يتم تنفيذ هذه التركيبة في العراق؟ الكل كان يعرف ان الاحزاب المقبلة من الخارج ومعها الاحزاب او التكتلات التي ولدت في عراق ما بعد صدام لم يكن لها ثقل سياسي في الشارع، لذلك تنافست أغلب الاحزاب وبضراوة للحصول على حصتها من المناصب الحكومية، لانها بذلك تحصل على التمويل وتؤثر في الشارع من خلال دعاية سياسية قائمة على رشوة المريدين بمناصب وتعيينات في الوظائف الحكومية حتى اثقلت كاهل الحكومة وتضخم حجم الكادر الحكومي من 2003 – 2016 بنسبة 500%، كما ان من يمسك بالمناصب الحكومية سرعان ما يحولها الى اقطاعيات حزبية وطائفية ومناطقية وقبلية، وفي هذه الحالة ينتشر الفساد والمحسوبية في كل مفاصل الجهاز الحكومي، ويصبح الكل فاسداً او ملوثاً بالفساد او ساكتاً عنه نتيجة تشابك المصالح وتخادم الفاسدين.
وربما كانت ولايتا الرئيس نوري المالكي اوضح نموذج لتخادم الفساد السياسي واستخدام النفوذ والضغط على الكتل السياسية نتيجة غياب المعارضة الحقيقية، ففي انتخابات 2010 التي شابتها مشكلة دستورية تمثلت بفوز كتلة «العراقية» بقيادة اياد علاوي في الانتخابات لكن وبالتفاف دستوري من قبل كتل المجلس الاعلى ودولة القانون ادت لتشكيل الكتلة الاكبر ومن ثم تشكيل الحكومة بعد تعثر استمر لحوالي عشرة اشهر إثر ما عرف باتفاق أربيل في آب/اغسطس 2010 والذي اقر فيه المالكي والبارزاني وعلاوي ما يلي: اعتماد خارطة طريق لتشكيل الحكومة الجديدة وكما يلي: أـ السيد جلال الطالباني رئيساً للجمهورية.ب ـ السيد نوري المالكي رئيساً للوزراء.ج ـ يكون منصب رئيس مجلس النواب لـ»العراقية» ورئيس المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية للدكتور إياد علاوي، وهنا اهدرت فرصة ثمينة كان ممكناً ان تلعب فيها «العراقية» دور المعارضة البرلمانية بكفاءة تنقذ العملية السياسية، لكن النتيجة كانت ان هذا الاتفاق لم يتم الالتزام به، وأصبح ديدن رئيس الحكومة تجميع ملفات الفساد على كل الفرقاء السياسيين وتهديدهم بها كلما تحركوا لاداء دورهم الرقابي في البرلمان.
نتيجة لتأثر الشارع العراقي بما عرف بالربيع العربي، ابتدأ حراك شعبي معارض في الشارع العراقي، ربما كانت اهم مميزاته انه كان خارج اطار احزاب السلطة، وخرج الالاف من الشباب في تظاهرات واعتصامات في شباط/فبراير 2011، وقد واجهت القوات الامنية هذه المظاهرات بعنف مفرط وقادت احزاب الحكومة وبعض ميليشياتها حملة ترهيب ضد القياديين والناشطين الذين تم اغتيال بعضهم مثل الناشط هادي المهدي دون ان يصل التحقيق الرسمي للجناة. وهنا كان السؤال الذي طرحه المراقبون: لماذا لم تؤطر الاحزاب التي لم تشترك في العملية السياسية الحراك المدني لتنظمه وتوجهه لتحقيق مطالبه من نخبة سياسية فاسدة؟ وقد كانت هنالك احزاب عرف عنها بأنها تمتلك قوة في الشارع العراقي مثل الحزب الشيوعي وبعض الاحزاب الليبرالية والقومية مثل الحركة الاشتراكية العربية والتيار الديمقراطي وحزب الامة العراقية وغيرها من الاحزاب الصغيرة التي لا تستطيع الوقوف منفردة بوجه احزاب الحكومة، فلماذا لم تشكل كلها كتلة شعبية ظاغطة على الحكومة وأحزابها؟
كما ولدت تمردات من نوع آخر تشوبها في الاعم الاغلب الصبغة الطائفية في ما عرف بساحات الاعتصام ومنصاتها الشهيرة في المحافظات السنية الاربع (الانبار، صلاح الدين، الموصل وديالى) والتي تركتها الحكومة دون حل حقيقي او تفاوض مع ممثليها لمعرفة مطالبهم، وفي الوقت نفسه اصبحت مناطق هذه الاعتصامات ملاذاً آمناً للتيارات المتطرفة وعاد تنظيم القاعدة والتيارات المتحالفة معه ليجد له قبولاً بين صفوف المحتجين، حيث ظهرت رايات القاعدة في منصات الاعتصام، لتصل النتيجة الى كارثة سقوط المحافظات الاربع بيد تنظيم داعش الارهابي عام 2014.
ونتيجة سوء الخدمات وفقدان الامن تحرك الشارع العراقي مرة اخرى في 31 تموز/يوليو 2015 في ساحة التحرير في بغداد في حراك جماهيري كاد ان يطيح الحكومة والبرلمان بل والعملية السياسية برمتها، مما جعل الطبقة السياسية تناور وتلعب على عواطف الشارع المتأججة عبر طرح اوراق الاصلاح، واصبح كل الفاسدين في العملية السياسية بين ليلة وضحاها مطالبين بالاصلاح ورموزاً له، حتى وصل الحال الى ان يعتصم نصف نواب البرلمان في برلمانهم ويعلنوا ولادة جبهة الاصلاح بعد ان اعلنوا عن فك ارتباطهم بكتلهم واحزابهم واصبحوا نواباً يمثلون الشعب، واقالوا بحركة مسرحية رئيس البرلمان وطالبوا بإقالة رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وفي غضون اسابيع تكشف ان هنالك سيايين يمسكون بخيوط اللعبة ويحاولون تحريكها لصالحهم، وليستفيق الشارع على لاشيء، ولتعود الكتل للجلوس على مقاعدها تمارس دورها المقيت مرة اخرى. فهل ستولد كتلة معارضة حقيقية في الانتخابات المقبلة لتصلح ما فسد من ديمقراطيتنا العرجاء؟ أشك في ذلك لان هذه النخبة قدمت كل ما لديها وكان فاسداً من أوله الى آخره.
كاتب عراقي
صادق الطائي