أتذكر كثيرا هذه الأيام العزيز الراحل الدكتور محمد السيد سعيد، الباحث في العلوم السياسية والمناضل الحقوقي المصري الذي رحل عن عالمنا في 2009 (ولد الدكتور سعيد في 1950) بعد أن أثرى بإسهامات أكاديمية وصحافية غزيرة النقاشات المصرية والعربية حول قضايا الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والديمقراطية. أتذكر فكره الحر المتحدي للمستبدين والمدافع عن حقوق الإنسان والرافض للتمييز وإنسانيته اليسارية الحالمة بمصر عادلة وعالم عربي متقدم، وأقارنهما بواقعنا الراهن الذي يحبط به الاستبداد آمال التحول الديمقراطي وينتهك به الجهل والتطرف والفقر كرامة المواطنين.
كان للدكتور سعيد قدرة فائقة على طرح قضايا حقوق الإنسان على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، دامجا في هذا السياق التحليل التفصيلي لوضعية حقوق الإنسان في مصر مع ملاحظات نقدية ومنظمة حول حالة الحركة الحقوقية العربية ككل وكذلك حول أدوار القوى الخارجية والمؤسسات الدولية. كتب العزيز الراحل راصدا التطور التاريخي للحركة الحقوقية العربية ورعيلها الأول المتمثل في جيل الأربعينيات والخمسينيات ثم رعيلها الثاني، جيل السبعينيات، الذي عاد له الفضل في مأسسة الحركة في شكل جمعيات ومنظمات مدافعة عن حقوق الإنسان على امتداد المجتمعات العربية (ولجيل السبعينيات انتمى الراحل). وعلى الرغم من أن كتابات الدكتور سعيد حول الحركة الحقوقية العربية تعرضت لمعضلاتها الكبرى وفي مقدمها غياب الإنجاز في ظل هيمنة الاستبداد وإخفاق الحركة بجمعياتها ومنظماتها في إكساب قضايا حقوق الإنسان الجماهيرية التي تستحقها وتحتاجها للتحول إلى قوة ضاغطة على نخب حكم غير راغبة في إشراك المواطنين في إدارة الشأن العام ورافضة لاحترام الحريات كامل حقوق الإنسان وحرياته، إلا أنه أبدا لم يتجاهل الإشارة إلى القليل من الإيجابيات التي تحققت في بعض المجتمعات العربية. وارتبطت أبرز تلك الإيجابيات في قراءته بالتوعية العامة التدريجية بحقوق الإنسان وإدراك العلاقة السببية بين انتهاكات حقوق الإنسان وبين استمرار تعثر الديمقراطية والتنمية.
ذات المزيج في الطرح بين النقد الكاشف والواقعية الموضوعية ميز الكتابات التي تناولت أدوار القوى الخارجية والمؤسسات الدولية في الدفع نحو أو في تعويق تطور حقوق الإنسان في العالم العربي. ركز الدكتور سعيد على كارثة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وانتهاكات سلطات الاحتلال الواسعة لحقوق الإنسان الفلسطيني وتواطؤ الغرب بقيادة الولايات المتحدة مع تل أبيب بحمايتها من تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي انتصرت لحقوق الفلسطينيين. بيد أن توجيه النقد المشروع للغرب على تواطئه مع إسرائيل وكذلك لازدواجية معاييره في التعاطي مع مجمل قضايا حقوق الإنسان في العالم العربي الذي يربطه بحكامه المستبدين مصالح إستراتيجية وسياسية واقتصادية، لم يحل دون انتصار الراحل على نحو مبهر فكريا وسياسيا لمعنيين ساميين لحقوق الإنسان على الصعيد الدولي. المعنى الأول هو القيمة الكبرى لمبادئ حقوق الإنسان التي تحويها المواثيق والعهود الدولية ودورها في صياغة ضمير البشرية وتثبيت النضال من أجل حقوق الإنسان كمشترك أعظم بين شعوب الأرض المختلفة، والمعنى الثاني هو قيمة الرأي العام العالمي الذي اعتبره الدكتور سعيد يتطور ليدرك مأساة ازدواجية المعايير التي فرضت انتهاكات مفزعة على العرب في فلسطين وفي بلدان أخرى وأعطت إسرائيل وآلتها العسكرية حماية لا تستحقها. أكمل الراحل العزيز أيضا، بصفاء ذهني وجراءة فكرية كان يحسد عليهما، انتصاره لمبادئ حقوق الإنسان في العالم العربي حين تناول أبعادها الإقليمية والدولية. فرفض عسكرة الدفاع عن حقوق الإنسان في فلسطين، وطالب باعتماد إستراتيجيات وأدوات الكفاح السلمي والنضال المدني، وطوع هنا مفهوم «الأنسنة» ليطالب بالتزام حركات مقاومة المحتل بالسلمية.
أما لجهة الاهتمام بالأبعاد الداخلية لقضايا حقوق الإنسان، فتكشف كتابات الدكتور سعيد عن تحليل عميق للشأن المصري وإن لم يقتصر عليه. فقد حمل نخب الحكم وأجهزتها الأمنية في دول كمصر والأردن والجزائر والمغرب مسؤولية انتهاكات حقوق الإنسان وإلغاء حريات المواطنين، واصفا ذلك بالأداة المركزية لضمان استمرار هيمنة تلك النخب على مقدرات مجتمعاتها. كما أشار إلى أن مجمل الدول العربية تعاني من تهافت تفعيل الضمانات الدستورية والقانونية لحماية حقوق الإنسان، إما لتغول الأجهزة الأمنية أو لحالات الطوارئ المعلنة والمعمول بها منذ أعوام إن لم يكن عقود أو لغياب السلطات التشريعية والقضائية المستقلة والعجز من ثم عن ممارسة أعمال الرقابة والمحاسبة على نخب الحكم. وفي الشأن المصري، فند أسباب الإخفاق في التحول نحو الديمقراطية وضمان حقوق الإنسان على الرغم من عراقة الدولة واستقرار الهوية الوطنية بمجتمعها. فتناول بالتحليل البيئة التشريعية والقانونية المقيدة للحريات ولحقوق الإنسان، وفصل في شرح معوقات المنافسة السياسية المتمثلة في هيمنة النخبة وفساد قوانين الانتخابات وتلاعب الأجهزة الأمنية بها. وفي حين ساعدته مطالبة القضاة المصريين قبيل 2011 باستقلال الجهاز القضائي عن السلطة التنفيذية على التذكير بأولوية التوازن والرقابة بين السلطات، حذر قوى المعارضة الفاعلة آنذاك من الانسياق وراء سياسة فرق تسد الحكومية التي برعت في ضرب الليبراليين باليسار واليسار بقوى الإسلام السياسي. أيضا بحث الدكتور سعيد في وضعية النقابات العمالية والمهنية التي فقدت استقلالية دورها بسيطرة السلطة التنفيذية عليها وإدارتها من قبل الأجهزة الأمنية، ووظائف حركات ومنظمات المجتمع المدني بما فيها جمعيات حقوق الإنسان البعيدة عن التأثير المباشر في الجماهير والعاجزة من ثم عن توليد ضغط شعبي يطالب بالتحول الديمقراطي، وتداعيات كل ذلك على حال السياسة والمجتمع.
على كل هذه الأصعدة حاول العزيز الراحل بنضاليته التي لم يساوم عليها أبدا تجاوز حدود تحديد وتوصيف أسباب التعثر باتجاه التفكير المنظم في استراتيجيات وسبل العلاج. بحث في دور تعليم مستند إلى قيمة المعرفة العلمية والنقد الذاتي في بناء جيل مصري يؤمن بالديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، وناشد قوى المعارضة التوافق على أجندة وطنية للإصلاح الدستوري والسياسي والكف عن التناحر فيما بينها وتبني قيم مواطنة الحقوق المتساوية ونبذ التمييز ثم الضغط على نخبة الحكم من أجل تطبيق الإصلاح المأمول. وواقع الأمر أن دعوته إلى دفع مصر نحو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان شكلت في جوهرها المعرفي والفكري دعوة لإنقاذ السياسة والمجتمع والدولة من السلطوية الجاثمة التي أفرغتها من حيوية الحاضر وباعدت بينها وبين تفاؤل المستقبل. نعم أدرك العزيز الراحل الأولوية المطلقة للتداول السلمي للسلطة ومواجهة تغول الأجهزة الأمنية والمشاركة الشعبية في انتخابات نزيهة، إلا أن كل ذلك كان بمثابة علامات كبرى على الطريق الذي اختطه عقله ووجدانه لاستعادة إنسانية السياسة والمجتمع والدولة في مصر والتأسيس لمجتمع المواطنين العادل والمتقدم.
حمل الدكتور سعيد للنقاش حول حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي بحثه الذي لم ينقطع عن سبل النهوض والتقدم، وترك بناءه الفلسفي والفكري يرشد كتاباته وأعماله وبها مزج القناعة الليبرالية بأولوية الحق والحرية والديمقراطية بالتزام ابن اليسار المصري والعالمثالثي بالدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنين دون تمييز. وأبدا لم يغير الدكتور سعيد تموضعه المزدوج كناشط يناضل سلميا من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية ومثقف يسعى لنشر مبادئها والتدبر في سبل تجاوز تعثرها على المديين القصير والطويل. والحصيلة هي تراث رائع ومعين لن ينضب من الكتابات والأعمال خيطه الناظم هو الدعوة للنضال السلمي من أجل حقوق الإنسان والديمقراطية كسبيل وحيد لأنسنة السياسة والمجتمع في مصر والعالم العربي.
وما أحوج الحركة الديمقراطية المصرية والعربية اليوم لإعادة قراءة تراث الراحل العزيز والمناضل الحقوقي المحترم، والاسترشاد به لفهم أسباب إخفاق الانتفاضات الشعبية في القضاء على الاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان هنا واستحالتها إلى معاول لتدمير تماسك المجتمعات والدول هناك. رحم الله الدكتور محمد السيد سعيد.
٭ كاتب من مصر
عمرو حمزاوي
مقال تحليلي كاشف ورائع عن الدكتور محمد السيد سعيد .
مع الشكر أستاذ عمرو حمزاوي
تحيه للكاتب و الذكري الخالده للدكتور محمد السيد سعيد المفكر و المناضل السياسي.
تحية لروح د.محمد سيد سعيد
وعزاءا لما آلت آلية احوالنا