يوم اندلعت، في مناخ الثورة الروسية الأولى آنذاك، الصدامات الدموية بين الأرمن والآذاريين في شباط 1905 في مدينة باكو، واشتعل قسم من حقولها النفطية، وامتد التذابح إلى نخشوان ويريفان وتفليسي، كانت باكو كوزموبوليتية بامتياز، ليس لأي قوم فيها أكثرية مطلقة. كان الآذاريون أكثر قليلاً من الأرمن فيها، لكنهم يأتون في الدرجة الثانية من حيث العدد من بعد الوافدين اليها من أنحاء الامبراطورية الروسية كافة.
الوجود اليهودي في المدينة كان وازناً أيضاً، لكن التعددية الإثنية كانت تتسع للجيورجي والكردي والفارسي والبولوني وسواهم. يريفان نفسها التي ستتحول إلى عاصمة لأرمينيا الباقية أو المتبقية بعد ضياع أرمينيا الغربية (الأناضولية) وأرمينيا الصغرى (كيليكيا) كانت نسبة سكانها من الآذاريين لا تقل عن الأربعين بالمئة في مطلع القرن الماضي. أما تفليسي، عاصمة جيورجيا، فكان العنصر الأرمني فيها يتفوق عدداً على العنصر الجيورجي.
الفرز كان مريراً، وتطلب دماً سخياً، وحججاً أيديولوجية عديدة، ولاعبين سياسيين متلونين بامتياز على مر العقود. عندما يتجدد الاشتباك في ناحية من اقليم ناغورنو كاراباخ اليوم، فهذه فرصة للتأمل كم أن الفرز بحد ذاته كان عملية جهنمية قدر ما هي ناجحة جنوب القوقاز، وكم أنه ممتنع التكرار بهذا الشكل في إيران، التي تحتفظ بطابعها الامبراطوري الداخلي بفضل «القومية الدينية».
اندرجت صدامات 1905 – 1906 بين الأرمن والآذاريين في سياق الثورة الروسية الأولى، وعبّر من خلالها القوميون الثوريون الأرمن «الطاشناق» عن فعالية تنظيمية صاعدة. يومها لم تكن الاشارة إلى الآذاريين بالاسم قد انتشرت بعد. كانت التسمية الغالبة عليهم هي انهم من «التتار»، وتتار القوقاز تمييزاً لهم عن تتار القرم أو الفولغا.
شكلت هذه الصدامات محطة مفصلية في تشكل الوعي المستقل لتتار القوقاز، وسهّل صعود «تركيا الفتاة» في الآستانة السبيل اليهم، لتجاوز الحاجز المذهبي الشيعي السني، باتجاه الطرح الطوراني. هذا في وقت كانت آذربيجان الأخرى، آذربيجان الجنوبية، التي بقيت جزءاً من الامبراطورية القاجارية بعد تقهقرها أمام التمدد الروسي، تعيش مساراً آخر. منذ القرن التاسع عشر، ومعاهدتي كلستان وتركمنجاي، ارتسم نهر آراس فاصلاً بين آذاريي امبراطورية آل رومانوف («تتار الفولغا) وبين آذاريي الامبراطورية القاجارية («أتراك إيران»)، وفي مطلع القرن العشرين ستتحول تبريز إلى مركز الثورة الدستورية، «المشروطة»، التي ستطيح بالامبراطورية القاجارية، لتنتهي الأمور من ثم في أيدي البونابرتي من آل بهلوي، يريد بناء دولة أمة تفرض تجانسها الثقافي واللغوي الفارسي بشكل قسري، أي بخلاف تطلعات الاستقلال الثقافي لآذربيجان الإيرانية، لكن أيضاً بمعونة رواد آذاريين لهذه القومية الإيرانية الحديثة، مثل ميرزا فتعلي آخونزاده، الذي حاول قدر المستطاع تجذير القومية الإيرانية الحديثة في أصول واحالات ما قبل إسلامية، ان لم تكن سلبية تجاه الإسلام.
كثير من التبسيط والاختزال يهب علينا إعلامياً كلما عاد الصراع الأرمني الآذاري إلى الواجهة، أو كلما جرى التطرق إلى العلاقة بين إيران وآذاربيجان المستقلة، أو إلى المسألة الآذارية في الداخل الإيراني.
صحيح ما يستنتجه البعض من ان الصراع أعقد من رده إلى مبدأ ديني ينظمه، ما دامت الجمهورية الإسلامية أقرب سياسياً لحكومة أرمينيا منها إلى حكومة آذربيجان. لكنها صحة لا تلبث أن تفسد حين يعجز المسوّقون لها عن ادراك الطابع المركب للوجود الآذاري، بل للوجه الآذاري لإيران، فعلاوة على ان أربع ولايات إيرانية تشكل آذربيجان الجنوب، ينتشر الآذاريون في مناطق كثيرة أخرى من إيران، ويشكلون بين ربع وثلث سكان العاصمة طهران، كما أن المرشد علي خامنئي نفسه آذربيجاني على الصعيد الاثني. آذاريو إيران يتراوحون بين 12 و22 مليون نسمة، أما الأرمن في إيران فحوالي 200 ألف نسمة، يتركز القسم الأكبر منهم في آذربيجان الإيرانية نفسها، وبالذات في تبريز.
منذ عقود، ثمة من لا يكف يراهن على نظرية «تفكيك» الداخل الإيراني انطلاقاً من المسألة الآذارية، لكن المعطيات الآنفة الذكر، والوقائع الجارية لا تعطي صكاً جدياً لهكذا رهان. فالانتماء غير محصور بين ثنائية «قومية وطنية ما فوق اثنية» أو «اندماجية مبعثرة للاثنيات» وبين «قومية اثنية». ثمة أيضاً، من البلقان إلى شبه القارة الهندية، متسع لما يمكن الاصطلاح على تسميته بـ»القومية الدينية»، في نماذج متعددة ومختلفة (كولاية الفقيه الخمينية في إيران والهندوتفا أو الهند للهندوس)، وهذه القومية الدينية الإيرانية مستقرة إلى حد كبير في آذربيجان إيران، وتحاول تطويع القومية الاثنية الآذارية الصرف، وعدم خنقها في نفس الوقت. هذا بخلاف تصادم الشاه رضا بهلوي وابنه مع منطقي القومية الدينية الجامعة والقوميات الاثنية الاقليمية في مسعى لفرض قومية امبراطورية في نطاق الدولة الأمة. القومية الدينية تحفظ بدلاً من ذلك الطابع الامبراطوري المتداخل مع منطق الدولة الأمة والمتجاوز لها (بخلاف النظرية الخرقاء التي ترى إلى الدول الأمم كمرحلة تاريخية تلغي الامبراطوريات كلياً، فالأجدى النظر للأبعاد الامبراطورية للدول الأمم الكبيرة والمتوسطة الحجم عبر العالم).
القومية الدينية هي الحاجز بين آذاربيجان الجنوبية، الإيرانية، وبين آذاربيجان المستقلة، السوفياتية السابقة، الشمالية، الملتزمة بنوع آخر من القومية، اثني بشكل محموم، وعلماني بالشكل الذي يروق للسلالة والأوليغارشية الحاكمتين، لكنه يحتفظ بصلتي وصل بالهوية الدينية.
اولاً من خلال المواجهة مع الأرمن. بقطع النظر عن موقف إيران في الصراع هذا، فهو صراع يستدعي عصب الانتماء الديني ارمنياً وآذارياً، خصوصاً انه في الحالة الأرمنية، نحن أمام نموذج من بين نماذج عديدة لتحول ملة دينية لغوية إلى رابطة قومية (بخلاف النموذج الجيورجي مثلاً، المعتمد التبلور القومي فيه على الطابع الكثيف نسبياً للأرستوقراطية الجيورجية، فان القومية الأرمنية الحديثة هي بنت الكنيسة الأرمنية العابرة للقرون).
وثانياً من خلال الرابطة الطورانية بالشكل المعاد احياؤه عام 2009 من خلال «المجلس التركي» الذي عاصمته الادارية اسطنبول (لا انقرة)، ومركز مجلسه البرلماني باكو، ومركز اكاديميته استانا، بكازخستان. و»شورى الترك» هذه تعبر على طريقتها عن طبيعة التداخل بين التوجهين الإسلامي والتركوفوني لحكومة «العدالة والتنمية». هذه الرابطة الطورانية الجديدة ليست دينية بشكل مباشر، لكن انكار بعدها الديني، المنطلق من اعتبار الجامعة الإسلامية والجامعة الطورانية متلاقيتين في الصميم خاطئ أيضاً.
في العقد الأخير من الزمن السوفييتي، لم ينفجر فقط الصراع على اقليم ناغورنو كاراباخ. ارمينيا هجرت اقليته الآذارية وتحولت إلى اكثر الجمهوريات السوفياتية السابقة صفاء عرقياً. اذاربيجان هجرت اقليتها الارمنية ورفعت من معدل الصفاء العرقي. جمهورية نخشوان / نخشتيفان ذات الحكم الذاتي غير الموصولة ترابياً بآذاربيجان هجرت كل أرمنها أيضاً. سيطرت ارمينيا على جيوب اربع كانت تتبع سيادياً لآذاربيجان. الفرز الاثني حقق كماله، يمكن القول. ومع الفرز الاثني، أعاد الحكام فرز الذاكرة: فكومونة باكو الذي كان يحتفل بها حيدر عالييف كثورة بروليتارية أممية رائدة بقيادة الأرمني ستيبان شاهوميان «لينين القوقاز»، في مواجهة حزب «المساواة» الآذاري الشوفيني، العثماني الهوى، عاد ليصنفها ابادة عرقية ارمنية بلشفية طاشناقية مشتركة ضد أبناء جلدته، في الزمن ما بعد السوفياتي، وورث هذا التصحيح لابنه الملهم.. الهام، على رأس الجمهورية الوراثية.
من يصدق بعد كل هذا أن جيلاً من الرواد الثوريين عمل في باكو ويريفان وتفليسي قبل قرن من تاريخه من أجل بناء متحد ترنسقوقازي يصون التداخل بين القوميات؟
ذات مرة كان.. ستيبان شاهوميان!
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
مقالاتك استاذ وسام مفيدة ودسمة دائما بل اعتبرها الأميز في القدس العربي ولكن لي رجاء ان تترك بعض المجال لتوضيح بعض المفاهيم والمصطلحات وحتى الكلمات الدلالية من خلال وضع تفسير لها في هامش المقال لتكتمل الفائدة
شكر جزيلا أخي وسام كنت متشوقا لقراءة المقال لكي افهم ” التلفقيات” الإعلامية أو قل الأخبار المطروحة على هذا المزاج أو ذاك التي تدخل إلى عقولنا دون تحليل ولا تدقيق بسبب النقص في معلومتنا عن هكذا مواضيع. للأسف مرة أخرى تدور الأيام دون أن نُخرج رؤوسنا من لتاريخ وطبعا أقصد نحن بني البشر