كم يبدو المشهد مخيفاً في دلالاته.
مشاهد النازحين من غوطة دمشق، الذين يحاصرهم انكسار الروح ويحيط بهم الموت والخراب، تبدو وكأنها انتقام من مشاهد التظاهرات التي امتلأت بها شوارع المدن والبلدات السورية منذ سبع سنوات مطالبة بالحرية والكرامة.
نحن لسنا أمام كارثة سياسية فقط، بل نحن أمام كارثة أخلاقية أيضاً.
هزيمة الشعب وكسره وتهشيم صورته هي أكثر فداحة من هزيمة أي جيش.
حتى تلك المشاهد المروعة للجنود المصريين الهائمين في رمال الصحراء في حزيران ـ يونيو 1967، لا تقارن بصورة طفل من الغوطة، يخرج من بلدته مطأطأ الرأس مجبراً على حمل صورة الديكتاتور الذي أمر بهدم الغوطة على رؤوس أهلها.
المسألة لم تعد تتلخص في البحث عن مهزوم ومنتصر، أو في تحليل الآلة الجهنمية التي يقودها الروس والايرانيون والأتراك، أو في قراءة دلالات التوازي بين سقوط الغوطة وسقوط عفرين كأن المأساة في الحالتين جزء من صورة واحدة يتناوب المحتلون والمرتزقة والعملاء على رسمها، أو في قراءة المواقف السياسية الدولية والاقليمية، التي تقاطعت على مسألة ضرورة تدمير إرادة الشعب السوري.
المسألة تتجاوز أي تحليل، فالشعب السوري لا يواجه حرباً بل يواجه مجزرة.
والسوريات والسوريون لا يعيشون صراعاً سياسياً بل يعيشون نكبة شاملة.
الصراع مع نظام الاستبداد لم يكن صراعاً من أجل مطالب أو اصلاحات، بل كان صراعاً من أجل الهواء والحرية.
وردة فعل آلة القتل لم تكن تعبيراً عن موقف سياسي، بل كانت قراراً بأن يبقى العبيد في قيودهم، واذا انتفضوا فيجب محاصرتهم بالموت والاذلال والتهجير.
ليس صحيحا القول انها حرب الآخرين في سوريا، لأن اسمها الحقيقي هو حرب الآخرين على الشعب السوري.
والآخرون ليس إسماً غائماً، الآخرون هم آلة مافيا عسكرية صماء، لا هدف لها سوى البقاء في السلطة، وتحويل الجمهورية إلى سلطنة وراثية.
كل الكلام الايديولوجي من أية جهة أتى كان كذباً ومحاولة لتبرير ما لا تبرير له.
من الممانعة التي ليست سوى غطاء للطائفية، إلى الخطاب الإسلاموي الذي ليس سوى غطاء لرعب أنظمة النفط من احتمالات الحرية.
يقولون ليتها لم تكن، وهم يقصدون الانتفاضة الشعبية التي اشتعلت منذ سبعة أعوام في درعا ودمشق وامتدت إلى كل سوريا.
كأن الانتفاضة التي خرجت من أعماق الألم لم تكن صرخة حياة بحثاً عن حرية هي حق كل انسان على وجه الأرض.
ربما أخطأ الشعب السوري، وكانت خطيئته انه حلم بالحرية، نعم أخطأ السوريون، لأنهم اعتقدوا أن جيش بلادهم لن يقتلهم، ثم توغلوا في الخطأ حين صدقوا بسذاجة أن هناك رأياً عاماً عربياً ودولياً يدعم قضية حريتهم.
أهل الغوطة ومن قبلهم أهل حمص وحلب، صدقوا أن الحق ينتصر لأنه حق، ولأن حقيقة الاستبداد واضحة كالشمس.
لكن يبدو أن شمس الحقيقة في بلادنا أصابها الكسوف من زمان.
كان مصيرنا يتأسس في المذبحة التي رفضنا أن نرى مقدماتها، لم نفهم أن اغتيال كمال جنبلاط وحركته الوطنية والتجرؤ على المقاومة الفلسطينية كانا إعلاناً بتأسيس رسمي وعلني لنظام الموت.
كانت مقدمات هذا الموت في كل مكان من تل الزعتر إلى حماة ومن سجن تدمر إلى وضع كل البلاد في «قوقعة» التعذيب.
كنا نرى ولا نصدّق.
صدّقنا الكلام الكاذب ولم نصدّق عيوننا.
واليوم تكتمل المذبحة.
شعب يطرد من أرضه تحت وابل الرصاص والبراميل والقذائف ويخرج إلى التيه في بلاده أو في أرض باتت ترتعد خوفاً من اللاجئين.
شعب الغرباء الذين غرّبهم الوحش الذي قرر أنه صار لا أحد.
هذا اللاأحد سلّم بلاده للمحتلين لأنه يكره شعبه ويحتقره ولا يريد له سوى العبودية.
لكن اكتمال المذبحة في الغوطة لا يعني أن حرب اقتسام البلاد وتفتيتها انتهت.
فالحرب سوف تستمر إلى أن يملّ طغاة الأرض من دم السوريات والسوريين، أو إلى أن يخافوا من توحش بعضهم على بعضهم الآخر.
مع سقوط الغوطة بدأت الحرب على جثة سوريا وعلى أشلاء شعبها، وهي طويلة ووحشية وبكماء.
حرب استهلكت كل الكلمات، فصار الخطاب السياسي الذي يحمله المنتصرون بلا معنى، لأنه لا يُترجَم إلا نهباً وتشريداً واذلالاً واستباحة.
ومع سقوط سوريا سقط المشرق العربي برمته، وعادت المنطقة إلى الزمن الاستعماري الذي أسسه الانقلاب العسكري الذي قام بتفتيت المجتمع الى طوائف وملل ونحل وعشائر، بحيث فقد المجتمع مناعته السياسية، وحين انتفض بحثاً عن كرامته لم يستطع أن ينتج قيادة تستطيع أن تعبر به عواصف التاريخ ووحوله، وتم تزوير إرادته في متاهات ممالك النفط والعتمة.
لكننا ونحن نعيش ما بعد اليأس، نعرف شيئاً واحداً، هو أن علينا أن نرى في العيون المنكسرة لأطفال سوريا الخارجين إلى التيه، علامات حياة لن يستطيع الطغاة إطفاءها.
لهذه العيون ننحني وتنحني معنا لغة العرب.
الياس خوري
” بل كانت قراراً بأن يبقى العبيد في قيودهم، واذا انتفضوا فيجب محاصرتهم بالموت والاذلال والتهجير. ” إهـ
ومع هذا نجحت الثورة السورية المباركة في ثلاث :
الأولى بتحدي النظام وإسقاط هيبته
والثانية بهزيمة الأسد سنة 2012 !
والثالثة بإستمرار هذه الثورة إلى الآن
ولا حول ولا قوة الا بالله
الثورة في سوريا برأيي انتصرت، وحققت أهدافها العميقة، الضمنية، على الرغم مما يبدو ” ظاهراً” بأنها هزمت. كيف ؟
1- أعادت الجماهير إلى ساحة الفعل العام، وإن بأثمان باهظة، وبأطر سياسية غير كفوءة، وهذا أسبابه مفهومه، لعل أهمها غياب الحياة السياسية مدة نصف قرن.
2- هشمت تنظيم بشار الأسد الإرهابي وكشفت تقيحه، واهترائه الداخلي.
3- أعادت طرح سؤال الهوية وأظهرت زيف واستعجال الإجابات عنه.
4- بينت العجز والعقم التاريخي لحركات الإسلام السياسي على اختلاف تنوعاتها – المعتدلة وغير المعتدلة – ليس في سوريا فقط بل على مستوى المنطقة برمتها، أي أن فعلها التهشيمي للاستبداد لم يقتصر على الاستبداد الراهن الملتحف بعباءة الإيديولوجية الشمولية القومية، بل امتد ليشمل الاستبداد المستقبلي – المحتمل، الذي يرتدي رداء الإيديولوجية الدينية.
5- ما سبق ذكره اقتصر على التأثيرات المحلية السورية وعلى جوارها الإقليمي، لهذا لا ينبغي أن نغفل عن التأثيرات على المستوى الأكبر، وهي تحديداً تعرية الثورة السورية لحالة البشرية برمتها، أخلاقياً وسياسياً، على مستوى الأفراد والمؤسسات والتجمعات.
الى حسن
انتصار الثورة لم تراه ام سقط رضيعها في بحر اليونان من مركب مكتظ بالهربين من الانتصار
على الأقل كشفت الاستبداد العربي (بكل أشكاله أي التطرف الاسلامي أيضا) وفضحت الخداع والكذب والمتاجرة بالمقاومة والممانعة ومحاربة الاحتلال وكل هذا النفاق تحت ادعاءات محاربة إسرائيل.
كانت سورية من زهاء نصف قرن معتقل كبير، تذوب فيه أجساد المعارضين بالأسيد، ويقتلون بدم بارد في سجون تدمر وصيدنايا وعدرا وسواها وأقبية أجهزة المخابرات المنتشرة في كل المدن السورية، أو ان يهدم مدينة بأكملها فوق رؤوس ساكنيها كحماة لأنها كان عصية عليه، كان يكفي ان يكتب اي مخبر تقريرا بأي شخص كان حتى لو كان تقريرا ملفقا حتى تختفي الضحية من الوجود بالموت تحت التعذيب.. ولم يكتف المجرم الاكبر المقبور حافظ الوحش بوضع الشعب السوري بأكلمه في هذا المعتقل الكبير ولكن وضع لبنان بأكمله خلال عقود ثلاثة رهينة له وفيه مارس هوايته المفضلة: الاغتيالات والاعتقالات فكانت اللائحة طويلة وكذا فعل بالقضية الفلسطينية، واليوم يكمل ان المجرم بشار الكيماوي مشوار المقبور ابيه بتدمير سورية كاملة وقتل شعبها بلك سلاح متاح وجلب شذاذ الآفاق والدول المارقة ليعينوه على شعبه المنتفض لأنه ورغم جيشه ومخابراته واسلحته لم يستطع مقاومة ارادة شعب يطالب بالحرية والكرامة وكاد ان يسقط في مزبلة التاريخ.. التي مازالت تنتظره ولا بد يوما ان نسقطه بها
شكراً أخي الياس. يصعب الكلام عندنا تصبح المآساة بهذا الحجم. لكنها ليست حرباً بل مجزرة وليست حرباً أهلية وإنما صراع من أجل الحرية مع الاستبداد بكافة أشكاله. وخاصة نظام الاستبداد الاسدي, الذي أراد هذه النكبة الشاملة, عندما رفع شعار الاسد أو نحرق البلد. سقوط سوريا ليس إلا تتمة لسقوط فلسطين والقدس وبيروت وبغداد, وعد بلفور عاد وأصبع وعد ترامب وبشارون سوريا ليس إلا وجه آخر لشارون صبرا وشاتيلا. أما الاستبداد العربي ليس إلا تتمة الاستبداد الذي كتب عنه الكواكبي عندما كان الاستبداد قديما, ولم نكن نعتقد أنه ذات يوم سيعود من جديد, فإذا بنا ساذجين بالفعل. لاشك أننا ننحني لعيون الأطفال المنكسرة, فهي التي تُنبئُنا بالأمل الذي لانفقده.
الشعب السوري الشهيد والمهجر من أرضه والضحية التي مازالت تنزف تامرت عليها جميع القوى الإقليمية والدولية الطامعة في موقع سوريا وفي العلاقه مع نظامها لقد تقاعس الجميع عن أدب واجبه ازا الشعب السوري الذي لم يفعل سوى أنه طالب بحريته وكرامته بعدما ساد مناخ الثورات في المحيط العربي والآن بعد مضي 7 سنوات مازالت جذوة الثورة متوهجة رغم التشوهات التي حاولت قوى الشر اقحامها على مشهد ابثورة