من ضمن الأعمال التي أنجزتها في بداياتي وأيام تشنج الشعر، وسيطرته على النهج السردي الذي قررت اتباعه آنذاك، رواية صغيرة اسمها «نار الزغاريد»، تحكي عن دخول الإغاثة إلى بلدة جانبية في شرق السودان، أوائل تسعينيات القرن الماضي، وكيفية تفاعل السكان المحليين، مع قدوم تلك الشاحنات الفرنسية الكبيرة المحملة بالأغذية والملابس، وكنت أخذت نماذج من السكان، وكتبت ابتهاجهم، وجعلت ألبيرت، وهو شخصية حقيقية، كان هو المكلف بجلب الإغاثة تلك الأيام، يتحمل وزر الحكاية الناقصة، يقوم بدور البطولة في نص أكله الشعر، ولم تكن البطولة شبعا ولا بعض شبع، وكل خطوة له في النص كانت تغطيها خطوات القصائد.
صحيح أنه جاء بتلك الشاحنات، دخل البلدة دخولا مبجلا، وامتدحه السكان، وسقط في عشق حسناء محلية، وتزوجها بعد تغيير عقيدته، كما حدث في النص لا في الواقع، لكن كل ذلك كان مكثفا وغامضا، بل شديد الغموض.
تحدثت عن ذلك النص لأنني أعدت قراءته مؤخرا بوصفي قارئا للنصوص لا كاتبا لها، واكتشفت كما أكتشف دائما، حين أعيد قراءة أعمالي المبكرة، أو حتى أعمال كتاب كبار كانوا يسيطرون على الحياة الأدبية في ما مضى، عشرات الثغرات التي كان يمكن إغلاقها، سطورا كثيرة بدت خفيفة وغير محملة بالشجن، كما من المفترض أن يحدث، ملامح كثيرة، ظلت غائمة على الوجوه والأجساد، ولم تتبد للقارئ واضحة حتى يقرأ الانفعالات ويتفاعل معها، دروبا ظلت خالية وكان يمكن أن تطرق بالخطوات، وبيوتا لم يسكنها أحد وكانت تتشوق لأن يسكنها الناس الذين كتبوا في الحكاية.
وكما قلت لم يكن ذلك يخص بداياتي وحدي، وإنما حتى بدايات ونهايات كتاب عظام، كنا ننبهر بما كتبوا في يوم ما، والآن لا يبدو ما نعيد قراءته لهم مبهرا، ولا حتى يقترب من الإبهار. وكنت الأسبوع الماضي أقرأ مجموعة قصصية، قرأتها لأول مرة منذ ثلاثين عاما وصفقت لها، لأحس بلا شيء تقريبا، بل ببعض السذاجة في قصص كان ينبغي أن تكون أكثر نضجا وأظنها كانت ناضجة في ذلك الحين، لكن الزمن ذهب بنضجها أو لعل مفهوم النضج اختلف الآن ولا نستطيع وضع مقاييس اليوم على أدب الأمس.
رواية «إيرنديرا الغانية»، أو «الضحية» كما تترجم أحيانا، قصة البريئة التي أحرقت بيت جدتها أثناء العمل فيه وهي نائمة، لتسوقها الجدة في رحلة شقاء طويلة، تعرضها للرجال، وتجبرها على ممارسة البغاء، وتحصد نقود جسدها لتعوض خسائرها، تلك القصة التي كتبها ماركيز في بداياته كما أظن، وكنت مندهشا بها جدا، حين قرأتها في ثمانينيات القرن الماضي، كما أذكر، وأعدت قراءتها منذ أشهر، بدت لي أيضا نصا عاديا، يحمل فكرة جيدة وخبيثة، لكن السرد فيه ليس قويا كما يجب، في الحقيقة كان الكتاب منبع دهشة في الماضي والآن يبدو قد تملص من تلك الدهشة، ولكن لا نستطيع قول ذلك، حيث أن عشاق بعض النصوص يظلون عشاقا لها مهما نضجوا وتقدمت قراءاتهم، لتواكب التقنيات الحديثة في الكتابة، نص إيرينديرا بالتحديد طرحت فكرتي هذه عنه في صفحتي في فيسبوك، وكان بعض الردود غاضبا، ولم يرض كثيرون ما ذكرته، أنا نفسي وبحكم تحيزي لرواية «مئة عام من العزلة» التي أراها الوحيدة التي لم تشخ من أعمال ماركيز، مارست فعلا ديكتاتوريا حين انتقدت من ينتقدها.
المهم وفي العرف السائد في الكتابة، لا يمكن التراجع عن الذي كتب، ولا يمكن تحسينه إن انتبه له الكاتب، وهو حي وأراد ذلك التحسين، لأن ثمة نصا بكل تلك العيوب نشر وانتشر، وقرأه البعض حتى لو كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، وقد قمت كما يعرف من يتابعني، بكسر تلك القاعدة، وحسنت نصا قديما فيه كثير من العيوب، وذكرت ذلك لسوء الحظ في مقدمة الطبعة المحسنة، على الرغم من أن النص الأول نشر في نسخ معدودة، لتأتي آراء القراء، تذبح النص المعدل، وتتفه من شأنه، وبعضهم يتحدث عن النص القديم بوصفه تحفة تم تشويهها، والحقيقة لم يكن تحفة أبدا.
الخطأ هنا ليس تعديل النص وأزعم أن التعديل كان لمصلحته، وإنما أن يذكر الكاتب أنه أصلحه، وكان يمكن أن ينشر بلا أي إيضاح ويعتبر جديدا تماما، أو يعتبر استخداما لفكرة استخدمت من قبل عند الذين صادف وقرأوا النص الأول، ولم أكن سأستلم رسالة من إحدى الجوائز التي رشحت لها الرواية، تطالبني بإيضاح الفرق بين الرواية القديمة والجديدة.
لقد فكرت في إعادة كتابة رواية الإغاثة هذه من دون أي إيضاح لأنها وزعت أيضا بطريقة بدائية، ولم تصل تقريبا إلا لعدد محدود من الناس، لكن الفكرة بدت لي قديمة في عصر استجدت فيه أشياء عديدة، وحتى إنسان تلك الفترة لم يعد إنسان هذا الزمان، كانت الثلاثون سنة الماضية كفيلة بمحو كثير من الآثار السلبية أو الإيجابية، وحفر آثار أخرى بديلة بسلبيتها وإيجابيتها.
لكن على الرغم من ذلك لم أغلق الباب تماما، تركته مواربا، ربما تتهيج عندي الأفكار الخاصة بتلك الفترة، وأكتب المغامرة الجديدة، وبدون إيضاح يقول بأن ذلك إصلاح لنص، وليس بناءه من الأساس.
أيضا سأواصل احترامي للنصوص التي كانت مبهرة في حينها، وفقدت إبهارها الآن، لن أدخل في جدال معها، وإن كان ثمة حديث، فهو عن النصوص الجديدة التي تنتج باستمرار، وفي هذه المناسبة حاولت أن أقرأ رواية «العاشق الياباني» لإيزابيل أليندي، بالحماس نفسه الذي قرأت به معظم رواياتها الماضية ولم أستطع، كان ثمة خلل لعله في النص، لعله في الجو العام للكتابة، أو لعله في الترجمة، وهذا أمر آخر تطرقت إليه كثيرا، ويبدو أنه بلا حل، فالنقل من لغة إلى أخرى ومهما كان الناقل بارعا، لن يمنح النص وضعه الأصلي، ثمة لمسات ستتغير، ثمة تراكيب ستهتز، وثمة إبداع جديد سيتكون حاملا اسم الإبداع القديم.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
لعلكم تنظرون إلى الكتابة نظرتَكم إلى العجِين!
بل دعوها تنمو كأنَّها الجَنين!
أفضل النقد هو النقد الذاتي لأنه أصدق وأعمق فكل كاتب يعرف نواقصه افضل من اي ناقد آخر والعبرة في الصدق ولايمكن لكاتب ان يتقدم ويبدع دون نقد ذاتي والعودة إلى أعماله السابقة واكتشاق نواقصها كي يتحاشاها في نصوصه الجديدة
شخصيا كنت منبهرا في صباي بجبران خليل وقرأته كاملا وكانت لدي حنين دائم لإعادة قراءة النبي والأجنحة المتكسرة ولكني اكتشف بعد قراءات مختلفة ان انبهاري السابق خفت حدته مع اطلاعي على كتاب مختلفين من مشارب ومذاهب مختلفة
وهذا الأمر ينطبق على معظم الكتاب وليس على تاج السر فقط او جبران او محفوظ وإدريس وحتى ماركيز وميلر وسارتر وشو وسواهم