وأنا أمر بمدينة بورتسودان، تلك المدينة الساحلية التي نشأت فيها، وعشت فيها أياما جيدة وغير جيدة معا، وأصبحت جزءا من الذاكرة التي امتصت بعد ذلك مدنا غيرها، كان لا بد أن أتلمس أماكني القديمة، الأماكن التي لا أنساها أبدا، وأتوقع برغم معرفتي، أن معظمها قد انمحى تماما من واقع المدينة، أنني سأجدها في مكانها، وبالطبع لن أجدها أبدا.
والمدن القديمة، عموما، وبعد انتشار مرض الاستثمار، وعبارات مثل: وسط البلد، وموقع مميز، ولا يقدر بثمن، هوجمت في وسطها، وانتزعت تلك الأحشاء التي كانت متكأ للناس العاديين من الأجيال السابقة، لتصبح متكأ باهتا، وغير دافئ أبدا لأجيال ستأتي، ملوحة بلغة جديدة، تحت ظل الحيوات الجديدة. والذي سيفتتح مركزا للإنترنت في ذلك البرج الأزرق التجاري الضخم المواجه للمستشفى، مثلا، لن يتخيل أبدا أنه يفتتح تلك الحداثة في غرفتي وغرفة أبي وتلك الغرفة الصغيرة الملاصقة للمطبخ، التي كانت عامرة بالضيوف، لم تنقطع عنها الرجل أبدا، وربما ما تزال أنفاس من رقدوا فيها وغادروها إلى بعيد، موجودة. ولأن العمارات ذات الخطط التجارية، لا تقنع بمساحات البيوت الضيقة، فقد كانت السينما القديمة قد أدرجت ضمن خطة البرج الأزرق، تلك السينما التي كنا نطالع أفلامها من سطح بيتنا، ولن يتخيل أحد أبدا أنها كانت هناك، وكان لها مدير وموظفون ورواد، ظلوا يتتبعون أفلامها من عهد شامي كابور، وانتوني استيفن، وترينس هيل، والإيطالي الضخم الشرس، المضحك، بود سبنسر، الذي مات منذ فترة قليلة، ساحبا معه، رقعة كبير مما تبقى من مساحة الزمن الجميل.
لقد تجولت في المدينة، أطالع التغيرات، وأندهش، والحقيقة ليس من المفترض أن أندهش، وإنما هو اندهاش التحسر على تلك الذاكرة المدينية، التي لم يرد لها أن تبقى، لتطرح تساؤلات مستقبلية، أو تتحاور مع الأجيال اللاحقة. فكل مكان هناك، وأعني مكانا له اسم وهيكل، وأشخاصا كانوا يزورونه، إنما هو مكان حي، يرتب أفعاله وأنفاسه، ويمنح عبقا ما، أو رطوبة ما أو حتى جرحا غائرا، لكنه في النهاية مكان مهم.
البيوت الضيقة، الصغيرة، التي من حجر خشن، مغبر، كان يسكنها موظفون فاعلون في الخدمة المدنية، موظفون في مصلحة الجمارك، والصحة، والبلدية، والتربية والتعليم، مدراء مدارس لم تكن طموحات السكنى المرفهة جزءا من خططهم، ويسكنون ويعيشون بناء على تلك المعطيات الموحدة التي تجعل كل الأشياء شبيهة ببعضها. واللقم التي تتصيدها حلوق الضعفاء، هي ذاتها التي في حلوق الأغنياء، وحتى الفرق بين تذكرة الصفوة وتذكرة الشعب في دخول السينما كان قروشا قليلة، بحيث يمكن بسهولة أن يتغير الوضع، ويصبح رواد ما يسمى» اللوج»، هم أنفسهم رواد درجة الشعب.
وقد كانت توجد في المدينة داران للسينما، واحدة هي التي كانت بقرب بيتنا والآن تشاركه المحنة، في ذات البرج الأزرق الجديد، وهي سينما الخواجة، والأخرى، هي سينما الشعب التي كانت قريبة من السوق، وموقف باصات الأحياء. لكن لو قسنا المسافة، وعدد الخطوات التي يمكن قطعها في تلك البقعة التي هي وسط البلد في ذلك الحين، لما وجدنا مسافة تحتاج إلى أن تقطع بين الدارين. والذين يأتون من الأحياء البعيدة، يمكنهم الذهاب إلى أي المكانين بسهولة بحسب الفيلم الذي تعرضانه، والتسكع بعد ذلك في الشوارع المحيطة بالمكان، وتبادل مفردات الحياة البسيطة، من دون أن ينظر أحد إلى شاشة هاتف نقال، أو يعبث بلوحته، وينفصل عن الحياة الاجتماعية، وهو داخلها.
تجولت وتذكرت أن ثمة حيا كان هناك، قريبا من بيتنا، ويقع خلف المستشفى مباشرة، اسمه حي الممرضين، ويسكنه بالطبع ممرضو المستشفى، في تسهيل فذ من الإنكليز وما تلاهم من حكومات ما بعد الاستقلال، لجعل الممرض قريبا جدا من مكان وظيفته، وهو عنصر مهم في المنظومة العلاجية، بجانب الطبيب والصيدلاني بالطبع. البيوت كانت على مرمى حجر، وأي ممرض متزوج، يملك بيتا هناك، وخرج من تلك البيوت، كما خرج من بيوتنا، نحن، أشخاص كثيرون فاعلون، قاموا بأدوارهم في مسألة بناء الوطن بعد ذلك. ومن جيلنا، ما زلت أذكر الكثير من الزملاء، الذين تربينا معهم صغارا، وتبادلنا عراكات الأطفال وبكاءاتهم، وشكل ذلك الجو، خلفيات كثيرة لأعمال كتابية استوحيتها بعد ذلك.
المدارس أيضا، المدارس التي كانت بيوتا أخرى، للتربية الحقيقية، حيث المدرس أب آخر، مشغول بتمكين طلابه من تفصيل أحذية جيدة لخوض وحل الحياة كلها، ويملك صلاحية أن يفعل أي شيء من أجل التربية. وبالطبع كان التعليم أساسا، لكن التربية تأتي قبله، وقد تذكرت وأنا أمر بالبناء المتداعي للمدرسة الشرقية التي كنت فيها ذات يوم، تلك التربية المزعجة التي تمنعك من دخول السينما، ودار الرياضة، لمشاهدة المباريات، والتسكع في السوق من دون غرض محدد، حيث كان ثمة معلمون من المدرسة، يوزعون أنفسهم في تلك البؤر مساء، ومن المتوقع أن تصادف أحدهم في أي مكان تذهب إليه، وتتعرض للعقوبة في اليوم التالي. وذكرت في كتابي «مرايا ساحلية»، المكتوب عن مدينة بورتسودان، في فترة ما، ذلك المدرس الذي كان يغشى الحفلات الصاخبة في الليل، على دراجته، لا لكي يطرب من غناء المغنين أو يقضي وقتا طيبا، وإنما ليرى إن كان ثمة تلميذ من تلاميذه هناك أم لا؟ وأظنني ذكرت أن أحد التلاميذ، شاهده في حفل زواج شقيقته ففر من العرس إلى داخل البيت، يرتجف انفعالا.
كان شاطئ البحر، مسرحا آخر للذاكرة البعيدة، كان كبيرا وواسعا، ولا تستطيع العين تحديد طوله، وثمة معالم قليلة راسخة في المكانة، والهيبة، موجودة عليه: النادي العالمي، نادي الرماية، نادي الضباط، كافتيريا جنة الشاطئ، وربما مكانين آخرين أو ثلاثة. الآن شاطئ البحر بعيد جدا عن ذلك الشاطئ القديم، ومحشو بكثير من بهارات التجارة من مقاه، ومطاعم، وأماكن لبيع أي شيء، ونواد جديدة. وتلك البيوت الفخمة التي تواجه البحر من الناحية الأخرى للشارع، وكانت في ما مضى بيوتا للطبقة الراقية، أو مقرات لشركات لم نكن نعرف نشاطها بالتحديد، أيضا تغيرت كثيرا، وباتت بقعا استثمارية فذة، لنشاطات الحياة الجديدة.
بالنسبة للأحياء القديمة، وأعني الأحياء التي ولدت بولادة المدينة، أو بعد ذلك بقليل، فقد طالها التغيير أيضا، ولم تعد البيوت الصغيرة، ذات الطابق الواحد، أو تلك المبنية بالخشب، تعني أحدا في هذا الزمان، فقد أمحت كل تلك المعطيات القديمة، نبت البناء الأسمنتي الذي داس على الذاكرة والذكريات. وقد رسم أخي فيصل تاج السر، مستعينا بذاكرته، تلك البيوت الأربعة عشر، أو بيوت «14»، كما كانت تسمى محليا، وتؤوي أربعة عشر فردا من موظفي الخدمة الكبار مع أسرهم، وضاعت أيضا في لجة التغيير، رسمها، معيدا لها مجدها القديم.
المدن القديمة قدمها ليس عارا، وتحديثها لا ينبغي أن يكون بهذه الشراسة، وأعني أن من المفروض تحديث المدن فعلا، فقط بعيدا عن الوسط القديم، الذي من المفروض أن يترك وسطا قديما كما هو، وربما سيكون بؤرا للسياحة أكثر من الجديد، الفج، المتوفر في كل مكان في الدنيا، ويمكن إيجاده بلا مشقة، بعكس القديم الذي إن ضاع، ضاعت معه الذاكرة.
كاتب سوداني
أمير تاج السر