هذا الشهر، تكون مرت أربع سنوات كاملة على رحيل الكاتب الكولمبي الشهير غابرييل غارسيا ماركيز، الذي يعتبر أحد أهرامات الكتابة الإبداعية، حيث امتد تأثيره إلى شتى بقاع الأرض، بعد تفعيله للخيال بصورة جديدة وجادة، واختراع أدوات كتابة ما كانت مألوفة من قبل، وحتى تلك التي كانت مألوفة، من المؤكد أنه ساهم في استخدامات مختلفة كلية لها.
وكان ماركيز قد أكد كثيرا على أنه تأثر بكتاب آخرين مثل بورخيس ووليم فوكنر، لكن من المؤكد أن بصمته لم تكن بصمة واحد من أولئك الكتاب، هي كما ذكرت بصمة ماركيزية بحتة، تدل على كتابته، حتى لو كتب مقالات بسيطة أو قصصا قصيرة.
حقيقة لم يكن ماركيز معروفا لدى معظم الناس في فترة شبابه المبكر، وأثناء عمله صحافيا في بلاده أو مراسلا لصحيفته في أوروبا، حيث كان يعمل ليعيش، وفي الوقت نفسه، يكتب الأدب مدفوعا برغبة كبيرة في البوح، وأنتج في فترة البدايات تلك، قصصا كانت مهمة، مثل «في ساحة نحس»، لكن بعد أن كتب «مئة عام من العزلة»، تغير وضعه تماما، كانت تلك الرواية هي الأسفلت الثابت الذي مهد له الدرب إلى النجومية، قصة آل جوزيه بونديا، وقرية ماكندو الكونية التي يدخلها العالم ويخرج منها بسلاسة فائقة، رغم وجودها في منطقة الكاريبي البعيدة، حيث تتناسل الحكايات وتلتحم، وتتفرق وتعود لتلتحم، مكونة رواية كبيرة ونادرة.
حين قرأت «مئة عام من العزلة»، بداية التسعينيات من القرن الماضي، بعد ترجمتهتا إلى العربية، وبعد سنوات من حصول ماركيز على جائزة نوبل، أصبت بدهشة كبيرة، لم تكن المسألة مهارة في استخدام اللغة فقط، ولا مهارة في استخدام مفردات البيئة اللاتينية، وبناء الشخوص بحيث يؤدي كل دوره ويذهب في الوقت المناسب، أو يبقى لأن ثمة دورا آخر ينتظره، لكن في تلاحم كل ذلك، وبإحساس أن ذلك النص الطويل، ولد كله في دفقة واحدة. تلك الأيام كنت ما أزال في سلك البدايات، أملك خاصية أن أندهش من نصوص كهذه، تلك الدهشة الطازجة التي ضاعت بمرور الأيام وبعد أن تشعبت الحكايات، ودخلت إلى الذهن آلاف النصوص المدهشة بحق، وغير المدهشة على الإطلاق.
قرأت الرواية مرة ومرتين، وقرأت كل ما ترجم لماركيز بعد ذلك، ووقفت طويلا وما أزال أقف بكل احترام أمام رواية «الحب في زمن الكوليرا»، رائعته التي قرن فيها بين الحب الذي هو دافع للحياة، ومرض الكوليرا المميت بكل تأكيد، في بيئة تفتقر إلى أبسط قواعد الصحة والاهتمام. سيرعى مرض الكوليرا وسط السكان على طول النهر، حاصدا الأرواح، ومبعثرا الجثث، وفي الوقت نفسه يظل حب لورينثو داثا لأرملة الطبيب باقيا إلى عهد الكهولة، وبين هذا وذاك، زمن ممتد من الوصفات الإبداعية الرائعة، والحكايات المتشعبة البديعة، والرحيل والإقامة والموت والحياة، وأستطيع أن أقول بأن تلك الرواية إذا ما استثنينا مئة عام من العزلة، تعد من أبدع ما كتبه ماركيز. وتوجد بالطبع أعمال أخرى رائعة مثل «أحداث موت معلن»، الرواية التي تعرف حكايتها مسبقا، وأنها عن مقتل العربي نصار، وعلى الرغم من ذلك تشدك إليها بعمق، وخريف البطريرك، والجنرال في متاهته، حيث السخرية المؤلمة من الديكتاتوريين العسكريين، حكام أمريكا اللاتينية، وحكام كل أسى في العالم.
أظن ماركيز أبدع أيضا في الكتابة السيرية، ورأيي دائما أن الكتاب أصحاب البصمات الواضحة في الكتابة، يمكنهم بسهولة أن يكتبوا سيرهم أو سير آخرين مقربين منهم بالنفس الإبداعي ذاته الذي يكتبون به الرواية، السيرة هنا لا تمنح متعتها من حوادثها فقط، ولكن من حوادثها وأسلوب كتابة تلك الحوادث، ولا يختلف أحد على الكم التشويقي الممتع، الذي تم ضخه في سيرة تلك المرأة الصديقة لماركيز وعائلته، التي اختطفتها عصابات ملك المخدرات أسكوبار، قبل سقوطه.
كذلك سيرة ماركيز نفسه التي كتبها بعنوان «عشناها لنرويها»، وحقيقة يستطيع ذلك الحكاء أن يروي حتى ما لم يعشه. ولا أظن قصة الخادم الغائب منذ سنوات عن أسرة الجد، الذي جاء خصيصا ليحضر جنازة الجد، على حد قوله بينما الجد ما يزال نشيطا، ولا يوحي بموت وشيك، ليموت بالفعل بعد وقت قليل ويحضر الخادم جنازته، لا أظن ذلك إلا تجاوزا طفيفا للسيرة، لتشتبك مع الرواية في مشهد غرائبي يحتمل وروده في الخيال، ولكن من الصعب أن يصبح واقعيا.
الروائي الكبير أو المعلم كما أسميه لأنني تعلمت منه الكثير في بداياتي، وسرت على نهجه قليلا قبل أن أعثر على خيوطي وأضفرها، هذا الهرم له خساراته أيضا، بمعنى أن هناك أعمالا أعتبرها أقل كثيرا من الأعمال التي ذكرتها، أعمالا فيها بعض الوهن، ولا بد أن للعمر دورا كبيرا، في إرهاق الصياغة، وكنت ناديت مرة بضرورة أن يتوقف الكتاب عن الإبداع حين بلوغهم سن التقاعد، وهذا لن يحدث بالطبع.
أتحدث عن رواية «ذكرى عاهراتي الحزينات»، تلك الرواية الصغيرة البــاردة كثيرا والتي تخلو في رأيي من جمال عبارة ماركيز وقوة تركيزه في الكتابة، هناك من اعتبرها تحفة، وأنها أفضل أعماله، وأقول بصفتي من قرائه المخلصين ومن الذين تعلموا منه، إن الرواية لم تقدم شيئا، والرجل العجوز التسعيني الذي يستمتع بنوم فتاة صغيرة مخدرة، لم تكن فكرة كتابة جديدة.
عموما نفتقد ماركيز وحقيقة افتقدناه قبل موته بسنوات بسبب الزهايمر الذي يصيب الذاكرة فيتلفها، كان عظيما فعلا لكن الكتابة حتى برحيل العظماء تبقى واقفة ومسنودة، في كل جيل يأتي عظماء ويذهبون، وتبقى الكتابة هي السيدة، وهي المبتغى.
٭ كاتب سوداني
أمير تاج السر
ماركيز أديب امريكا اللاتينية دون منازع وهو الذي جعل هذا الادب اللاتيني ينتشر في العالم ولا شك ان مئة عام من العزلة تعد من افضل عشر روايات عالمية وستبقى متصدرة العمل الادبي كدونكيشوت التي كتبت في القرن السابع عشر وما تزال واقفة على قدميها، فكل كاتب ينحت لغته الخاصة واسلوبه الخاص يبدع، والابداع لا يتوقف مع الشيخوخة..
شكرا على هذا المقال الذي ينصف هذا الكاتب العظيم
كل روايات ماركيز تشهد له بعبقريته في الحقل الابداعي
–
لن انسى روايته “الحب في زمن الكوليرا” ليس لتميزها عن باقي ابداعات ” غابو”
–
و لكن لارتباطها بذكرى شخصية و هي ذكرى اول مرة اغادر فيها الوطن حيث كانت
–
الوجهة جماهيرية القذافي في التسعينات و لم يكن المكان المقصود غير صحراء خالية
–
تختزن انفس الطاقات و احقرها و في تلك المنطقة الخالية لم يكن لي من مؤنس سوى
–
رائعة ماركيز ” الحب في زمن الكوليرا ” و الام ” لمكسيم كوركي ” باللغة الفرنسية
–
تحياتي
ألف تحية ومحبة أديبنا الأريب، وكاتبنا اللبيب المبدع اللاّمع أمير تاج السر عن هذه العجالة الجميلة عن الكاتب الكولومبي الذائع الصّيت مركيز الذي يذكّرني دائماً بذلك البلد الجميل الذي عشت ما ينيف عن خمس سنوات بين مناكبه ، وغاباته، وسواحله، وآجامه ،ومدنه الساحرة مثل بوغوتا التي يُطلق عليها المثقفون فى ذلك الشقّ النائي من العالم إسم” أثينا أمريكا اللاّتينية ” نظراً للنهضة الثقافية والأدبية التي تعرفها هذه المدينة على امتداد الحوْل، وإن نسيت فلن أنسى عندما دُعيت للمشاركة فى ملتقى دولي حول مركيز منذ بضع سنوات حيث أعددتُ محاضرة باللغة الإسبانية بعنوان ” مئة سنة من العزلة ..يوميات قرية أسطورية “وعندما ألقيت محاضرتي “بنادي نوغال” المرموق ببوغوتا ،فوجئ الحاضرون إذ بعد قراءة متوالية ومتأنيّة لهذه الرواية كنتُ قد قمتُ بإحصاء دقيق للكلمات التي تنحدر من أصل أو أثل عربي الموجودة فيها فإذا بي أعثر على العديد منها مثل: المسجد،السّوسن،القطن، العقرب،الضّيعة،الجلباب،الكافور، المخزن،الكحول ،الزيت، القطران، المِسك، السّوط ،الزّهر، الياسمين،الخزامى، السّاقية، ألبِركة، اللقّاط، الزعفران، الزناتي(وهي من القبيلة الأمازيغية المغربية (زناتة) التي كان أهلها مشهورين بركوب الخيل حيث إستقرّت هذه الكلمة فى الإسبانية بمعنى الفارس)،الكيل ،الثرثرة ، القاضي، الشراب ، القائد، البابوش ( وهي كلمة عربية- فارسية) وسواها من الكلمات الأخرى،ولم يتوقع الحاضرون وجود هذا الكم الهائل من الكلمات فى هذه الرواية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس : بقيت ملاحة بسيطة وردت فى كلمة الكاتب العزيز ففى إشارة إلى إحدى روايات غابو ، جاءت مكتوبة ” ساحة نحس” والصواب ” ساعة نحس” .خالص التحية وفائق الودّ.