الشاعر السويدي الفذ توماس ترنسترومر، حاصل جائزة نوبل للآداب 2011 يترك للقارئ ومحبي شعره ذكريات مرهفة وشفيفة سماها ذكريات تراني» وذلك قبل رحيله بأعوام قليلة، ساعياً بهذا العنوان لأنْ يعطي صورة مختلفة، ومدلولاً آخرَ، مغايراً لما تعارف عليه من عناوين للكتب والمذكرات والسير الذاتية. فهو هنا يقدّم الإبدال للمعنى، أي قلب المفهوم والتصوّر المعروف للتسميات الدارجة مثل «أرى ذكرياتي»، وهو حتى في كتابة النثر، يسعى إلى تقديم النادر والمحيّر والغامض للمفردة ودلالتها الفنية، كمعاني شعره وغموضه الكريستالي، وجمله البلورية الموحية، الموصولة بالصور الخلاقة، ذات الشفافية الفيروزية التي يزخر بها شعره الملموم والمقتصد، ذلك الشعر المتّسم بالحذف والبخل والتقتير والعسر في إهدار الكلمات.
من هنا مذكراته، هي أيضاً تخضع للمواصفات ذاتها، فالمروي قليل وشحيح ومتقشف في تسطير السطور السردية، وكأننا أمام نوع من البوح المستتر، رغم ظهوره، والمنزوي رغم إعلان تصريحه بالعبور إلينا.
إنّ أشعار توماس ترنسترومر كلها لا تتعدى الأربعمئة صفحة، كتبها خلال عمر طويل،عاشه الشاعر في العاصمة السويدية ستوكهولم، وخاض عبره، غمار العمل والكتابة والقراءة والتوله والولوع بالموسيقى منذ صغره، ومراقبة الألوان، حيث المعرفة العميقة بالفن التشكيلي، كالرسم والنحت والفوتوغراف، وعرف أيضاً فنّ الترجمة، فترجم لعمالقة الشعر العالمي ونقلهم إلى السويدية، وكذلك نُقلتْ أعماله المعدودة إلى كل لغات العالم، ذلك أن جمال شعره والسحر الذي يتركه لدى القارئ، هو الذي يُحفّز المشتغلين بالترجمة على ترجمته وتقديمه إلى لغتهم، لكي يتزوّد الكلّ بهذا الختم السري الذي يتركه توماس ترانس ترومر، على شعره الجديد، المغاير والبهي .
لعل هذه القلة في كتابة الشعر التي أشرنا إليها لدى ترانس ترومر، هي الأخرى، قد انعكست بدورها على نثره، وما كتبه من مرويات، وهي تعدّ في خانة النزر اليسير لقلة صفحاتها، لكن ما ورد في هذه الصفحات القليلة يُعد كافياً لإضاءة حياة ترانس ترومر شبه المستقرة، والتي لا تحفل بالتحوّلات والتقلبات والمغامرات الكبرى، مثل تلك التي قرأناها لدى بابلو نيرودا على سبيل المثال، أو رسول حمزاتوف الشاعر الداغستاني الكبير، ذلك الذي أتحفنا بذكريات دافئة، لا تنسى، أو لدى رامبو الذي كُتِبَتْ سيرته من قبل آخرين، لغرابتها وفوضويتها وبوهيميتها، وحين كُتِبَتْ أدهشت العالم كله لجمال تحولاتها، وللمغامرات التي حفلتْ بها تجربته الفتية، بسنواتها القصيرة التي جابت العالم، ووصلت إلى عدن لتستقر هناك وتكون الخاتمة التراجيدية لها.
لكن توماس ترنسترومر، الرجل الهادئ والحالم بالسلام والهدوء، انحاز إلى الصمت خلال سِني حياته، وهو شبيه بصمت الفيلسوف والمتصوّف والمفكر، فكيف إذا كان هنا صمت الشاعر الذي تنضاف إليه كل تلك التسميات.
أجل إن الشاعر ترانس ترومر هو جامع لكل هذه الصفات في شعره، فهو شعر حالم، غارق في المتخيّل واليوتوبيا، شعر المسترسلين في عالم مجهول تحيطه الغياهب، ومن هنا سر قلة حروف يومياته، أو مدوّنته النثرية، تلك المدوّنة التي وضعته هكذا شاعراً وناثراً حصيفاً، بين كثيرين متشابهين، لامعاً في العتمة، ومشرقاً وبارزاً بين الظلال.
بينما زوجته التي رافقته طيلة حياته ترى غير ذلك، فهي تقول إنه كان يتمنى أن يتوسع في ذكرياته، ولكن المرض الذي اقعده وشله هو الذي دعاه إلى المختصر من الكلام، أو هو الذي دفعه إلى عدم إكمال ما انتوى كتابته قبل أن يتعرض في سنواته الستين إلى تلك الجلطة الدماغية التي عطلتْ جزءاً من كيانه وطاقته الجسدية والعملية.
ربما من هنا أيضاً، كانت سيرة الشاعر السويدي ترنسترومر قليلة الصفحات، وتحت ضغط هذا العامل المفاجئ لحياته، كتب سيرة الطفولة والصبا والمراهقة، وما حفلت به من تداعيات شخصية، وجدها كافية وقادرة على إنارة بعض تفاصيل حياته الطفولية، إذ غالباً ما يميل الشعراء في العادة إلى عالم الطفولة والتمسك به، كونه الأقرب إلى أفق أحلامهم وتصوّراتهم ورؤاهم اليومية، وهو يشكل بسمائه الرحبة وطبعه الملون المادة الدسمة، ذات المخزون الهائل الذي لا ينضب، في استشراف عملية الكتابة، حيث اللجوء إلى ذلك العالم الصغير سيغدو هو المَعين والنبع الذي يغترف منه على الدوام الفنان والشاعر والحالم.
قام بترجمة مذكرات ترنسترومر، وبجهد مكين المصري طلال فيصل، ممهداً له بمقدمة ضافية، محاولاً إعطاء صورة واضحة ومنسجمة ومتآلفة، عن شعر وحياة ترانس ترومر، ولكي يعمم الفائدة ويكون كتابه ذا مصداقية أعلى وأكثر حرفية من ناحية الترجمة، يقوم ذات يوم برحلة هدفها زيارة بيت الشاعر في العاصمة السويدية ستوكهولم، لتعزيز وتمتين رؤى الكتاب ببعض الأسئلة والمناحي التوضيحية، تلك التي ستساعد بالتأكيد عمل المترجم وتدعم رؤيته العملية والفنية في شؤون كانت خافية عليه. ورغم وجود ذلك العائق الصحي الذي ألمّ بحياة الشاعر، لكن زوجته وشقيقة شعره السيدة مونيكا، هي من سيقوم بدور الوسيط، بين الاثنين لدفع اللقاء كي يتوهج، ويعطي ثمره، ويُفيد الكتاب في تبيان ما التبس، من معان وخفايا، هي تكون قد المّتْ بها، وشاركته إياها طيلة أكثر من خمسين عاماً، منذ كانت في سن الثامنة عشرة، يوم زواجها وقضاء شهر العسل، ويا للمصادفة أن يكون قضاء ذلك الشهر في مدينة طنطا، خلال السنوات الخوالي من نهاية الخمسينيات المصرية.
وحين يصف المترجم لقاءه بالشاعر ترنسترومر، حينذاك، نراه يمد الكتاب بكمية من الفرح، حول ذلك اللقاء المؤنس، واصفاً حينها، أناقة البيت وبساطته وسكنه فيه مدة تزيد عن أربعين عاماً، فهو عالمه ومكانه ومساحته الجمالية والفنية، وفيه يرزح ويقطن ويسكن ذلك المخيال الفريد الذي أنتج فيه كل تلك الفرائد الشعرية.
تبدأ سيرة ترانس ترومر ومرحلة التذكر منذ سن الثالثة، مسترجعاً بذلك اسم لعبته «سابينا» وذكرى والده الذي كان على وشك مغادرته لهم، بسبب خلاف عائلي، علاقته كانت قد توطدتْ بجّدِّه لأمّه الذي كان يكبره، حسب تعبيره بواحد وسبعين عاماً، جدّه البحار الذي سيفيده كثيراً ويجعله يتعلق بحياة رومانسية وشاعرية.
حين يحدث الطلاق بين والده وبين أمه، تنتقل العائلة إلى السكن في منطقة تعجّ بالفئات الدنيا، من الطبقة المتوسطة، أناس من طبائع مختلفة، يصفهم الشاعر وهو في السابعة، بشكل دقيق، مثل المصوّر الصحافي جارهم، والسكير الذي يتمهّل عند مدخل البناية المتكوِّنة من خمسة طوابق، يصف المتسوّلين الذين يطرقون الباب بحثاً عن النقود، لكن الأم لا تنهرهم، بل تعد لهم السندويتشات بدلاً من النقود، ويصف جارهم الذي يتحدث في الهاتف بصوت عال، مع فتح زجاجات البيرة ذات أغطية الفلين التي تحدث قرقعة، وغيرها من الذكريات التي تجلب التهكم والسخرية، وعالم الدعابة وحسها الذي تميز به ترنسترومر حين يلتقي بأصدقاء وزوار يأتون إليه لوفادته والتقرّب من عوالمه الشعرية والفنية.
في مرحلة لاحقة، من سنوات الطفولة التي تتقدم باتجاه الصبا، يضيع الصبي ترانسترومر في الزحام، بعد ذهابه صحبة أمّه، إلى حفلة موسيقية في المدرسة، لكنّ الصبي الذكي والألمعي، سيعود إلى البيت مشياً على الأقدام، ليصل إلى منزلهم ويتلقفه جدّه، بينما الأم كانت في مراكز الشرطة، محاولة عبره العثور عليه.
منذ سنّ الخامسة يُغرم الشاعر السويدي الأشهر، بمتاحف القطارات، ومن ثم بمتاحف التاريخ الطبيعي وبالفن التشكيلي.
حين تبدأ سنوات 1944 وهي سنوات الحرب العالمية الثانية، يصبح المدرسون منحازين بطبيعتهم إلى عالمين في السياسة، وكان هناك العديد من المدرسين الميّالين إلى النازية، وأحدهم كان يقول على حد تعبير الشاعر: فيما إذا لو سقط هتلر فلسوف أسقط أنا أيضاً، لكنه وكما يعلق ترانس ترومر، لم يسقط، بل درّس لي بعد ذلك اللغة الألمانية واحتفل بفوز هرمن هسه بجائزة نوبل حينذاك.
يقول الشاعر السويدي الحائز جائزة نوبل، إنه قد تعلم اللاتينية وقرأ بها شعر هوراس، ثم اجتذبته الحداثة الشعرية، ليقرأ بعد ذلك، عوالم بوكن الشعرية، وهو أحد أساتذته ومُدرّسيه الشعر اللاتيني. وعن الشعراء الذي أحبّهم في حياته يذكر في لقائه للمترجم المصري، الشعراء: ميووش البولندي وبرودسكي الروسي ومارتنسون السويدي، وهؤلاء الثلاثة نالوا جائزة نوبل، بالإضافة إليه.
توماس ترنسترومر: «ذكريات تراني»
ترجمة: طلال فيصل
الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015
90 صفحة
هاشم شفيق