رأي لمؤمن وآمنة

في أحد الأيام، سألني مؤمن، وهو طفل في الثامنة من عمره، وقدم إلى عيادتي مع والده، مريضا بزكام عادي، سألني بعفوية شديدة هي بالتأكيد من خواص الطفولة:
– هل كنت تكذب وأنت في مثل عمري؟
نفيت ذلك بشدة، وقلت للطفل وأنا أستغرب من سؤاله: لا.. أبدا. وبدا والده مستاءً بشدة، وأراد معاقبته، لكن الطفل فاجأنا حين أضاف سؤالا آخر:
– إذن كيف استطعت كتابة كل هذه القصص؟
ومنذ عدة أيام جاءت آمنة بصحبة أحد أبنائها، وكانت جدة في نحو الثمانين، تمشي ببطء، وتتحدث بصعوبة، وتحمل تاريخا عميقا من أمراض وعرة ومتسلطة مثل ضغط الدم، ومرض السكر، وتصلب العروق، وأعرف أنها خضعت لجراحات متنوعة، عديدة في الماضي.. سألني ابنها: هل ما زلت تكتب تلك المقالات في الصحف؟ قلت: نعم. وفوجئت بوالدته تتحدث بصوت عال: حتى الطبيب يكذب؟ خسارة.
إذن نحن أمام رأيين متطرفين أحدهما من بداية العمر والآخر من نهايته، يسيئان الظن بالكتابة ويعتبرانها كذبا، وكلا الرأيين لم ينبع من خبرة ولا تتّبع لما يُكتب، فرأي الطفل قطعا كونه من استماع مستمر لآراء الكبار ممن حوله، حين يصفون بعض الحكائين المبالغين في تنشيط خيالهم بالكذابين، لكن الطفل ليس عاديا بالتأكيد ويملك ذكاء يجعله يخضع الكتابة الإبداعية، لمثل تلك الشروط.
أما السيدة المسنة فهي لا تقرأ ولا تكتب، وبالتأكيد لم تسمع بما يُعرف بالرواية أو القصة، ولا ماذا يكتب وماذا لا يكتب، وأزعم أنها تسمع فقط عن ذم الصحافة باعتبارها وسيلة شائعة للكذب، وبالتالي كل من يكتب فيها، فهو كذاب، والطبيب لا ينبغي أن يكتب حتى لا يكذب.
لقد تحدثت كثيرا من قبل عن شروط الكتابة عموما، وأرى أن هذين الرأيين ليسا ذما بالتأكيد للإبداع، ولكنهما يتسقان تماما مع شروط الكتابة الجيدة، أي تلك التي تأخذ شيئا يسيرا من الواقع المعيش، وتبني عليه، وتصنع في النهاية هيكلا يملك ملامح الحياة الواقعية، وملامح أخرى ليست من الواقع في شيء.
الكذب هو الخيال الذي يطور بذرة الواقع، يلقحها، ويغرسها في تربة صالحة للحكايات لتنمو حكاية قابلة ليتذوقها كثير من الناس، ليس بالضرور ة أن يكون الخيال متطرفا أو ملامسا للأسطورة، أو سحريا، فهذه مدرسة كتابية، وهناك مدارس كتابية غيرها، وإنما الخيال هنا أن يوجد حتى في الروايات والقصص الواقعية، مسار غير موجود في الواقع، فقط ابتدأ منه وتعرج أو استدار إلى جهة ما أثناء رواية الحكاية.
كتابات أمريكا اللاتنية في معظمها، تحتفي بالأساطير، وتفعّل الخيال بحيث يطغى على الواقع في كثير من الأحيان. كتابات بعض الكتاب الإسبان تفعل ذلك، وعندنا في بلاد العرب من يتقدم بسلاح الخيال، مفضلا إياه على الواقع كله.
أما الروايات الواقعية التي ينبغي أن تحمل شيئا من ملامح الخيال، فأعني بها تلك التي تكتب الحياة كما هي والمجتمع كما هو، فقط تضيف أحداثا جديدة لأحداث وقعت بالفعل واتخذها الروائي سمادا حكائيا، تنمو بخصائصه بذور حكايته. وأعرف مثلا كتابا دخلوا السجن لأسباب مختلفة، فكتبوا السجن وأضافوا من عندهم، أحداثا أخرى، هي منطقية في الحكي ولكن خيالية، لم تحدث قط، مع إمكانية أن تحدث فعلا. ولطالما أعجبتني كتابة السجن عند كاتب مثل صنع الله إبراهيم، بالرغم من أنني لست من قراء الواقعية الصرفة، التي لا أحس فيها بالوهج الأسطوري للحكاية، وعلى الجانب الآخر، يبدو عبد الحكيم قاسم، نشطا في الخيال السحري وهو يكتب أحداثا يمكن لبعضها أن يحدث.
لقد قرأت سيرة غبرييل غارسيا ماركيز بتأن، قرأتها كثيرا، وهي كما نعرف سيرة حقيقية لحياة عاشها ماركيز، ليرويها لنا بحياد بعد ذلك. لكني لم أستطع أن أصدق أبدا إن الخادم الغائب عن الأسرة منذ زمن، عاد في أحد الأيام، مرددا إنه عاد ليحضر عزاء الجد، بينما كان الجد ما يزال على قيد الحياة، ومات بعد ذلك بالفعل. هنا توجد سيرة فعلية بلا شك، لكن العقل الذي تعود على رش البهارات في طبخات الرواية، لن يخرج من طبخة متميزة كهذه السيرة، من دون أن يرش شيئا.
كنت إذن سعيدا برأي الطفل مؤمن، والعجوز آمنة، وليت كتاب الرواية الذين يكتبون حتى الآن عبارات مثل: عريض المنكبين، أو ذات عينين نجلاوين، أو عض على شفته من الغيظ، وكثير ا من العبارات المستهلكة، الحقيقية في تشكلها، يكذبون قليلا، لنرى إبداعا مختلفا.
كاتب سوداني

أمير تاج السر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ايمن المجالي:

    روعة

  2. يقول luqmaan Zambia:

    وددت لوكان مقالك اكثر،استمتع كل مرة واتلذذ شكرا جزيلا

  3. يقول حسن العلوي.المغرب:

    أشكرك، مبدعنا الرائع، تاج السر، على المتعة التي شعرت بها و أنا أقرأ عملك الطريف، تعاطف. أجواء عجائبية، ترتبط بلحظة الانفصال المؤلم. مودتي

إشترك في قائمتنا البريدية