«رئيس جمهورية مكة»

حجم الخط
2

 

الوسط الجديد الذي انتقل إليه النبي سنة 622 كان يختلف كثيراً عن وسط مكة. فالمدينة ـ وأكثر سكانها فلاحون فقراء ـ غير مكة صاحبة الثروة والتجارة الواسعة، وعليه فاللسان الذي كان يصلح في مكة لم يعد يصلح في المدينة، بل لم يعد مفهوماً هناك، والغاية التي أخذ يرمي إليها النبي في المدينة ويعمل على تحقيقها هي غير غايته في مكة، وفوق ذلك فإن سياسته مع المكيين قد تغيرت كثيراً في المدينة تحت تأثير عوامل جديدة ولأسباب عديدة أوجدتها الظروف وأدى إليها الاختيار وحب النبي لوطنه الأصلي وأهله وذويه، إلى غير ذلك من الانفعالات النفسية والعوامل السياسية التي ظهرت بعد موقعتي بدر وأحد وحصار المدينة، وكان من نتائجها أن النبي أخذ يلطف من سياسته نحو إخوانه المكيين؛ كما أن أصحاب السلطة في مكة رأوا ـ بعد ما أصابهم في موقعة بدر وما لحق بهم من الخسائر ـ أن يتساهلوا في أمور كثيرة مع النبي على شروط تضمن لهم بقاء الكعبة والحج وعكاظ على ما كانت عليه قبل الإسلام، وأن يشملهم بالعفو، إلا بعض أشخاص، ويشركهم في عمله الجديد الذي أخذوا يتوقعون منه خيراً لأنفسهم.
وربما كان من شروط التفاهم أن يبقى النبي في المدينة وأن لا يتعرض في كلامه لأمورهم المالية، فكانت الحديبية وكان «الفتح ونصر الله القريب» وسياسة «تأليف القلوب» (9: 60)، أو بعبارة أخرى سياسة التسامح والتساهل المتبادل، فصار الناس «يدخلون في دين الله أفواجاً» لا عن اعتقاد بصحة الدين الجديد، الذي لم يكونوا يعرفون عنه ومنه إلا الشيء القليل، بل عن رغبة في التقرب من أصحاب السلطة الجدد، وحفظاً لمراكزهم القديمة وثروتهم المجموعة في أجيال…
يخال لي أن جملة الشروط التي اتفق عليها الطرفان في الحديبية أو في مكان وزمان آخرين أن يكف النبي عن الطعن في الملا المكي، وأن لا يحرض صعاليك العاصمة الحجازية وأرقاءها عليهم، وهذا على ما يظهر لي أحد وأهم أسباب خلو السور المدنية، ولا سيما تلك التي نزلت في الدور الأخير، من العبارات القارصة والطعن في سكان مكة. وهناك سبب آخر لا يقل خطورة عن الذي ذكرناه الآن، وهو أن حالة النبي الاجتماعية في المدينة تغيرت كما هو معلوم تغيراً ظاهراً أدى إلى تغيير في نفسيته، وهذا شيء طبيعي قلّ من ينجو منه، فكان من نتائج هذا التغيير، ومن الأسباب التي ذكرنا بعضها وغيرها مما لم نذكر، أن بعض إصلاحات النبي الاجتماعية والدينية جاءت مبتورة وفيها شيء مما يدعوه الأوروبيون بالتساهل (Compromis).
ربما كان لشخصية النبي ومميزاته القومية أثر في ذلك يصعب تعريفه وتحديد مقداره، فقد عُرف عنا نحن العرب أنا ميالون إلى التطرف في كل شيء: إلى تضحية النفس وإلى الأنانية الزائدة، إلى الحب العذري وإلى التهتك، إلى الصداقة النادرة وإلى الحقد اللانهاية له، إلى التأله (Idéalisme) وإلى الشغف بالماديات، إلى الديمقراطية الحقة وإلى عبادة الشخصيات البارزة، إلى الاعتداد بالنفس وشدة الاعتماد عليها وإلى سرعة اليأس والسقوط في القنوط عند أول صعوبة نجدها في طريقنا.
من الأقوال المأثورة عند الاشتراكيين أن الإدراك أو الشعور الذاتي يتوقف على الكينونة، أي على المحيط وحالة المرء الاجتماعية، فإذا تغير المحيط أو حالة المرء الاجتماعية تغير شعوره الذاتي وتغيرت أفكاره وسلوكه إلا ما ندر. وهذا ما حمل النبي العربي ـ وقد تغيرت أحواله الشخصية في المدينة ـ أن يتبع في النصف الأخير من حياته الاجتماعية سياسة غير تلك التي اتبعها في مكة، وهي سياسة اقتضتها الظروف الجديدة وما طرأ على نفسية النبي من التغيير.
كان الدور المكي دور تمهيد واستعداد، دور بثّ دعوة جديدة بين طبقات الأمة، دور حرب ونزاع كلامي بين رجل ثابت في مبادئه مخلص في عمله، وبين طبقة من الناس شعرت بالخطر على ثروتها وزعامتها في البلاد فهبت تقاوم ذلك الرجل وتناوئه، دور جهود وأحلام لو تحققت كلها لقلبت البلاد رأساً على عقب. ما أجمل هذا الدور وما أعظمه، وما أحلى تلك الأحلام والمساعي التي بُذلت في تحقيقها! أما الدور الثاني فكان دور عمل وتنظيم، دور حروب وافتتاحات، دور سياسة ومكاشفات أدت إلى تساهل من الطرفين. ومعنى التساهل في مثل هذه الثورات الاجتماعية هو التنازل عن بعض مطالب أو مبادىء، أو التلطف في الطلب والرجوع عن بعض الأفكار أو وضعها في قالب يرضاه الفريقان، وهذا ما كان من أمر النبي العربي ورئيس جمهورية مكة الخبير المحنك الذي كان يتكلم بلسان الملأ المكي. هذا يعترف بسيادة النبي الروحية والعالمية ويهجر الأوثان ويؤدي الزكاة ويقيم الصلاة، وذاك يتعهد أن تبقى مكة مركز البلاد العربية الديني وأن يجعل لأعيان مكة وقادة أفكارها حظاً في إدارة المملكة أو الجمهورية الروحية الجديدة وأن يتركهم وشأنهم يتاجرون ويعيشون كما يشاؤون. أما الفريق الثالث وهو الطرف الذي استعرت الحرب لأجله وظهرت الدعوة لتحسين أحواله، فقد أرضوه في بادىء الأمر بشيء من الصدقات والزكاة ثم نسوه أو تناسوه بعد وفاة النبي وخلفائه الأولين، فرجع إلى حالته الأولى بل إلى ما هو أسوأ منها.
كتاب «من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام»، 1926. فقرات من الفصل الأول.

راهب المادية التاريخية

ولد بندلي صليبا الجوزي (1871ـ1942) في القدس، لأسرة مسيحية أرثوذكسية، وتلقى تعليمه الأول في كلية «دير المصلبة»، ثم مدرسة كفتين الأرثوذكسية في طرابلس، وبعدها أُرسل إلى موسكو عام 1891 لكي يدرس اللاهوت ويعود إلى بلاده كاهناً. بعد 18 سنة سيعود الجوزي إلى فلسطين بالفعل، ولكن ليس في مسوح الكاهن، بل في ثياب الأستاذ الجامعي الذي يقود فريقاً من الطلبة الروس القادمين للقيام بدراسات ميدانية في تاريخ الشرق الأوسط القديم والإسلام. كان الرجل قد صرف ثلاث سنوات في دراسة اللاهوت حين اجتذبته القراءة المادية للتاريخ، فقطع دراسة اللاهوت وانتسب إلى جامعة قازان، وتقدّم بأطروحة ماجستير ثورية في موضوعها ومنهجها: «المعتزلة والبحث الكلامي التاريخي في الإسلام».
ذلك كان الطور الأول المبكّر لولادة مؤرّخ غير مألوف في حقل الدراسات التاريخية العربية، يسخّر مناهج البحث المادية لكي يرسم صورة التواريخ الإجتماعية والإقتصادية والأسطورية والرمزية وراء التاريخ الفكري التقليدي الذي لم يكن يبدو بالغ التعقيد؛ ولكي يرى حركة المجتمع وتصارع الجماعات وراء مختلف ظواهر التراث الإسلامي والعربي، بدءاً بالمذاهب والفِرَق والحركات السرية، وانتهاء بالنصوص الدينية والمصادر التاريخية، مروراً بمسائل سوسيولوجية وأنثروبولوجية بدَتْ غريبة الوقع وغير مسبوقة آنذاك: تاريخ العائلة، الأمومة، تاريخ الأوبئة، الكوارث الجماعية…
وفي حياته العملية والأكاديمية اجتهد الجوزي كي يقرّب المسافات بين الشرق والغرب، فحاضر مراراً حول تاريخ شعوب الشرق في جامعة قازان، ثم تولّى كرسي اللغة العربية وآدابها في جامعة باكو الدولية، وكرسي تاريخ الشرق الإسلامي، ورئاسة القسم العربي بفرع أكاديمية العلوم في أذربيجان. ومثلما وضع مؤلفات تعرّف بالعرب والإسلام والمسيحية، مثل «محمّد المكّي ومحمد المدني»، و»تاريخ كنيسة أورشليم»، و»البحث في القرآن»، و»جبل لبنان ـ تاريخه وحالته الحاضرة»، كما ترجم «فتوح البلدان» و»تاريخ اليعقوبي» إلى الروسية؛ فإنه، كذلك، وضع مؤلفات تعرّف بالآخر وبثقافته وحضارته، مثل «تحفة العروس في لغة الروس»، و»المسلمون في روسيا ومستقبلهم»، كما ترجم إلى العربية كتاب ج. أ. ويلكن «الأمومة عند العرب»، و(بالاشتراك مع الدكتور قسطنطين زريق) كتاب نولدكه «أمراء غسان».
وأيّاً كانت تفسيرات هذه الأقدار العجيبة، لرحلة استثنائية قطعها فلسطيني مسيحي أرثوذكسي من شواطىء المتوسط إلى شواطىء بحر قزوين، وكانت القراءة المادية اللامعة والتجديدية للتراث الإسلامي ـ العربي هي حصيلتها الفذّة؛ فإن عبقرية فلسطين، المكان والتاريخ والهوية الحضارية، لا يمكن إلا أن تكون في صلب أيّ تفسير جادّ.

نصّ: بندلي صليبا الجوزي

  1. يقول ابو علاء:

    اصاب بتحليله شخصيتنا نحن العرب ” عُرف عنا نحن العرب أنا ميالون إلى التطرف في كل شيء: إلى تضحية النفس وإلى الأنانية الزائدة، إلى الحب العذري وإلى التهتك، إلى الصداقة النادرة وإلى الحقد اللانهاية له، إلى التأله (Idéalisme) وإلى الشغف بالماديات، إلى الديمقراطية الحقة وإلى عبادة الشخصيات البارزة، إلى الاعتداد بالنفس وشدة الاعتماد عليها وإلى سرعة اليأس والسقوط في القنوط عند أول صعوبة نجدها في طريقنا.
    من الأقوال المأثورة عند الاشتراكيين أن الإدراك أو الشعور الذاتي يتوقف على الكينونة، أي على المحيط وحالة المرء الاجتماعية، فإذا تغير المحيط أو حالة المرء الاجتماعية تغير شعوره الذاتي وتغيرت أفكاره وسلوكه إلا ما ندر.”

  2. يقول محمد الأحمد:

    رسالة سيدنا محمد كانت وما زالت من اجل إيجاد مجتمع يحترم الانسان مساويا بين الناس في الحقوق والواجبات، من اجل إيجاد نظام حياة لامة ظالة كانت وما زالت تتعثر في جاهليتها ولم تكن الدعوة سياسية او دعوة مجاملات وترتيبات للمصالح كما صورها السيد صليبا. والذي حصل إن قريش لم تنسى عداوتها للرسول فبمجرد وفاته اغتصبت قريش السلطة واعادت مجدها القديم مسيطرة على العالم الاسلامي الذي فتحته رسالة سيدنا محمد

إشترك في قائمتنا البريدية