نعم، الصورة في مصر الآن باختصار: رئيس واعد وثورة يتيمة.
وقد لا يصح تحميل الرئيس عبد الفتاح السيسي وحده أعباء ومشكلات الثورة اليتيمة.
تماما كما لا يصح افتعال تناقض لانهائي بين الثورة والدولة، فالثورة لا تدور في فراغ، والدولة في مصر حقيقة راسخة، ليس فقط بسبب تاريخ نشوئها المبكر في فجر التاريخ الإنساني، بل بسبب طبيعتها المركزية التي ولدت عليها، والتي جعلت للدولة أولوية على المجتمع في مراحل النهوض بالذات.
وقد تعرضت الدولة ـ كما المجتمع ـ لمحنة تحلل في السنوات الأربعين الأخيرة، وبعد تواري مرحلة النهوض الناصري، التي كانت آخر تجلياتها في حرب 1973، ثم كان ما نعرفه، فقد انقلب السادات على اختيارات عبد الناصر، وبدون أن يحل نظاما بديلا، بل ترك الركام محل النظام، وتقلص دور الدولة، ثم سرى فيروس الفساد والنهب العام ناهشا في بدنها، بما حولها مع مبارك إلى ما يشبه التشكيل العصابي، تساند فيه النزوع إلى النهب العام مع نزعة الكبت العام، وتحللت الدولة من التزاماتها للمجتمع، ومن دورها في بناء اقتصاد عصري إنتاجي، وتحولنا إلى حالة مملوكية تشبه ما كان قبل إعادة بناء الدولة زمن محمد علي، ومع فوارق في الطبيعة المملوكية، لا تطابق المعنى الجغرافي الذي كان عليه مماليك ما قبل محمد علي، وتوزعهم إلى مماليك برية ومماليك بحرية، بل بدت الدولة موحدة في الظاهر زمن السادات فمبارك، وظهر مماليك القطاعات السوقية من حول عائلة تحكم برداء جمهوري، وكلنا يذكر ـ مثلا ـ قرار الرئيس السادات بإلغاء هيئة الرقابة الإدارية، وقد صدر رعاية لخاطر صبي فاسد من عائلة الرئيس، ثم كلمة السادات الشهيرة «خلي بالك من اسكندرية يا حاج رشاد»، ولم يكن رشاد سوى تاجر مخدرات هارب من الصعيد، ثم تحولت القطط السمان في عهد السادات إلى حيتان في عهد مبارك الطويل الراكد، الذي انتهى بإحلال العائلة محل الدولة، ثم نشرت العائلة شبكة من مماليكها وحوارييها، انتفخت بملياراتها المنهوبة، وخلقت سلطة آمرة لما تبقى من جهاز الدولة المتداعي. ولعلها واقعة كاشفة تلك المنسوبة لحسين سالم صديق مبارك وموضع سره وخزانة ملياراته، فقد ذهب سالم إلى موظف كبير في وزارة الزراعة، وطلب منه تسهيل نزع ملكية جزيرة «البياضية» وسط النيل، وتخصيصها لمشروع سالم الفندقي، أصيب الموظف بالذعر، وقال لسالم «ما ينفعش ياباشا.. طبقا للقوانين واللوائح»، وما كان من حسين سالم إلا أن فعلها بهدوء، أعطى الموظف ورقة بيضاء صغيرة، وقال له ببساطة «اكتب لي القوانين واللوائح التي تمنع.. وسوف ألغيها لك في أيام»، وقد كان، فالقوانين المملوكية صارت أقوى من قانون الدولة، ولا حاجة لتذكيركم بكل ما جرى، فقد جرى تجريف قواعد الارتكاز الانتاجية، وسرت حالة الخصخصة التي انتهـــت إلى «مصمصة»، وتوزيع أراضي الدولة كهدايا وقطع حلوى على المحاسيب، وشــــفط السلطة والثروة في حلق العائلة، و»الخصخصة المجازية» للوظائف العامة، بحيث أصبح لكل وظيفة سعر في ســـوق النهب العام، تحولت معه الوظائف إلى «ماكينات بنوك» تدر الملايين، وبدا التحلل شاملا، فقد تحول الفساد إلى نظام يحكم، وإلى فريضة سارية في مجتمع منهك، يقر الفساد ويعترف به، ويبرره ببؤس الحال وفتاوى الأديان.
وفوق انهيار نظام القيم، وإصابة المجتمع بعدوى تحلل جهاز الدولة، فقد تعرض المجتمع لمحنة خراب أعظم، انفكت التعبئة العامة للدولة والمجتمع بعد حرب 1973، وخيانة السياسة لإنجاز السلاح، وكانت انتفاضة يناير 1977 هي آخر آهة حسرة جماعية للمصريين، بعدها، انطفأ نور الحلم الجماعي، ودخلنا في لحظة غياب ذاهل، امتدت لقرابة الأربعين سنة، مال فيها المجتمع إلى الهجرة بالجملة، الهجرة في الجغرافيا بحثا عن الرزق الشحيح، والهجرة إلى الماضي الأبعد بظاهرة العودة الدينية المعممة.
غادر المجتمع طبيعته كمجتمع، وتحول المصريون إلى غبار بشري، وساد الشعور العام مزيج مهلك من البؤس واليأس، وغابت السياسة والمقدرة على التصحيح الذاتي، وتضخم اليمين الديني، الذي خاطب بؤس الناس كجمعية خيرية، ثم خاطب يأس الناس كجمعية دينية، وأوحى اليمين الديني بأنه البديل، في حين أنه كان في وضع «القرين»، فقد استمسكت عائلة النهب العام بكراسي السلطة، وتركت لليمين الديني كراسي المجتمع، والسيطرة على تنظيمات الطبقة الوسطى، وتوزيع الفتات على الطبقات الأفقر، وكسب أصواتها في المواسم الانتخابية. وعلى نحو ما جرى بعد خلع مبارك من كرسى السلطان، وصعود اليمين الديني ـ وفي قلبه الإخوان ـ إلى السلطة، وبإيحاء «البديل» الذي تبخر سريعا، وظهور حقيقة «القرين» المختبئ في طيات الدعاية الدينية المراوغة، ثم كان ما كان، من كشف الأبصار، وعودة الناس إلى الميادين في 30 يونيو المكمل لثورة 25 يناير، فقد عبر المصريون عن قلق سياسي واجتماعي جارف، لا يستريح إلى ما هو قائم، لكنه لا يرى «بديلا جاهزا» يرد الروح، ويعيد الاعتبار للدولة والمجتمع، وهذا ما نقصده بالضبط من عبارة «الثورة اليتيمة»، فهي ثورة ولدت بلا قيادة مطابقة، وبلا حزب سياسي يصل بمعنى الثورة إلى دولاب الدولة.
والرئيس السيسي ابن الدولة بامتياز، وابن نخاعها العظمي في الجيش بالذات، ولم تكن قصة الجيش منفصلة تماما عن قصة الثورة، فقد فزعت دوائر في قيادة الجيش من تحلل الدولة وتوحش العائلة، ولم يعد سرا حكاية تقرير السيسي المبكر، الذي نصح فيه قيادة الجيش بالتحرك لحظة ترشيح جمال مبارك للرئاسة خلفا لأبـــيه، كان التصور أن يجري التحرك في المسافة من مارس إلى مايو 2011، وكان تحرك المجتمع القلق أسبق من تحرك نخاع الدولة القلق، وهو ما يفسر انحياز الجيش السريع لثورة الشعب، وهو ما بدا ظاهرا في سيرة ثورة 25 يناير 2011، وتعاظم حضوره في الموجة الثورية الأعظم لحظة 30 يونيو 2013، وبعد تبديل قيادة الجيش إلى جيل أكثر حيوية، وظهور دور السيسي المفارق لتوقعات جماعة الإخوان، وهكذا، بدا نخاع الدولة القلقة أكثر استعدادا من طلائع المجتمع القلق، وتقدم حزب الدولة الحاضر على حزب المجتمع الغائب، وآلت القيادة إلى السيسي، حتى قبل أن يتم انتخابه رئيسا بما يشبه الإجماع الوطني، وتكون ثنائية الرئيس الواعد والثورة اليتيمة.
المعنى ببساطة، أن شيئا ما ناقصا هو سبب الصدع القائم في مصــــر الآن، وســـيادة الإحساس بالتشوش وافتقاد الطريق، والسبب الجوهري لا يخفى، فلم تصل الثورة بالمعـــنى الكامل إلى السلطة، ولن تصل إلى أن تبني حزبها القادر على الفوز في الانتخابات العامة، وهذه قصـــة قد يتـــأخر اكتمالها، بينما قصة الرئيس جارية بفصــولها المتلاحقة، وطبقا لأولويات السيسي كابن للدولة، يريد تجديد حيويتها، ويواجه بعثرات التحالف المملوكي بين البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب، وشرط النجاح في مهمته ظاهر جدا، وهو تحطيم تحالف الممالـــيك، اســـتنادا إلى شـــعبية هائلة توافرت له دون غيره، وعلى ثقة الناس في صدقه ونزاهته وكفاءته، وكونه رئيســا متفرغا لعمله، وتركيزه البادي على أولـــويات بناء الاقتصاد وتصفــية الإرهاب واستعادة مكانة الدولة المصرية في محيطها وعالمها، وقد تقدم الرجــل إلى إنجازات لا تنكر، يسري أثرها، ولكن ببـــطء، يفاقم التباسات اللحظة الشائكة، فالناس يريدون انحيازا يكافئ الإنجاز، وتذويب الفوارق بين معنى الثورة ومعنى الدولة .
٭ كاتب مصري
عبد الحليم قنديل
الرئيس الواعد. 1 – مفيهش2- معنديش 3- اديكو منين 4-….