يمكن التمييز، بشيء من المجازفة، بين ثلاثة مناح شاعت عربياً، في القرنين الماضيين، وأسطرت معاش ومآل الجماعات الكتابية عموماً، والمسيحية خصوصاً، على امتداد التاريخ الإسلامي.
المنحى الأوّل يميل إلى «التأريخ بالتراضي» للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين في التاريخ الإسلامي. ومن حيله التركيز على «عربية» التاريخ حيناً، و»مدائنيته» (كوزموبوليتيته) حيناً آخر (بحسب ما تقتضيه الشهوة الأيديولوجية للأخذ في المنحى). يجعل هذا المنحى من «العهدة العمرية» اطاراً معيارياً ضابطاً للتاريخ الإسلامي ككل، ويسقط ثنائية «استعمار وتحرر وطني» على ما اشتهاه من حقبات، وخصوصاً فترة الحملات الصليبية، أي غزوات الفرنجة، ملفّقاً ذاتاً حضارية إسلامية مسيحية جامعة مانعة.
المنحى الثاني يزاول، نكاية بالأول، «التأريخ بالكيد». وهو منحى لا تاريخ فيه إلا في ظاهر الأشياء ومتفرقاتها، فلا تتبدّل عنده تطبيقات أحكام أهل الذمة مثلاً، وتبقى على حالها، وسوى ذلك استثناءات تعود فتؤكد القاعدة. تتحرّك الجيوش ثم تعود إلى مواقعها الراكزة الثابتة عند كل منعطف: «وجود مسيحي» في قبالة «وجود إسلامي».
أما المنحى الثالث، فالفضل فيه اكتشاف ضعف وهشاشة المنحى الأول، ورفض حماقة المنحى الثاني، لكنه يجعل من النسبية في تناول الأمور أمراً مطلقاً، فلا يعود بالإمكان تعيين مفاصل وتحقيب مراحل أو رصد تراكم في الزمن التاريخي، ويصير الزمن آذاك دائرياً على الدوام، دائرياً «لدواعي التهوئة»: لين تعقبه شدّة، ومظالم تنسخها فترات تسامح لا تلبث أن تنزوي في مطرحها، ضمن عبثية المد والجزر.
لكل منحى من هذا المناحي الثلاث نصوصه التراثية المفضّلة، وأرصدته الاستشراقية المباشرة أو المحوّرة، والمشترك في كل الأحوال دوام النظر إلى مرحلة الغزوات الافرنجية على أنها خشبة الحبكة الدرامية بامتياز. وهكذا، تواطأت المناحي الثلاثة موضوعياً لعدم استيعاب الطفرة النوعية في البحث التاريخي للقرن الماضي، والذي أخذ ينظر إلى فترة الغزو المغولي للشرق الأوسط، وليس حملات الفرنجة، على أنها المنعطف الأهم في تاريخ المسيحيين في البلاد الإسلامية وخروج السلبية تجاههم عن «مألوفها» السابق.
من هنا قلّة الاهتمام بآثار المؤرخ الدمشقي شهاب الدين عبد الرحمن بن اسماعيل المعروف بأبي شامة المقدسي (1202-1267)، وخصوصاً «كتاب الروضتين في اخبار الدولتين النورية والصالحية» ثم «الذيل على الروضتين»، رغم أهميتها البالغة في رصد التحول العميق في العلاقة الإسلامية المسيحية، بنتيجة الغزو المغولي أساساً، وفي مدة من الزمن قصيرة، وليس الحملات الصليبية، الممتدة لقرنين ونصف، ان لم نمدها أكثر.
بخلاف مواقف مسيحيي الديار الإسلامية المتنوعة والمتبدلة حيال الحملات الافرنجية، برزت مع الفتح المغولي حماسة مسيحية ايمانية عارمة له شملت مختلف الطوائف. وكما أطلق المؤرخون العرب في تلك الفترة تسمية «الافرنج» على الآتين من أوروبا، فقد أطلقوا، ومنهم أبو شامة، تسمية «التتار» على جيش هولاكو (هذا في حين يميز المؤرخون المعاصرون بين «مغول» هولاكو الشامانيين و»تتار» تيمورلنك المسلمين، في حين يستخدم مؤرخو الفترة تسمية «تتار» في الحالتين).
يعرّف أبو شامة «التتار» هكذا: «الكفار من الترك وهم التتار». ويتناول مسيحيو مدينته فيقول: «وقد كان النصارى بدمشق قد شمخوا بسبب دولة التتار وذهب بعضهم إلى الملك هولاكو وجاء من عنده بفرمان لهم، اعتناء بهم، وتوصية في حقهم، ودخلوا به البلد من باب توما، وصلبانهم مرتفعة، وهم ينادون حولها بارتفاع دينهم، واتضاع دين الإسلام، ويرشون الخمر على الناس وبأبواب المساجد، فركب المسلمين من ذلك هم عظيم». ثم بعد سرده معاناته الشخصية واحتفائه بانتصار المماليك بقيادة قطز في عين جالوت على المغول – التتار، يسجل بأن «من العجائب ان التتار كسروا واهلكوا بأبناء جنسهم من الترك»، ويستعرض بشغف انقلاب الحال على المسيحيين: فلما هرب التتار من دمشق «أصبح الناس إلى دور النصارى ينهبونها ويخربون ما استطاعوا منها»، و»أحرقوا كنيسة مريم حتى بقيت كوماً والحيطان حولها تعمل النار في اخشابها». هذا في حين «هموا بنهب اليهود فنهب قليل منهم ثم كفوا لأنهم لم يصدر منهم ما صدر عن النصارى».
هل رأى المسيحيون نهاية «النسق الإسلامي» يوم غزوة المغول ولم يروها مع غزوات الفرنجة؟ تبقى هذه الفرضية حساسة وخطيرة وجزءا من تاريخ «انتظار مسيحي لنهاية الإسلام» لا يزال الشغل البحثي عليه في بداياته.
اللافت هنا، ان المؤرخ الاسرائيلي ايمانويل سيفان، ومع قبوله بأن الانعطافة المفصلية بين المسلمين والمسيحيين الشرقيين حدثت خلال الاجتياح المغولي، إلا انه رصد، (في مقالة له عام 1967 حول «وضع المسيحيين في الحقبة الايوبية») في تاريخ أبي شامة نفسه، لتدهور سابق على الاجتياح المغولي بسنوات قليلة، وتحديداً مع انتقال الصليبيين، وخصوصاً ملك فرنسا لويس التاسع، إلى محاولة غزو القاهرة من بعد دمياط، قبل وقوعه بالأسر في المنصورة. عندما وصل نبأ أسر «سان لوي» إلى الشام، دخل «الناس كنيسة مريم بفرحة وسرور ومعهم مغاني ومطربون فرحاً مما جرى وهموا بهدم الكنيسة»، وهو ما لم يحصل لتدخل السلطات، أما «النصارى ببعلبك فسودوا وسخموا وجوه الصور في كنيستهم حزناً على ما جرى على الفرنج، فعلم بهم الوالي فجناهم جناية شديدة، وأمر اليهود بصفعهم وضربهم واهاناتهم».
٭ كاتب لبناني
وسام سعادة
من الجميل معرفة ذلك من الباحث الاستاذ ، ولكن لا اعتقد ان هناك أهمية كبيرة في تفسير اي شيء راهن ، بل على العكس قد تحتمل قدر من الخطورة والمخاطرة في الانزلاق اكثر ، خاصة ان المزيد من الشباب العربي لا يفرق بين الهوية الثقافية والأنتماء الديني لما فيه من غواية للتحول الى هوية ثقافية بالرغم ان تاريخ البشر مليء بالأمثلة والدلائل على المأزق والازمة التي وقعت فيها كثير من الشعوب بسبب ذلك ، الانتماء الديني سيكون خطيئة كبرى اذا تحول الى هوية ثقافية .
الدولة القومية الحديثة هي مرحلة تحول كبيرة في تاريخ البشر قد لا تتقاطع كثيرا مع كثير ( وليس كلها بطبيعة الخال ) من المراحل السابقة من تاريخهم. في هذا السياق ما حدث للعرب ( على اختلاف دياناتهم وطوائفهم ) امر في غاية البساطة : الإمبريالية الغربية و اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة ، وإلا لاستطاع العرب ان يكونوا مجموعة قومية موحدة في بقعة جغرافية مشتركة على اختلاف وتعدد الأديان والطوائف ، تماما مثل الألمان او الفرنسيين او الأمريكيين او الصينيين او الهنود او الأتراك.
تناول دور المسيحيين العرب او غيرهم من غير المسلمين خارج هذا الإطار تحتمل الوقوع في مطبات كبيرة ، تساورني في بعض الأحيان قناعة وفكرة فيها شيء من الرهبة ، وهي ان المسيحيين العرب والدروز وغيرهم من الأقليات تقع عليهم في هذه المرحلة الصعبة التي تمر على بلادنا وشعوبنا مسؤولية تاريخية كبرى في الوقوف والتمسك بهويتنا الثقافية العربية ، ليس فقط لان هذه الارض هي بلادهم وفيها مصيرهم ومصير ابنائهم ( الأب عطا الله حنا والأب نداف على سبيل المقارنة ) ولكن ايضا للوقوف بجانب اخوانهم وأصدقائهم من الأغلبية المسلمين العرب في الأزمة والمحنة التي يمروا بها في الحفاظ على ما تبقى من المشترك بينتا ، بالرغم انها مهمة كبيرة وشاقة الا انه ان نجونا نجونا جميعا وإلا فالغرق للجميع ..
من الجميل معرفة ذلك من الباحث الاستاذ ، ولكن لا اعتقد ان هناك أهمية كبيرة في تفسير اي شيء راهن ، بل على العكس قد تحتمل قدر من الخطورة والمخاطرة في الانزلاق اكثر ، خاصة ان المزيد من الشباب العربي لا يفرق بين الهوية الثقافية والأنتماء الديني لما فيه من غواية للتحول الى هوية ثقافية بالرغم ان تاريخ البشر مليء بالأمثلة والدلائل على المأزق والازمة التي وقعت فيها كثير من الشعوب بسبب ذلك ، الانتماء الديني سيكون خطيئة كبرى اذا تحول الى هوية ثقافية .
الدولة القومية الحديثة هي مرحلة تحول كبيرة في تاريخ البشر قد لا تتقاطع كثيرا مع كثير ( وليس كلها بطبيعة الخال ) من المراحل السابقة من تاريخهم. في هذا السياق ما حدث للعرب ( على اختلاف دياناتهم وطوائفهم ) امر في غاية البساطة : الإمبريالية الغربية و اتفاقية سايكس بيكو المشؤومة ، وإلا لاستطاع العرب ان يكونوا مجموعة قومية موحدة في بقعة جغرافية مشتركة على اختلاف وتعدد الأديان والطوائف ، تماما مثل الألمان او الفرنسيين او الأمريكيين او الصينيين او الهنود او الأتراك.
تناول دور المسيحيين العرب او غيرهم من غير المسلمين خارج هذا الإطار تحتمل الوقوع في مطبات كبيرة ، تساورني في بعض الأحيان قناعة وفكرة فيها شيء من الرهبة ، وهي ان المسيحيين العرب والدروز وغيرهم من الأقليات تقع عليهم في هذه المرحلة الصعبة التي تمر على بلادنا وشعوبنا مسؤولية تاريخية كبرى في الوقوف والتمسك بهويتنا الثقافية العربية ، ليس فقط لان هذه الارض هي بلادهم وفيها مصيرهم ومصير ابنائهم ( الأب عطا الله حنا والأب نداف على سبيل المقارنة ) ولكن ايضا للوقوف بجانب اخوانهم وأصدقائهم من الأغلبية المسلمين العرب في الأزمة والمحنة التي يمروا بها في الحفاظ على ما تبقى من المشترك بينتا ، بالرغم انها مهمة كبيرة وشاقة الا انه ان نجونا نجونا جميعا وإلا فالغرق للجميع ..
شكرا للكاتب لأنه قال وكتب الحقيقة. ولكن بنفس الوقت يكشف هذا المقال كم هو مزيف التاريخ الذي علمونا في المدارس. المسيحيون انتمائهم الاساسي ديني والعرب كذلك. ولأن بوصلة المسيحي هو الغرب المسيحي كما أن بوصلة العرب المسلمون هو الكعبة وشبه الجزيرة العربية منشأ نبي هذه الامة فلن تكون هناك أبدا مرحعية حضارية واحدة
السيد احسان لاذقاني ولماذا لا تكون بوصلة المسيحيين القدس الشريف كما المسلمين بوصلتهم مكة.لا يزال البعض يغرد كما يريد وينسى دور المسيحيين في تنوير المنطقة ثقافيا بعد ان كانت تغفو في الظلام .من اسس اول المطابع والصحف في المنطقة من هم القادة الحقيقيين لمنظمة التحرير الفلسطينية من هم رواد الفكر القومي العربي من هم علماء اللغة العربية اليس اغلبهم مسيحيين
لمسيحيون في المشرق تعرضوا منذ السيطرة الإسلامية لفترات متقطعة من التضييق وذلك حسب المناخ الشعبي وحسب توجه السلطة الممثلة بالخلفاء أوالأمراء أوالولاة، حسب معرفتي المتواضعة كانت السنين التي سبقت الغزو المغولي فترة تعرض فيها المسيحيون في العراق والشام لتضييق شديد، لذلك من الطبيعي أن يفرحوا بالغزو، وخاصة أن المغول في تدميرهم وتخريبهم للمدن التي غزوها قد استثنوا الكنائس والأملاك النسطورية خاصة والمسيحية عامة، بسبب تأثير من زوجة هولاكو النسطورية، أو على الأقل هذا ما ذكر في بعض المصادر، وبالنسبة للغزوات الصليبية فقد ترافقت مع مجازر لم تستثني مسيحيي الساحل السوري، وربما اختلف الموقف اتجاه الصليبيين باختلاف الطوائف المسيحية ولم يكن واحدا، وخاصة في ظل الاختلافات المسيحية المسيحية التي سادت تلك الفترات، ما أقصده هنا أن هذه المواقف والأحداث كانت تخت تأثير عوامل قصيرة المدى بشكل رئيسي، وأن الأحداث تحركها ظروف راهنة في حينها، وغالبا ما تتلون بطابع (أزلي) معين ولكن هذا الطابع أو المنحى ليس هو المحرك للأحداث مع عدم إنكار تأثيره أحيانا.